اشتعلت عندي حرائق الشعر أكثر مما كانت.
كان الحوار مع الأستاذ المحادين
يتواصل بصورة تتجاوز الوقت والمكان، حتى أننا كنا نواصل حوارنا الأدبي من خلال
الرسائل التي أصبحنا نتبادلها في العطل الصيفية، رسائل يكتبها لي من الكرك بالأردن
وأكتبها له من البحرين، ولا أزال أحتفظ برسائله المشحونة بالنقاش الأدبي، على ورق
أزرق رهيف اشتهرت به رسائل سنوات الستينات. لم يكن المحادين يكترث بالدرس إلا
بوصفه مشروعاً إنسانيا من شأنه أن يفتح أمام الموهبة الأفق اللانهائي لمستقبل
الشعر الذي كنت أحلم به ليل نهار. أتذكر أنه كان يقول لي: أنك ترى
طريقك جيداً، فلا تفكر في وضع القوانين أمام الخطوات.
وفي غمرة ذلك الحماس الذي كان يفضح الوعي الاجتماعي والسياسي
المتفجر في محاولاتي الشعرية، كان المحادين يمعن في صقل روح التفلت والجرأة لديّ
من حيث لا يدري، أذكر أنه قال لي ذات مرة: (الشاعر قدره أن يكون شجاعا، قلْ
ولا تخفْ ، أو
خفْ ولا تقل).
وكان الباقي يتوقف على خبرتي في الحياة وفهمي لها، ثم قدرتي على
جرأة الخيار. والحق أن مثل تلك الاضاءات المبكرة التي كانت خليطا غامضا من الشعر
والوعي الاجتماعي، أشعرتني
بالثقة الغامضة في اختياراتي الصادرة من طبيعة حياتي اليومية. كان المحادين محرضا
غير معلن للنجاة من التقليد في الكتابة. نزعتُ إلى المغامرة
حد التطرف، وبقي هو في حدود المحافظ الأليف.
أذكر أنه عبّر عن
رأيه في التقليد الشعري بصورة غاية في الطرافة دون أن تخلو من دلالة فنية، بعد أن
احتدم نقاش في الفصل بيننا وبين بعض طلبة الفصل الذين انتصروا للشعر العمودي، في
مقارنة بين الشعر الحديث والشعر القديم، كان على سبورة الفصل نص
نثري لموضوع إنشاء يملاْ الحيز، تناول المحادين ممسحة الطباشير وقام
بمسح النص في وسط السبورة ليقسم النص المكتوب
إلى نصفين متقابلين قائلا: هذا هو الشعر القديم، صدر وعجز، يمكن لأي شخص يحسن
البحور أن يكتب نصاً على هذه الشاكلة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك شعراً،
أنها قيود يكتب فيها العرب منذ مئات السنين، لابد للشاعر الحديث أن يكسر هذا
القالب.
بالرغم من طرافة التشبيه وفرط
السخرية فيه، (وربما بسببهما) لم أنس ذلك الموقف أبدا، لأنه مسَّ لديّ الحس الغامض
بالشكل مبكراً والجرأة عليه، فوجدت من الصعب أن
أدرس قديم الخليل
بن أحمد لكي أعيد إنتاج
القالب القديم بكلامي الجديد.
في مدينة المحرق، لم يكن وقتها ما يشير إلى وجود
كثيرين يمكن أن يقبلوا مثل
ذلك الاقتراح الساخر الذي ينقض
النموذج المقدس للكتابة الشعرية. وقتها بدأت
أدرك معنى أن يكون الشاعر شجاعاً:
يقول ولا يخاف.
واستعدت لحظتها دلالة اعتراض مدرس آخر
في فصل آخر في نفس المدرسة في سنة سابقة، عندما كنت
أختار بعض قصائد حديثة لكي
أنشرها في صحيفة الحائط، عندما كان ذلك المدرس
يقول لي: هذا ليس شعراً، حاول أن تختار قصائد من
عيون الشعر العربي لوضعها في الصحيفة.
