غرفٌ كثيرة في بيت كبير،
نشأ الطفل على عادة التنقل بين الغرفة والأخرى
منبهراً مغموراً بالروائح الحميمة التي تتميز
بها كل غرفة.
هذا هو مكان الطفولة الأول.
كل حجرةٍ مكانٌ.
للغرف في
البيت التقليدي الكبير طقوس غامضة أحياناً، كأننا
لم نكن قادرين، آنذاك، على إدراك سر الخصوصية التي
تتميز بها كل غرفة في ذلك البيت. كنت في السنوات العشر الأولى من العمر عندما انتبهت
إلى الحب الذي يتسابق أفراد الأسرة
على غمري به. لقد كنت الولد الأول للأسرة.
حتى إنَّ كل واحدة من نساء العائلة تحرص على أن أبيت في غرفتها
ليلة من ليالي الأسبوع، غير أن جدتي بسبب كونها
الشخصية الرئيسة في العائلة كانت تستفرد بحبها الأشهر لي،
وتستحوذ على العناية بي إلى الدرجة التي
كانت تثير غيرة الأخريات بما فيهم أمي.
غرفة الجدة هي أهم وأكبر الغرف في البيت بلا جدال.
مجرد الجلوس تحت سقفها يضفي
أهمية خاصة على الحضور.
وأذكر أن والدي لا يحلو له
الجلوس إلا في
تلك الغرفة. وفي
الشتاء خصوصاً تكون السهرات حول المجمرة
بعد العشاء لحظات لا تضاهى.
يجلس أبى في مواجهة المجمرة،
ويبدأ في دفن حبات الكستناء التي يهتم
بجلبها معه من السوق، ويحرك حولها الجمرات المتوهجة.
فتبدأ الكستناء
بإصدار تلك الفرقعة التي تشي بأنها على وشك النضج. ثم يخرجها
بالملقط المعدني الذي يكون قد صنعه هو
بنفسه في مستهل
الشتاء. فهو يعتني بصنع ملاقط
جديدة لمجامر الدار أول كل شتاء. وهذا الحال ينطبق
على أدوات كثيرة مختلفة يجري
استخدامها في البيت، يهتم والدي
بتجديدها بشكل موسمي دائم قبل أن تبلى، هذه ميزة بيت الحداد.
في غرفة
الجدة ثمة صندوق قديم من خشب الساج الهندي المزين بصفائح النحاس.
صندوق من ذلك النوع التقليدي الذي يسمونه (المبيت). وهي تسمية لا أدرك بالضبط
القصد المحدد منها، غير أنه
لفرط عناية الناس باقتناء أجمل وأجود أنواعه،
ولكونه أحد أهم مقتنيات الدار البحرينية،
فهو غالباً يكون في قلب أهم غرف
الدار، ويحتوي عادة أغلى الممتلكات وأهمها
وأكثرها حميمية وسرية. وربما لهذه الأسباب مجتمعة (يبيت)
دائما أقرب إلى ربة البيت في غرفتها الأثيرة.
يحلو أن أفهم تلك التسمية من عادة
مبيت الصندوق في الركن الحميم من الغرفة.
في صندوق الجدة، الذي عهدته في
ذات المكان منذ وعيت، عادة ما كنت أشعر بأن ثمة
حديقة سرية تحتفظ جدتي بغموضها
هناك. لم أعرف من قبل حديقة يمكن
أن تنبت في صندوق. أيامها كانت الفاكهة فاكهة حقاً
على اسمها. وفي العائلة الفقيرة يشكل حضور الفاكهة في الدار حدثاً
استثنائياً لا يمكن تفادي الشعور إزاءه
بالغبطة الشفيفة.
من الطرائف المرتبطة بالفاكهة في
العائلة، أن الوالد قد اعتاد على تقشير حبات التفاح بمدية
خاصة يحتفظ بها عادة في جيبه،
(وأذكر أنها السكين الوحيدة المستوردة في الدار من خارج صناعة الوالد) وهي مدية من
النوع الذي يمكن طيه.
إذن فهو يقشر التفاح بحجة أنه لا يقوى على قضم التفاحة
بقشرتها
السميكة، وفيما أكون جالساً بجانبه
منتظراً شريحة صغيرة، سرعان
ما ينصحني بتناول قشرة التفاح المتجمعة في الصحن متذرعاً
بأن لقشرة التفاح فوائد صحية بسبب القيمة
الغذائية في القشرة، وأنه
يحب طعمها لولا أن أسنانه لا تساعده على قضمها. وقد اعتدت على ذلك لدرجة
أنني وقتها لم أكن أكترث بلب التفاح قدر شغفي بالقشرة. وفي مستقبل الأيام عندما
سأعرف من المعلومات العامة أن القيمة الغذائية للتفاح تتركز في قشرته، سوف أبتسم
متذكرا نصيحة الوالد المبكرة.
وعودة لحديقة الجدة، فمن
بين أصناف الفاكهة التي يجلبها الوالد،
سوف تنتخب الجدة أكثر حبات الفاكهة صحة وقدرة على البقاء، وتخزنها بعناية فائقة في
صندوقها الأثير في الركن المعهود بحجرتها،
حيث لا يصل إليها أحد سواها.
فذلك الصندوق لم يعتد أحد غير الجدة على فتحه إلا في السنوات الأخيرة لحياتها،
ولكن دائما بمعرفتها.
في الأيام التي تشح الفاكهة ويندر وجودها في البيت، وهذا يحدث
كثيراً، سوف تبقى تلك الذخيرة مثل خزانة الذهب. وعندها سوف يعرف الجميع المحبة
التي أتميز بها عند رئيسة البيت.
ففي ليالي الشتاء، وبدايات السهرة،
سوف يلتفت البعض بغمز واضح الدلالات، هامسين بسؤال طريف: ترى ألم تثمر حديقة
الصندوق فاكهة هذه الليلة؟
ثم يلتفتون ناحيتي قائلين: هيا،
ألن تذهب إلى الحديقة هذه الليلة؟
وعندها سوف تبتسم الجدة ابتسامة ذات معنى. وتنهض وهي تومئ
لي كي أتبعها. وتذهب بي إلى غرفتها وتفتح الصندوق، الذي انتظرت بضع
سنوات لكي أستطيع النظر إلى داخله، لفرط ارتفاعه عن الأرض، فتلك الصناديق عادة ما
تكون مثبتة على أربع قوائم خشبية
ترفعه عن الأرض، حماية له من الحشرات والقوارض، وصيانة
له من رطوبة الأرض، و ربما، من
عبث الأطفال وفضولهم.
تنحني الجدة في جوف الصندوق برهة وترفع رأسها حاملة بضع حبات من
التفاح والموز والبرتقال، وتدفعها في حضني لكي أعود راكضاً
بها إلى أبي الذي سوف يبدأ بتوزيعها على الجالسين في تلك السهرة.
وسرعان ما يضع يده في جيبه ليخرج تلك السكين المألوفة ويبدأ في تقشير التفاح. غير
أنني هذه المرة ربما أكون قد نلت فاكهة حقيقية كاملة، لأنني كنت
الواسطة في جلب الفاكهة للجميع.
بالطبع هناك صناديق (مبيتة) أخرى في الدار، غير أنها لا تقارن
بصندوق الجدة، حيث الحديقة
دائمة الخضرة والثمر في الصندوق المبارك.
هذه ميزة واحدة، من بين ميزات أخرى،
تضفي على غرفة
الجدة خصوصية طريفة.
