لم يكن البحر
مجرد الجار الدائم المستمر للبشر المقيمين على حدوده الفارهة؛ على العكس، أحياناً
يخالجنا الشعور بأننا نحن الطارؤون عليه، فهو
صاحب المكان وسيد الزمان.
وبفعل طبيعة الأشياء وعيتُ
مبكرا على حقيقة العلاقة التكوينية بين معظم مهن أهل المحرق بالبحر، ومن النادر أن
تصادف عملا يشتغل به الناس دون أن يكون صادراً عن حاجتهم اليومية،
ويعتمد عليه أهل المحرق،
فليس ثمة انفصال بين المهنة والحياة. ويمكنني حقا أن أعدد الكثير
من المهن اتصلت بالبحر منذ الأزل، فهي إما تعتمد في موادها الخام على البحر، مثل
البناء والصيد والتجارة، أو أنها تعتمد على التسهيلات التي يوفرها البحر لعملها
مثل صناعة السفن والحدادة والنقل والاتصال. ولكي لا نتحدث إلا عن نموذج واحد من
هذه المهن، أجد في صناعة السفن واحدة من أكثر الحرف
اليدوية التقليدية التي وجدت فيها التجلي
الباهر للإبداع الإنساني
الذي يتصل بالبحر، بل إنني أشعر أن صناعة السفن تتميز عن الحدادة بعناصر وطبيعة
جمالية تجعلني أقرب إليها بصورة غير قابلة للتفسير، إلا إذا وضعنا في الاعتبار
الجماليات التي تقترحها هذه الحرفة على حياتنا اليومية والفنية.
حتى منتصف الستينات كانت المحرق تتميز بعدد من ورش صناعة السفن
في أكثر من موقع على سواحل تبدأ من جنوب المحرق جنوبي السوق حتى أطراف (الحالة)،
وتنتهي في شمالي المحرق والساحل الشمالي لمنطقتيّ
(الحد)
و(قلالي).
وعلى امتداد ساحل المحرق الغربي خصوصاً
كانت الورش المتفاوتة الحجم والأهمية تعمل بصورة متواصلة. وعن قرب تعرفت على هذه
الورش في مكانين أذكرهما جيداً،
ففي الجانب الجنوبي للمسلخ خلف
سوق اللحم القديم، كانت واحدة من الورش الشهيرة
التي تميزت بقربها المباشر من موردين مهمين لتلك المهنة، وأعني بهما المخازن
الشهيرة التي تستورد وتوفر كل
ما يتصل بصناعة السفن من أنواع الأخشاب، وهي
محلات بيع يطلق على الواحدة منها
اسم (عمارة)، إضافة إلى سوق الحدادة الشهير جنوبي المحرق الذي لا تستغني عنه صناعة
السفن. وكنت أكتشف تلك الورشة كلما عبرت بها قاصدا سوق الحدادة، فقد كانت علاقتي
بسوق الحدادة آنذاك ليست مهنية فقط لجهة
التداول اليومي بين دكانة والدي الكائنة في سوق الدلالين القديم في الشارع
الموازي شرقاً لسوق القيصرية، ولكنها أيضاً
علاقة عائلية أيضا لكون معظم العاملين في ورش الحدادة وقتها من
الأقرباء، مثل محمد بن سلمان زوج عمتي، وحسن بن مرزم
الحداد، وجمعة الحداد، أو مبارك الحداد، والأخير هو واحد
من أشهر (النهامين) في فن الغناء البحري (الفجري)
في ذلك الوقت.
وعندما
عملت مع والدي في الحدادة، كانت لي عدتي ومطارقي الخاصة، وعشت في سوق الحدادين،
حيث كان إيقاع المطارق يشكل جوقة متداخلة يستطيع المرء، بفعل الخبرة، أن يميز، عن
بعد، حجم المطرقة ونوع الحديد المطروق، وما إذا كان محمياً أم بارداً، ومن المشوق
أيضاً أن تنصتَ إلى الحداد وهو يتلاعب بالمطرقة حيث: طرقة
على الحديد طرقتان على السندان.وأذكر أن أحد الحدادين كان يبالغ في تنويع إيقاعه متلاعباً
بمطرقته، حيث كان يضع بجانب سندانه قطعة من الصخر الصلد،
زاعماً أنها نوع من الحجارة تشحذ المطرقة، وتصقلها لتحسن تطويع الحديد الخارج من
النار، وكان ذلك ضرباً من الاستمتاع وتبجيل العمل، بتحويله إلى طقس يزخرفه الإيقاع
المبتكر الذي تخلقه مخيلة العامل.