ذلك هو ما كان يميز الأستاذ المحادين
عن الآخرين في تلك الفترة، فهو لم يكن صديقا للطلبة لكونه اجتماعياً أكثر من سواه،
ولكن لأنه كان يتصل بالتجربة الحديثة للشعر العربي، الأمر الذي يجعله منحازا
للمستقبل أكثر من سواه. كان
الآخرون مدرسين، أما هو فقد كان أستاذا بالمعنى الحضاري للكلمة. فالفرق بين المدرس
والأستاذ أن الأول سيكون مخلصاً
دائماً للماضي،
المنهج المقرر، في
حين أن الثاني سيكون مخلصا للمستقبل،
ابتكار المخيلة.
الأستاذ المحادين أصبح من
المعالم الحميمة في مدرسة الهداية، وليس من غير المتوقع أن يكون هو، من دون أساتذة
كثيرين، قد تصدى لوضع كتاب خاص في تأريخ مدرسة الهداية.
مدرسة الهداية، بهذا المعنى، كانت البداية الحقيقية
لما سيأتي لاحقا، على صعيدين:
الانشغال النضالي والنزوع الأدبي. ولهذا فإنني أعتقد دائماً أن الأهمية التاريخية
لمدرسة الهداية لا تقتصر على طبيعتها التعليمية والأدبية فحسب، ولكنها
أيضاً تتصل
بالروح النضالية التنويرية التي كان المناخ العام في المدرسة، من مدرسين بحرينيين
وعرب، يدفع ويشجع الطلبة على الاكتشاف والانهماك فيهما. أذكر أن ثمة روحاً شاملاً
كان يجمع بين الطلبة والمدرسين بصورة تجعل تلميذاً
صغيراً مثلي يجرؤ على مساءلة أستاذين بحرينيين
عن الأسلوب المناسب للتعبير عن الروح الوطنية، فأحصل من الأول على محاضرة في
التعقل ودرسٍ في التوجيه المعنوي،
ومن الثاني درسٍ قاسٍ في الكف عن مثل هذه الحماقات الحماسية، لأكتشف فيما
بعد أنني قد أخطأت العنوان. وما كان علىّ إلا أن أبحث عن أجوبة لتلك
الأسئلة في مكان آخر خارج المدرسة. خصوصاً
بعد تجربة مباشرة في المظاهرات التي كانت تخرج في المناسبات القومية المتلاحقة
في تلك الأيام.
وعندما استدعاني الأستاذ عبد الله فرج، مدير المدرسة، ضمن طلبة
آخرين، ذات صباح، مهدداً
بوقفة الانضباط
الشهيرة خلف مكتبه التاريخي، بأن أية مشاركة في مظاهرات أو نشاط مماثل يعني الفصل
من المدرسة، شعرت للمرة الأولى أن ثمة
سلطات، لا تبدأ من العائلة ولا تنتهي بالأجهزة الحكومية، سوف تكون بالمرصاد للنزوع
الوطني العفوي. مثل ذلك الشعور سوف يؤسس لشهوة
التمرد على مقاعد الدراسة بوصفها سلطة. ان
الأستاذ عبدالله فرج (الذي أدار الهداية في الفترة بين 53 –67)
وهو أحد أشهر المدراء الصارمين، وعاصر
واحدة من أكثر المراحل حساسية ودقة في البحرين، وتجابه
مع أكثر الأجيال تفلتاً
ونزوعاً للنشاط النضالي الحديث الذي ساهم في
صياغة ملامح حركة النهضة والتنوير السياسية
والاجتماعية في البحرين.
الطريف أن من ملامح تلك المرحلة ذلك التداخل الفذ بين تفجر
مشاعر النزوعات السياسية، ومن جهة أخرى
تلك التمردات التي كان عدد من
طلبة تلك الأيام يتفنون في التعبير عنها بنوع من الفتوة الشخصية التي تصل أحيانا
إلى مصادمات عنيفة مع الإدارة المدرسية. ويمكننا استحضار تلك المواقف التي يدخل
فيها طالب، أو أكثر،
على الأستاذ عبد الله فرج
في مكتبه لينفجر بينهما نقاش،
لا يخلو من العنف، على طاولة
المكتب التاريخية العتيدة،
حيث يصرخ الطلبة في وجه المدير المتحصن وراء الطاولة المتينة
السمراء قابضاً على خيزرانته معلنين بأن أحداً
لا يستطيع أن يفصل طالباً من
حقه أن يكمل دراسته في مدرسة الهداية، كما لو أن الفتوة من الطلبة المشهورين آنذاك
لا يقبلون فكرة خسارة شرف الدراسة في تلك المدرسة، وهم الذين يدركون معنى التخرج
من مدرسة الهداية، مهما كانت درجة تقصيرهم
الدراسي. لقد كان التعبير عن الإخلاص لمدينة المحرق، عند البعض، يتطلب
أحياناً تجاوز بعض شروط واعتبارات نظامية لا بأس من التغاضي عنها. بل أن بعضهم سوف
يقدم تضحيات ذاتية في سبيل أن يكون جديراً باقترانه بتأكيد سمعة المحرق، وسوف لن
ينسى له أحد هذه التضحية.
وأذكر أن زميلاً معي
في الفصل كان واحداً
من أشهر لاعبي فريق المحرق في مطلع الستينات، وهو (علي
إسماعيل)، المولع بكرة القدم أكثر من أي شيء آخر،
كان يتحدى مدير المدرسة أن يحرمه من شرف الانتماء لمدرسة
الهداية، وهو الذي كان يسجل بقدمه
الفذة الأهداف التي ينتصر بها فريق المحرق. وفي مثل هذا الموقف يمتزج المعنى
الحميم لكون الشخص يعيش في مدينة المحرق،
متمتعاً بالتميز
الذي يجيز له حق التجاوز في بعض الأمور، التي لا تستثني حتى أكثر مدراء مدرسة
الهداية صرامة. وأظن أن بعضنا لا يزال يستطيع أن يذكر أسماء طلبة معروفين
يباهون أنهم جابهوا الأستاذ عبد الله فرج في مكتبه، في وضع استعداد
لعراك متوقع، ويكاد يكون مألوفاً. غير أنه لم يكن يصدر
عن عداء أو ضغائن. حتى
إن الأستاذ عبد الله فرج كان يستوعب تلك الاندفاعات
المتمردة، التي كان يمارسها بعض الطلبة بنوع من
استعراض الفتيان العاصين الذين يشعرون
أن الفصول الدراسية
والمدرسة برمتها ليست على مقاس طاقتهم المتفجرة، وأن عليهم أن يشاركوا في (تدريس)
المدرسين و(توجيه)
إدارة المدرسة، وتذكير مدير المدرسة نفسه بتحفظاتهم العبقرية على النظام المدرسي.
لقد كان الأستاذ عبد الله فرج، حتى وهو يتجول في المدرسة بخيزرانته
متفقداً الرعية ومراقباً استتباب الأمن، فإنه لم يكن يعتبر الفتية العاصين
سوى المظهر المألوف لحيوية مدينة
المحرق وفتوتها التي اعتادت أن لا ترى
حدوداً بين حوش المنازل، ومنعطفات
أحياء المحرق وأجواء غرف الدرس في مدرسة الهداية، وأظن أن من هذا الشعور اكتسبت
هذه المدرسة اسمها الشعبي
هو المدرسة (العودة) أي الكبيرة. وكأني بهم يقصدون (العودة
– أي الكبيرة) لكونها تتجاوز حدود سورها الخارجي لتصل إلى أطراف مدينة
المحرق كلها، من الساحل الجنوبي حتى نهايات البساتين الشمالية المطلة على الشاطئ
الشمالي. لقد كان الجميع يؤثث (كوكب) المحرق والجميع كان يشارك في قيادة
ذلك الكوكب، ويشعر بمسؤولية حماية هذا الكوكب في مجرة البحرين.
***
|