ففي وضع الفاكهة في الصندوق الذي يضم، إضافة
إلى أشياء مختلفة، ملابس الجدة الخاصة، بشكل يجعل من
الصندوق، الذي لا تنفذ إليه الريح ولا النور، خزانة تحتفظ بالرائحة بصورة تضاهي
احتفاظ الثلاجات هذه الأيام، عبارة عن حديقة افتراضية،
إلى درجة أن معظم أفراد العائلة كان يستطيع أن يكتشف ما إذا كانت الحديقة عامرة
بالفاكهة أم لا، من خلال رائحة ملابس الجدة في ذلك اليوم. ولقد كان ذلك الأمر
واحداً من أسباب التندر، بسبب الاحتمالات
الكثيرة لإصابة بعض الفاكهة بالعطب لطول انتظارها،
مما يؤدي إلى اختلاط رائحة العطن الحاذقة
برائحة دهن العود والبخور
الذي تحتفظ به الجدة في الصندوق لتعطير ملابسها. ولقد حدث أكثر من مرة أن غفلت
الجدة عن الفاكهة المخزونة مما أدى إلى فسادها وإصابة محتويات الصندوق جميعها
بالرائحة العفنة، الأمر الذي يجبر الجدة على إخراج كل محتويات الصندوق من ملابس
وغيرها، وطرحها في حوش الدار طوال النهار لتطهيرها من عتمة الصندوق بنور
الشمس. ويومها ستكون الفرجة على أسرار الجدة مجاناً،
غير أن الشعور الفادح سوف يتمثل في يقيننا بأن أياماً عديدة قادمة سيكون غياب
الفاكهة في الدار مؤكداً.
غير أن أسرار الجدة المكنوزة في صمت المحرق ليست من بين أشياء
الصندوق التي تخرج إلى الحوش. وهي أسرار لا تطال وليست في المتناول.
صدفة أنني كنت مرة هناك عندما سمعت نحيباً مكتوماً يصدر من داخل
الصندوق.
يومها كانت قد أرسلتني جدتي لكي أنال بعض الفاكهة من الصندوق.
ثم نسيتني.
لا أذكر بالضبط من نسي من.
فما إن مددت يدي للبحث عن حبات الفاكهة في قاع الصندوق، حتى
تعثرت أصابعي بما يشبه النقش البارز في خشب القاع، تحسسته بأصابعي فعلق إصبعي في
ثقب صغير في مركز النقش. فإذا بصوت خافت من نحيب بعيد كأنه يصدر من زمان ومكان
مجهولين يقول بخفر: لا تفتح. ثم تصدر من خلفه ما يشبه الزغاريد المكبوتة يتخللها صوت
محموم يقول: افتح.
لم يكن لطفل مثلي أن يتفادى فضوله. حركت النقش فإذا بغطاء صغير
يأتي في يدي ويندفع من بعده نور خفيف سرعان ما بدت في قاع الصندوق صرة من القماش
حائلة اللون تصدر النحيب ذاته والزغاريد ذاتها وتقول: لا تفتحني.
غير أن الطفل كان يستجيب للرغبة المكبوتة. فتحت الصرة بيدين
مرتعشتين فإذا بفستان أزرق جديد مطرز بالقصب. ثوب كأنه لم يلبس. وإذا بصورة لبنت
مثل فلقة القمر مطوية بلطف الجنيات في كيس من حرير أبيض. وإذا بعقود وقلادات وخرز
ملون من كل الأحجام ينثال من ثنايا الصرة ويلون قاع الصندوق ببريق خاطف متسارع مثل
كائنات متناهية الصغر تفر من قمقم. وإذا بباقات من الورد البلدي الأحمر والياسمين
والمشموم تنشر رائحتها في فضاء الغرفة. وإذا بحوش الدار يتبدى بحشود في حركة
دوؤبة، وإذا بطباخ ولائم الأعراس الشهير(عبود) الفتى الأسمر المربوع ينصب قدوره
الكبيرة على نار الطبخ في سرادق الحوش ويطرح قطع اللحم مغموسة بماء الورد
والزعفران وأخلاط بهاراته الهندية. وإذا بفاطمة الخضارية بلثامها الأسود وهي ترفع
طارها المزين بالجريسات النحاسية الصغيرة وتصقله بكفها السمراء وتقود فرقتها في
حوش الدار وهي تهزج :
مباركين عرس الاثنين، ليلة ربيع وقمرة
واللي جمع بين قلبين الله يطول بعمره.
وإذا بعبود (ما غيره) ينط في رشاقته المعهودة ويبدأ في الرقص
متمايلاً مثل غصن الخيزران وهو أفضل من (زفن) بكأس الماء على رأسه فيما عيناه
تتبادلان الغمز مع جوقة النساء الملثمات فيبدأن بتناوب التحرش به ويشاركنه بحركات
راقصة. وإذا بغيمة كثيفة من رائحة البخور وموجات صغيرة من عطور دهن العود تتسرب
منسابة بين الحضور مبشرة بمقدم العروس. وإذا بالنساء يقتحمن الحشد وحلبة الرقص
وجوقة الغناء ويدلفن إلى داخل غرفة الفرشة وهن يحملن البنت ذات الوجه الجميل كفلقة
القمر محمولة في سجادة جديدة يزفونها إلى عريسها والغرفة متألقة بالمرايا الكبيرة
تغطي جدران الغرفة والرمانات الزجاجية الملونة تتراقص تحت الأضواء الساطعة. وإذا
بأصابع أنثوية مخضوبة بالحناء الأسود تنثر الحلوى الملبس في أحضان الناس. وإذا
بدلال القهوة الرسلان بنحاسها المصقول تدور وتملأ فناجين الناس. وإذا بالزغاريد
والضحكات وأثواب النشل وأقراط الذهب والتعب والسهر والنوم والأحلام والغيم
والنجوم.....
وإذا بصوت فتاة تجهش فجأة في بكاء مغدور.
وإذا بجدتي تظهر بغتة صارخة بالجميع: كفى.
فيهمد المشهد كله بغتة وتتلاشى الصور مثل انهيار لوح زجاجي
يتحطم على الأرض. ويخيم صمت ووجوم يشلان قدرة الطفل على إدراك ما ترآى له.
فيتلعثم الطفل وهو يسأل: من هذه الفتاة يا جدتي؟
فإذا بالحكاية ذاتها تبدأ كأنها تواصل سرداً لم تتوقف عنه إلا
اللحظات التي يحتاجها المرء لالتقاط أنفاسه.
كانت الجدة هي التي تكنز أسرارها للطفل الذي كنته:
هذا ثوب لم يلبس وعرس لم يتم وتلك فتاة مأخوذة.
ثمة كائن يسيطر على ليل المدينة ونهارها. يطارد الصبايا ويخطف
بنات الناس وينالهن دون أن يقوى على ردعه رادع. كان هو سيد الليل والنهار. لمح البنت عائدة من عين الماء، فأرسل لها خدينته ذات الوشاح، لاستدراج من يريد من البنات.
فغررت ذات الوشاح بابنة القمر التي قدّها الله من كبد أمها. فطار عقل الأب وأصابته
العلة الأخيرة، وذهب عقل الأم وقلبها، فأخذت تطوف المدينة من شمالها إلى جنوبها
باحثة عن البنت. إلى أن أرشدها الناس إلى الغابة حيث غيبت البنت. لم تترك باباً
إلا طرقته ولم تعرف وسيلة إلا توسلتها لكي تعود الصبية وتنجو. حل الحزن في البيت و
رانَ الفزع. لم يعرف أهلها النوم ولم يعرف والدها السكينة وقام الذعر في العائلة.
فرابطت الأم طوال الليل والنهار في بهو الغابة متضرعة، رجاة أن تعاد الفقيرة إلى
فقرائها. لكن ذلك لم يحدث.
قتلت البنت وصبغ بدمها أشجار الغابة وطارت أوراق الشجر ملطخة
بالدم وتناثرت في الأزقة. ونالت العلة الأخيرة من الأب، فنصبت في البيت من يومها
سرادق الحزن الأبدي، ولم تخلع أمها الأسود حتى الموت.. لتموت.
لماذا أيتها الجدة تكبتين الأسرار.
لماذا أيها الطفل تكتب الأسرار.
لم تنته الحكاية، كأن لم تبدأ الحكاية.
فثمة صندوق مبيت في كل بيت، وفي جميع هذه الصناديق من القصص
والأسرار ما تضيق به الكتب وما يشيب له الولدان.
*** |