ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 

(قوتْ لا تموتْ)

يلثم وجهي بقبلة حسبتُ أنها الجنة

أبكر دروس الحياة تلقيتها في سن مبكرة، أنني أتذكر تفاصيل تلك الصورة التي تجسدت أمامي لحظتها، وهي صورة تتماهى الآن مع ما يمكن وصفه بشهوة استعادة الطفولة التي تعرضت لدرجة كبيرة من الاختزال، حتى أنني لست متيقناً ما إذا كنت طفلا في وقت ما، أم أن ذلك كان حلما.

نشأتُ في بيت ينهمك جميع أفراده في عمل متنوع ومتواصل. عمل من أجل توفير الحد الأدنى من أسباب العيش. ففي تلك الفترة (نهايات النصف الأول من القرن الماضي) كانت الحياة في البحرين صعبة وغير كافية، لكون المجتمع الفقير يخرج وقتها من مرحلة الغوص، محملا بكل أعباء ذلك العمل الشاق الذي لا يختلف عن السخرة إلا بكون البحارة يتعرضون لضرب من الاستغلال المركب الذي يجعلهم يضاهون الرقيق. وما إن يخرج الفقراء من مرحلة وهم اللؤلؤ حتى يتعرضون لوهم أكثر فداحة يتمثل في مرحلة وهم النفط، لكي يكتشفوا أنهم في براثن استغلال جديد. يعمل التجار وشركات النفط على شفط دم العمال ونفط الأرض معا. وهذا ما سيمهد سريعا لنمو وتفاقم مشاعر الغضب الشعبي التي ستؤدي إلى انتشار نضالات شعبية ستعصف بالبحرين والمنطقة منذ أوائل الأربعينات. في خضم تلك التحولات كانت الطبقات الشعبية مرشحة دائما لمعاناة عظيمة ستدفع جميع العائلات للبحث عن مصادر الرزق بكل الوسائل الشريفة. وهذا ما يجعلنا نصادف ظاهرة انهماك أفراد العائلة جميعهم بالعمل، ليس الرجال والصبيان والأطفال فقط، بل والنساء خصوصاً.

عندما وعيت تلك الحياة كنت في السابعة من العمر تقريباً، واعتدت على سماع أبي يردد مقولته المألوفة، فيما هو يصف سعيه اليومي لتوفير لقمة العيش، فقد كان يقول لنا أن كل ما يستطيع تحقيقه في هذه الحياة يختصره المثل الشعبي المعروف (قوت لا تموت). مستطرداً في تعليق غامض: أنهم (دون أن يفصح عمن يقصدهم بذلك الضمير الغامض) لا يريدون لنا أقل أو أكثر من ذلك. يريدوننا أن نعمل كعبيد مستسلمين، وفي نفس الوقت لا يتركوننا للموت من الجوع، لكي نكون دائما على شفير الحياة والموت معا).

كان أبي يردد ذلك كمن يحصن نفسه ويدربنا على مستقبل أكثر ضراوة. وهو الذي كان يجرب احتراف كافة أشكال المهن من البحر حتى الحديد. ومعه كان يعمل رجال العائلة، كل منهم على طريقته ومهنته. كانت نساء العائلة ينهمكن طوال النهار والليل في مشاغل ومهن مختلفة داخل الدار وخارجها، يبتكرن الأسباب لتوفير بعض الدعم لمصادر العيش. ولا ينبغي التقليل من أهمية دور عمل النساء في مجابهة مقولة (قوت لا تموت)، وأحيانا سيكون عملهن عنصراً حاسماً في الحصول على لقمة الحياة، خصوصاً في تلك الفترات التي يتعرض فيها الرجال لما يشبه البطالة والجلوس في الدار، مثل الليوث في انتظار الطرائد الناجزة.