وكانت ورش
الحدادة آنذاك على شكل عرائش
صغيرة متجاورة ظهرها للبحر وتقابل الشرق. وبسبب من طبيعة العلاقة
اليومية العملية بين ورش الحدادة، وورش صناعة السفن، ويطلق
عليها (القلافة)، كنت أنتقل بين الجانبين بشكل دائم،
خصوصا أن معظم العاملين في (قلافة) السفن هم أيضا من أهالي حي الحدادة الذين
يتصلون عائليا أو أصدقاء
يوميين للعائلة، وأذكر
أنني كنت أعرفهم شخصيا منذ الطفولة
وأراهم كثيرا في بيتنا في
مناسبات مختلفة طوال العام. وهذا ما سيجعل وجودي بينهم بين وقت وآخر مألوفا. خصوصا
إذا علمنا أن المشتغلين في صناعة السفن من الصنف الذي لا يحبذ زيارة الغرباء كثيرا
لأسباب لم أكن أدركها آنذاك، وإن حاول أحدهم أن يفسرها لي لاحقا على أنه نوع من
خشية نقل أسرار المهنة، دون أن أصدق ذلك التفسير.
ما أريد الكلام عنه في هذا المقام ورشة
القلافة الشمالية. وهي الورشة التي
كانت تقع قبالة مدرسة الهداية من الجانب
الغربي على ساحل البحر مباشرة، ولا أظن أن أحدا من أهالي المحرق، من طلبة مدرسة
الهداية خصوصا لا يتذكر تلك الورشة التي كانت هياكل السفن
(قديمة أو جديدة) تنتصب فيها بشموخ يوما بعد يوم طوال أشهر
السنة. ولعل من أجمل الصور الحاضرة في ذاكرة ذلك الجيل، عبورنا اليومي على الورشة
في ذهابنا الصباحي للمدرسة، وخروجنا بعد انتهاء الدوام ظهرا، وملاحظتنا لتلك
الخطوط والأشكال الخشبية التي تبدأ غامضة من سطح الورشة، وتتكون في تناسق غاية في
الغرابة والجمال، لكي تتشكل يوما بعد يوم في هيكل يتصاعد وينداح ويتلون بأنواع شتى
من الأخشاب، لكي نصادف ذات صباح سفينة مكتملة يستعد العمال لدهنها
بمادة (الصِـلْ)
المستخرجة من كبد الحوت، لتغليف هيكلها الخارجي، مما
يكسب الخشب متانة تحصنها ضد أنواء البحر وتفاعلات الملح.
في هذه المهنة خصوصاً سيكون التنوع الكبير في أصناف الخشب ضرباً
من وضع مواهب العامل في صناعة السفن تحت اختبارات متواصلة لحواسه وقدرته على
الإصغاء. فليس من غير دلالة أن يحسن الإنسان الإصغاء للخشب والتفاهم معه.
وفي اللغة: قَـلّفَ السفينة: خرز ألواحها بالليف وجعل في خلالها
القار، ما يسمى: القلافة.
العامل الموهوب
في ورش (القلاليف) يمكنه تمييز وقع المطارق المختلفة الأحجام على الأنواع الكثيرة
من الأخشاب، حيث كل جزء من السفينة يتطلب نوعاً خاصاً من الخشب، والمحترف يستطيع
أن يدرك عن بعد، بمجرد السمع، على أي نوع من الخشب يشتغل هذا العامل، ويعرف أيضاً
حجم المسامير، وما إذا كان الخشب رطباً أم يابساً، بل أن بعضهم كان يستطيع تقدير
مرحلة العمل، بمجرد سماع رجع المطارق على هيكل السفينة.
