يستعيد عبوره المكترث للجسر القديم الذي يصل بين جزيرتين تطمحان
لتكوين بلد هي الأصغر في خريطة العرب.
جزيرتان. وصفتُ الجسر بينهما ذات نص، بأنه يصل بين ميمين:
( ميم الحسرة وميم المرارة)
يقف قبالة الزرقة التي ترافق العابر الصغير من حافة المحرق إلى
شرفة المنامة. زرقة مزخرفة بالمراكب. كان الطفل الذي يتجاوز السادسة
بقليل معتمداً على ركبتيه في المقعد
الخلفي المستطيل بالحافلة الخشبية، واضعاً ذقنه على حافة النافذة، محصوراً بجسده
الضئيل بين والده وراكب آخر تدثّر بأكثر الملابس دفئاً فأخذ حيزاً يكفي لاثنين.
كان منتصباً متشبثاً بحافة النافذة لتفادي اهتزاز الحافلة الخشبية التي تستجيب لكل
تضاريس الشارع بإخلاص،
مصدرة ضجيجاً يكفي لإيقاظ طبقات
الإسفلت حتى أحجار الجسر
القديمة. وبدا أن الطفل قد أوشك على نسيان نفسه وهو يطلق أحداقه واسعة
في هذا الماء اللانهائي الذي يرافق الحافلة
من الجانبين، يرسل بصره كمن يرى العالم بأكمله.
حين توقفت الحافلة عند مدخل الجسر في صف العربات الأخرى منتظرة
دورها للعبور، يلاحظ عدداً من المراكب تتجمع
على الجانبين، يلفت نظر والده للخليط المتنافر من السفن،
خصوصاً تلك التي تنتصب صواريها عالية.
(لماذا
ننتظر كل هذا الوقت يا أبي؟).
فيخبره الأب بأن وقت فتح الجسر قد أزف الآن لكي تعبر السفن. (كيف يمكن لهذه المراكب أن تمر
تحت الجسر الذي يكاد يلامس سطح البحر؟). فيعرف من الأب بأن ثمة رجالاً
سيعملون الآن على فتح الجسر ليتاح للسفن أن تعبر إلى الجانب الآخر من الخليج.
طاقة الطفل على التخيل تتساءل :
- كل هذا الحديد والأسمنت يجري تحريكه
بالأيدي؟.
شعر الأب أن شك الطفل سوف يمس مصداقية رجل مثله
:
- يجب أن ترى ذلك بنفسك.
- هل يمكن ذلك يا أبي؟.
أمسك الأب رسغ طفله الذي يتصنع فضولاً أكبر من عمره،
وترك الحافلة مستأذناً من السائق بأنه
سيقوم مع ولده بإلقاء نظرة على المشهد عن كثب. سوف ننتظر هنا على السور حتى يبدأ
العمل. ثمة عبور مزدوج يحدث هنا يومياً علينا أن نرقبه
بأنفسنا لكي نصدّق أن الأمر يحدث بالفعل. أجلس طفله في مواجهة البحر، وجلس بجانبه،
وأرخيا سيقانهما ناحية البحر. وبعد دقائق كانت العربات قد عبرت، وبقيت ثلاث عربات
صادف أنها وصلت متأخرة بعض الوقت، وعليها أن تنتظر حوالي ساعة واحدة لكي يتأكد
الطفل أن هذا الأمر يحدث بالفعل.
برزت ثلة من الرجال الأشداء يحملون مفتاحاً كبيراً أخذوا
يثبتونه في موقع ما في منتصف الجسر بشكل جانبي. وما إن لمح سائقو العربات ذلك حتى
أخذوا يتركون عرباتهم وينادون الركاب الذين يرغبون عادة في اختصار انتظارهم. وإذا
بعدد أكبر من الرجال يتجهون ناحية الرجال الأشداء، ومفتاحهم الكبير في منتصف الجسر
لمعاونتهم على إدارته. التفت الأب ناحية الطفل:
- هل رأيت؟ هذا ما يسمونه (فزعة
الجسر). انه العمل الجماعي الذي سيقوده دائماً شخصان معروفان للجميع،
(علي بوتاكي) من المحرق و(سلمان) من رأس الرمان ناحية المنامة، وكلاهما يتميزان
بقوة جسمانية ظاهرة. ويشاركهما من يصادف وجوده على الجسر.
انتظرني هنا، سأذهب لكي أشارك الآخرين في فتح
الجسر.
راقبنا ولا تترك مكانك.
تواجه الرجال في صفين متقاطعين يمسكون بأطراف المفتاح المثبت في
أرضية الجسر، وأخذوا يطلقون أهزوجة تنظم حركتهم في إيقاع واحد رتيب ومهيب. ويدورون
في ما يشبه حركة الحلزون الدائرية
على شفير جسر أخذ ينفرج ببطء شديد ولكن بثقة، كأنهم يعرفون ما يفعلون، فيما يأخذ
الجسر بالتحرك في شكل انحراف كامل مفسحاً ما يكفي لمرور السفن. وفي الوقت نفسه
انفرجت أسارير الطفل، وهو يراقب الجسر الضخم يستجيب لقبضات الرجال الذين كانوا
يفعلون ذلك بحركة لا تخلو من المرح. إنهم يزيحون كتلة الحديد والأسمنت التي
كانت تعبر عليه كل تلك العربات يومياً، وهو ينشق ويتسع شيئاً فشيئاً، ليتأكد له أن
وقوف تلك السفن بصواريها العالية ليس انتظاراً عبثياً، ففي الأمر شيء من الجدية،
وإن والده كان يعرف ما يقول حقاً، وها هو بالفعل يشارك في تحقيق تلك الفسحة الرحبة
التي بدأت تسع أكبر الفلك لكي تواصل سفرها في الجانب الآخر من البحر.
وبالفعل بدأت السفن بالتململ وهي تعدّل من موقعها متجهة، في صف
طويل لتعبر معبرة عن شكرها لأؤلئك الرجال، بالصوت والإشارات اليدوية
الصادرة من بعض البحارة. أما السفن البخارية فقد بدأت تطلق صفيراً جهورياً
تحية للسواعد المفتولة التي وقف أصحابها مستندين إلى
سور الجسر الجانبي لأخذ قسط من
الراحة واستعداداً لجولة ثانية ستكون أكثر حيوية
وتفاعلاً، حيث سيهزجون بأسرع من
الأهزوجة السابقة، فقد أنجزوا عملاً مذهلاً بالنسبة لطفل يرى الأمر يحدث أمامه
للمرة الأولى.
لقد كان يعتقد بأن
الجسر وضع ثابتاً لعبور العربات، وهاهو الآن يرى بأنه جسر لا يمنع السفن عندما
ترغب في العبور هي الأخرى. الجسور الطيبة هي التي تنقل الناس دون أن تمنع البحر
ولا تقطع السفن.
عندما عاد الأب كان الصهد الخفيف يرطّـب جبينه وفوديه
:
- هل صدقت، إن هذا يحدث كل يوم؟.
أمسك الأب بيد ولده المهتاج لفرط التجربة، وعاد به إلى الحافلة،
التي بدأت تدير محركها استعداداً لمواصلة الطريق إلى المنامة. تأمل الطفل الزرقة
بأحداق تتسع من الدهشة، وأخذ ينهال على والده بسيل من الأسئلة عن
أولئك الرجال الأشداء الذين حملوا المفتاح الكبير. هل هذا عملهم
الوحيد؟ وكيف يحدث أن يشارك أصحاب العربات والركاب في تلك العملية دون أن يكون ذلك
عملهم؟ ثم ما هي الأغنية التي كنتم ترددونها أثناء العمل؟ وهل من بين كل هؤلاء
الرجال الشخص الذي بنى الجسر؟
التفت الأب نحو طفله البالغ الفضول، وافتر ثغره عن ابتسامة تعني
إن اختزال كل هذه الأسئلة، يستدعي اختصار تجربة إنسانية كاملة في ثلاث أو أربع
كلمات. وكان الأب يرقب في البدء منذ أيام الغوص
الأولى، تلك الحكاية التي لا يمل من تكرارها، فشعر الطفل بأن الأمر سوف يأخذ منه
ثلاث ساعات إضافية للإصغاء إلى قصة
سبق أن سمعها مئات المرات لكي يدخل بها الأب، بعد
كل ذلك، إلى حكاية الجسر. فأدار الطفل رأسه،
متنازلاً عن فضوله، ففهم الأب مغزى ذلك.
ماذا أفعل لك؟ إن كل قصص حياتنا تبدأ من هناك.
عليك أن تؤجل الأمر بضع سنوات لكي تعرف كل شيء بنفسك.
كانت الحافلة الخشبية قد وصلت إلى نهاية الجسر من ناحية
المنامة، حيث سمع مساعد السائق ينادي (رأس الجسر؟).
ورنّت في أذنيه أهزوجة الرجال، وهم يديرون المفتاح الأعظم في
منتصف الجسر:
(اشلون جيّم الجسر
آيّـه على وظيفتي
وظيفتي
إميه وعشر ..)
سمع الأب ما يستعيده الطفل في ذاكرته، فابتسم لأن طفلاً في
هذه
السن يريد أن يذهب إلى التجربة باكراً إلى هذا الحد.
لا بأس، ما عليك إلا أن تنتظر،
و إذا لم تذهب إلى المستقبل،
فإنه يأتي إليك،
لأنك تعبر الجسر إليه أينما وجهت وجهك.
*** |