في تلك السن كنت أرقب حوش بيت العائلة الكبير وهو يتحول إلى خلية نحل منذ الفجر حتى المساء. كانت جدتي تربي في حظيرة داخل الدار بقرتين تدران بعض اللبن ومنتجاته، وإحدى عماتي تعمل بالأجرة في تطريز الملابس النسائية بالقصب المذهب بأدوات يدوية على طوق خشبي تشد عليه قطعة القماش وتسهر عليها، والعمة الأخرى تشتغل بأجر شحيح في مهن مختلفة، من بينها مشاركة نسوة الحي في حياكة الخيوط المذهبة على أصابع اليد (يسمى الكورار) للملابس والعباءات النسائية، إضافة إلى عملها غسالة عند عائلة أخرى. وكانت والدتي توظف معرفتها في العمل على آلة خياطة تقليدية لتخيط بعض الملابس لأهل الحي مقابل بعض الدراهم النادرة، وهو العمل الذي شاركتها فيه شقيقتي الكبرى التي تركت الدراسة مباشرة بعد ثلاث سنوات تقريبا.

في تلك الورشة المنهمكة في الشغل من أجل (قوت لا تموت)، كانت أشياء كثيرة سوف تعتبر ضرباً من لزوم ما لا يلزم في نظر العائلة. بل أن ثمة أموراً ستكون ترفاً لا يجوز التفكير فيه. وربما ضغطت حالات الضنك على العائلة للتنازل عن بعض الضروريات أحيانا. لكن من أين لطفل في السابعة أن يدرك، من غير لحظة صادمة، معنى الترف تحت وطأة شرط (قوت لا تموت).

أذكر أن أياما كانت تمر على العائلة تجد نفسها، من غير أن تدرك، تشارك أبقار الجدة في علفها، وكان ذلك يحدث بقدر من براءة الفقر، كما لو أنه الأمر الطبيعي، ربما لفرط العلاقة (الحيوية) بين أفراد العائلة والبقرات الطيبات. فعند جلب شوالات علف البقر المكون عادة من نوى التمر، ننشره في حوش الدار ونبدأ في تنقيته من الشوائب، ومن بين هذه الشوائب سوف نصادف دائما بعض التمرات اليابسة المتبقية بين النوى، فنقوم بجمع هذه التمرات وغسلها، ثم تقوم جدتي بتحميصها لنا ببقايا الزيت المستخلص من زبدة البقر، الأمر الذي يوفر لنا وجبة لذيذة ومغذية سوف يزاحمنا عليها أبي وعمي في جو من المرح الذي لا ينسى. مما يجعل يوم إحضار علف البقر مناسبة (عائلية) مشحونة بالبهجة.

كل ذلك المشهد من شأنه أن يكون درساً شاملاً لا تنساه الذاكرة، غير أن لحظة الدرس الشخصي الذي أذهب إليها هنا هي في انتظار عودة والدي من يوم فادح.

كنت في سنتي الدراسية الثانية على ما أذكر. داخلاً الدار لأذهب مباشرة لأبي معلنا عن رغبتي في استبدال نعلي القديم بحذاء أبيض يلبسه معظم زملائي في الفصل. ولم يكن ينقص والدي في ذلك اليوم إلا أن يسمع ابنه الوحيد والمدلل يطلب حذاء. وهو أمر سيكون بمثابة الانتقال التاريخي من مرحلة النعل إلى مرحلة الحذاء، انه حدث جدير بالذكر حقا. المشكل أن توقيت طلبي لم يكن مناسباً على الإطلاق. ساعتها لم أكن أدرك الأمر، وقد عرفت فيما بعد، أن والدي كان قد عاد ذلك اليوم بعد نهار فاجع من البحث عن عمل دون فائدة، أكثر من ذلك أن ديناً من تركة أيام الغوص لا يزال بعضهم يطلبه من أبي بالحاح صارم، في حين كان زاد العائلة  يوشك أن ينفد. أي أنني جئت لكي أضع الملح في الجرح و أضاعف معاناة والدي.