أذكر أنني كنت أجلس في ركن بعيد على السفينة، في الورشة المقابلة
لمدرسة المحرق القريبة من البحر، وأضع أذني على سطح الخشب لكي أصغي إلى الإيقاع
الذي كانت المطارق والمثاقب اليدوية تزخرف به فضاء المكان. وكانت رائحة الخشب
وإيقاع المطارق يأخذاني إلى النوم.
وأذكر أن تلك الورشة كانت مكانا أثيرا بالنسبة لعدد كبير من
طلبة المدرسة أيام الامتحانات، حيث ننتشر بين هياكل السفن وأكواخ الورشة وأكداس
الخشب، ناشدين نسمات باردة تنبعث عادة من أعمدة الأخشاب المصفوحة
والمنقوعة في مياه البحر التي تتداخل أحياناً
مع مرافق الورشة. حيث كان النجارون
يعمدون إلى وضع الأخشاب بعض الوقت لكي يتم تشربها بالرطوبة اللازمة لتكون أكثر
طواعية للعمل أولا، وثانياً
من أجل أن تستعد، وتبدو
صالحة مسبقا للبيئة المائية التي ستذهب إليها لاحقاً
بعد تجهيز السفينة. فمن ذلك الخشب المنقوع في ماء البحر سوف ينبع هواء رطب يلطف
حرارة الصيف أيام الامتحانات. بالنسبة لي كان الجلوس ساعات أرقب النجارين ينتخبون
الأنواع المختلفة من الخشب، ويقومون بتشريحه وطيه برشاقة مذهلة حول هيكل السفينة،
وتحديد مواقع الثقوب المطلوبة للمسامير ذات الأحجام الكبيرة والمصنوعة خصوصا لدى
الحدادين الذين أعرفهم شخصيا. وأكثر ما كان يشدني في ذلك العمل الجميل والدقيق في
نفس الوقت، تلك الأدوات البدائية التي كانوا يستخدمونها في عملهم، من أداة الثقب
المكونة من الخشب والمسمار الرفيع والحبل المطوي، أو المسحاج الذي يشذب ويبري
الخشب ويُنعِّم سطوحه، إلى تلك الخيوط القطنية اللانهائية الطول التي يكنزون
بها شقوق الألواح المتراصة، (الفتيل). وأطراف
قطع الخشب المرصوص لسد المسام المتوقعة في جسم السفينة. وأذكر أن ما يشوقني في
براعة الصانع تلك الدقة الهندسية الفطرية التي يعتمدها لتنفيذ تصوره على الخشب دون
الاستعانة بأية أداة حديثة على الإطلاق، وكان عندما ينتخب قطعة الخشب المناسبة،
ويحدد عليها بعود خشبي رفيع مبروم الطرف، يستعمله بمثابة القلم
المغموس في تلك المادة الحمراء الغامضة التي يشترونها
في هيئة بودرة يضيفون الماء لها، فتصبح سائلا مثل حبر أحمر كثيف يخط بها ويرسم
متخيلاته على اللوح. ثم يبدأ بقطع الخشب مباشرة بالمنشار
الرشيق أحيانا، أو بالقدوم الحاد الزاوية أحيانا
أخرى، لكن دون أن يخطئ في قياسه على الإطلاق.
وحين أكون جالسا معهم
يحلو لي أن أستكشف صندوق العدة المستطيل الذي اشتهر به القلاليف أيامها، محاولا
التعرف على تلك الأدوات السحرية، فأقوم
بإخراج بعض تلك الأدوات، وأضعها بجانب بعضها البعض محاولا أن أتخيل العمل الذي
تنجزه كل أداة. وأشد ما كان يبهرني من بين تلك الأدوات ذلك المثقاب الذي يتم
إدارته بخيط من الحبل الرفيع والقوي المشدود
من جهة إلى قوس خشبي
يتحرك أفقياً، ومن جهة ثانية يكون الحبل نفسه مطوياً على عمود قصير ينتهي بمسمار
يجري تحريك أداة الثقب فيه بشكل حلزوني، مع الضغط عليه في
المكان المراد ثقبه
لتكون النتيجة مدهشة. وكان القلاليف يسمونه (المجدح).وكنت أشبه هذا (المجدح) بآلة
الكمان الموسيقية ربما لتشابه حركة تشغيل كليهما القائمة على نفس فكرة القوس،
وأذكر أنه لفرط إعجابي بتلك الآلة عمل والدي على توفير (مجدح) قديم
لي من أحد أصدقائه القلاليف. الغريب في تسمية هذه الآلة أنها تسمية
تتصل بنفس الحركة البدائية التي يقوم بها الإنسان (
القدح) الشرار بهدف إشعال النار.
في القاموس: قدحه، خرقه بسن النصل.
والعامة تستعمل (قدح) بمعنى (ثقب). ولكون عاميتنا في اللهجة تحول القاف إلى جيم،
كما في تحوير اسم قاسم إلى
(جاسم)،
فان تسمية هذه الآلة تتصل بضرب من الفصحى. ومن الطريف المشوق
أيضاَ أن القاموس يقول أيضا إن المجداح هو ساحل البحر.
فضاء تلك الورشة،
إذن، كان بالنسبة لي مكانا آسراً.
تستحوذ على مخيلتي
تلك الأنواع المختلفة من الأخشاب، فأجلس إليها متفحصا كل نوع، في محاولة لاكتشاف
السر الذي يجعل تلك الأخشاب الكبيرة الحجم قابلة لأن تستجيب لرغبات الصانع الذي
يعمد إلى طيها على هيكل السفينة بصورة نصف دائرية دون أن يتعرض اللوح إلى الكسر.
أذكر أن أكثر ما يستحوذ عليّ،
تلك الرائحة الغريبة المنبعثة من كل صنف من أصناف الخشب، ومن الخبرة التي اكتسبتها
فيما بعد بفعل المعايشة و الأسئلة، أن
ألوان الخشب المختلفة تشي بطبيعة تميز بعضها عن الآخر، فطبيعة نوعٍ
ما تجعله صالحاً بشكل خاص لجزءٍ
معين من هيكل السفينة لكونه مثلاً أكثر قابلية للطي، فهو
مطواع لرغبة النجار في تشكيله كما
ينبغي. وثمة أنواع تكون قادرة على مقاومة الماء بصورة تجعله صلبا كأنه الحديد. وهناك
أنواع من الأخشاب تناسب أجزاء السفينة العلوية على سطح الهيكل، حيث تصلح لتحقيق
زينة شكل السفينة الخارجي، وقدرتها على مقاومة أنواء البحر والشمس المباشرة. ومعظم
هذه الأخشاب تترك بدون أن تطلى لجمال لونها الأصلي الذي يتفنن الصانع في استغلاله
بشكل جمالي يضفي على السفينة إيقاعا لونيا لا يعتمد على
الصدفة دائما. وكنت حينها لفرط ولعي برائحة تلك الأخشاب وألوانها، أستهدي للتعرف
على أسماء تلك الأخشاب وأصنافها بواسطة تلك الشرائط الخشبية
الرفيعة الشفافة المتفاوتة الطول والسمك التي تخلفها آلات
السحج والتشذيب، التي يستخدمها النجارون أثناء عملهم ب
(الفارة)، وهو ما
يسميه العامة عندنا (كِشبار)، حيث يتجمع كثبان
صغيرة متوزعة في مواقع كثيرة من ورشة العمل، وكثيرا ما تستخدم هذه البقايا الخشبية
في مواقد الطبخ، وأذكر أن هناك من يملأ
بعض أكياس الخيش بهذه البقايا لاستخدامه كوسائد كبيرة في بعض البيوت، خصوصا إذا
كان ذلك (الكشبار) ناعما.
كان البقاء
في تلك الورشة يشكل بالنسبة لي متعة تخفف أحيانا رتابة الدوام المدرسي الذي كنت قد
بدأت في التفلت منه آنذاك. وأذكر أن ولعي بقضاء فترات ما بعد الظهر هناك
في تلك الأرجوحة الخشبية المعلقة بين الماء و اليابسة،
وضعني في موقف لا أنساه أبدا. فقد ركبت ذات مرة إلى سطح السفينة
التي كان يجري العمل فيها، وكانت من
نوع (البوم)*
الكبيرة الحجم. ورحت أتجول في مرافقها من السطح إلى (الخن)*
إلى المقدمة إلى الصدر، ثم طاب لي أن أستلقي في بطن السفينة مستمتعا ببرودة تنبعث
من بعض الأخشاب الباردة التي تتدرب على مقاومة نزّ الماء.
استلقيت وشرعت اقرأ في كتاب أحمله معي كالعادة، فاستسلمت
لنوم لذيذ لم أفق منه إلا بعد وقت طويل لأكتشف أن الليل يوشك
والعمال قد غادروا، وحين أسرعت عائدا إلى الدار كان تأخري
غير المعتاد قد سبب ذعرا في العائلة، حيث بدأ الجميع يبحثون عني
في كل مكان، ولم تنته المسألة إلا بمحاسبة غاضبة.
يومها لم أجرؤ على إخفاء سبب ذلك التأخير. عندها تأكد والدي أن ولعي بصناعة السفن
يمكن أن يزاحم اتصالي بمهنة الحدادة، وراح يتندر مع أصدقائه (القلاليف)
على الحداد الصغير الذي يعشق حرفة (القلافة). لكنني حاولت أن أشرح لأصدقاء الوالد
أن ما يستحوذ على خيالي هي فكرة صناعة السفن التي ستمخر البحار بمجرد رصف ماهر
لعدد لا متناه من الأخشاب.
ثمة علاقة غامضة
سوف تربطني، مجدداً، بنفس مواقع ورشة صناعة السفن
الشمالية تلك. وهي واحدة من المصادفات التي لا أعرف حتى الآن كيف يمكن تفسيرها من
وجهة نظر حضور المكان في حياة الإنسان. فبعد سنوات سوف يبنى منزل صغير من طابقين
في نفس موقع الورشة، يقابل مدرسة الهداية، ويوازي شارع
المطار. ذلك المنزل سيكون سكناً
لمدير مدرسة الهداية آنذاك الأستاذ عبد الله فرج. لا تكمن المصادفة في هذا الأمر،
ولكنها تكمن في أن ذلك المبني سيتحول لاحقا، بعد
سنوات، وبعد
مغادرة الأستاذ عبد الله فرج للبحرين بفترة طويلة،
إلى أول موقع لفرع المكتبة العامة التابعة لوزارة التربية والتعليم أوائل
السبعينات. وقتها كنت لا أزال أعمل في المكتبة العامة
المركزية بالمنامة، يإدارة
الأستاذ محمد صنقور، الذي رشحني لتصنيف دفعة الكتب التأسيسية التي حصلت عليها
إدارة المكتبات كهدية من الشيخ (فالح آل ثاني) من
دولة قطر. فوجدت نفسي أعود إلى نفس المكان الذي عشقت ارتياده وقت كانت
ورشة صناعة السفن، لكي أمضي عدة أشهر منكباً
في العمل مع زميلتين من موظفات
المكتبة على تصنيف تلك الكتب التي كانت في معظمها مجلدات قديمة متصلة بالتاريخ
وعلوم الدين والفلسفة، وتنبعث منها رائحة التاريخ شكلا ومضمونا. الطريف في تلك
المصادفة أن روائح الكتب القديمة ذات الأغلفة الجلدية المتهرئة
أحياناً، كانت تذكرني،
بشكل ما، بروائح الخشب
الرطب والمنقوع في البحر، خشب سبق أن تولعت بألوانه،
وتعرفت بصفاته وتنوعه الباهر. ثمة علاقة بذلك المكان تجعلني أفكر كثيرا في
المعنى الغامض الذي يجعلني قريبا من المحرق، وخصوصاً
بذاكرة المحرق القديمة التي وعيتُ على
تفتح معناها الحضاري
الحديث كمدينة، معنى أن تتحول الأماكن إلى أشياء ومواد يمكن ملامستها باليد،
وتقمصها بالحواس جميعها أيضا، دون أن
يقوى الزمن على مصادرة حقنا في استعادتها بالصورة التي تعرفنا عليها للمرة الأولى،
كأن ذلك الحق هو الحق الوحيد، لكي لا أقول الحق الأخير، الذي
يمكن أن يبقى للإنسان في مدينته.
*** |