صعق الطفل بانفجار البركان بين يديه، حيث دوت صرخة الوالد في أرجاء الدار كأنه يستجير بالسماوات لكي تنقذه من هذا العذاب الذي لا يحتمل. ولم أفهم، لفرط المفاجأة، سببا آخر، سواي، لانفجار الأب. فركضت مذعورا ليتلقاني حضن والدتي مدركة ما يحدث. كان الجميع يعرف غضب والدي الذي سرعان ما يتحول إلى نسمة رقيقة بعد لحظات قليلة، غير أن غضب ذلك النهار كان مختلفاً. كان نهاراً بحاجة لليلة كثيفة من المشاعر لكي يكون الحب أكثر صلابة من الحياة والدرس على آخره.

كانت العائلة الكبيرة تهدأ في مراقدها في منتصف ليل مشحون بالقلق، كل في غرفته. نحن في الغرفة الصغيرة. والدي وحده على سريره المتواضع، ووالدتي وأنا وشقيقتي الكبيرة على الأرض. لم يدركني نوم أبداً. وكنت تقريباً أسمع دقات قلب والدي والنبض المتسارع في أوردة القلب المتوهج في صدر أمي. فإذا بي أسمع حركة أمي في الظلمة الغليظة وهي تفتح صندوقها الصغير تحت سرير الوالد ثم تزحف نحو رأسه تسمعه همساً يضاهي التضرع، تبينت تدريجياً أنها كانت تقدم له شيئا من النقود التي جمعتها من عملها في الخياطة من أجل أن يأخذني في اليوم التالي للسوق ليشتري لي الحذاء المطلوب : (انه ولدنا الوحيد، نحن تعودنا على حالة العوز، لكن لا تكسر قلب ولدك يا محمد).

( .. يا محمد) ؟

لم اسمع أمي تنادي أبي باسمه مجرداً قبل تلك الليلة على الإطلاق. هذه المرة الأولى التي أشهد العلاقة بين أمي وأبي بهذا الوضوح والمباشرة والصرامة والحب في لحظة واحدة. وكان على أن أصمّ أذني لكي لا أسمع الاضطراب المتسارع لدقات قلب أبي وكلماته التي كانت تشبه النشيج وهو يتلعثم ببعض كلمات غامضة. ولكي يكتمل ذلك الموقف محفوراً في الذاكرة، لن يعرف أبي نوماً قبل أن يقترب مني، معتقداً أنني في النوم، ويلثم وجهي بقبلة حسبتُ أنها الجنة.

وكأن ذلك لم يكن كافياً أيضاً.

فالدرس سوف يكتمل في الصباح، حيث سيفاجأ والدي بشقيقتيه قد جمعتا مبلغاً من دخلهما الشحيح وكلفتا الجدة، التي أضافت إليه شيئاً من صندوقها القديم، بتسليمه إياه من أجل أن ينال الابن الوحيد الحذاء الأبيض الذي يحب.

لقد كان الدرس على درجة من الفداحة بحيث شعرت للمرة الأولى بأن الذهاب إلى المدرسة سيظل يشكل عبئاً وسبباً دائمين لمضاعفة تكاليف حياة العائلة. أقول كان درساً فادحاً لأنني بالفعل بدأت منذ تلك اللحظة أنطوي على ضغينة غير معلنة تجاه الدراسة. ترى هل كنت أعبر عن كفايتي بذلك الدرس المبكر والقاسي لكي أتفادي أية دروس أخرى؟.

ومن يومها كنت قد تهيأت، لاشعورياً، للانهماك المبكر في الحياة العملية، بلا توقف طويل في طفولة غامضة وصبا مختزل، لكي أجد نفسي دائماً في منعطفات تجربة الحياة ذات المشاغل الجادة. وبدأت مبكرا مشاركة والدي في تحمل أعباء حياة العائلة، محاولاً أن أفهم معنى تجاوز حالة المثل الشعبي القاسي: (قوت لا تموت).

****

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى