ورشة الأمل

(سيرة شخصية لمدينة المحرق)
قاسم حدَّاد

 

شاعرٌ يوشك على ذلك

ثقافيا، يمكنني القول إنني تعرفت في مدرسة الهداية للمرة الأولى على ما يسمى بالبعد الثقافي لمرحلة الدراسة، وفي الهداية بدأت الفكرة الثقافية والأدبية تنشأ في تصوري. فقد تعرفت على عدد من جمعيات النشاط في مجالات مختلفة. رياضية، مشاركاً في المهرجانات السنوية للمدرسة (حيث الأستاذ شناف فيصل والأستاذ عبدالوهاب السيسي)، وفنية ثقافية، مولعاً بالرسم والمكتبة (حيث الأستاذ خالد زنتوت)، والأشغال اليدوية لحفر وقطع الآيات القرآنية بالمنشار الناعم (حيث الأستاذ ربحي سالم)، وأدبية، لتحرير الصحافة المدرسية وجرائد الحائط (حيث الأستاذ سليم محمد سليم، وبعد ذلك الأستاذ عبدالحميد المحادين).

بدأت الدراسة منذ السنة الأولى في مدرسة الهداية تأخذ طابع الورشة النشطة المتنوعة التي يتسابق إليها الطلبة، خصوصاً الموهوبون منهم في جميع المجالات. وكان المدرسون وقتها يبدون عناية ملفتة في اكتشاف تلك المواهب، وتشجيعها في سبيل إظهار المعنى المختلف للانتقال إلى مدرسة الهداية. في تلك الفترة كانت ميولي الأدبية تبحث عن سبل للتعبير عن نزوعاتها. وفي الطابق العلوي (الهي من الذي أمر بهدم الطابق العلوي في مدرسة الهداية؟) حيث الغرف التي درسنا فيها بالجانب الجنوبي، وفي الجانب الشمالي المكتبة التي يديرها الأستاذ خالد زنتوت، محاذية لورشة الرسم المسئول عنها الأستاذ زنتوت نفسه، فهو بالمناسبة فنان يمتلك ذائقة فنية ساهم في تشجيع واكتشاف عدد كبير من فناني المحرق الذين درسوا في الهداية، وهو، إلى ذلك، كان يدير متجراً للهدايا والتحف الفنية في (المنامة) يقع في المدخل الشمالي للشارع المسقوف ومتجر روما، مقابلاَ لمبنى (تشارتر بنك حالياً، الشرقي سابقاً) موازياً لعمارة المطيري الشهيرة بالشارع البحري آنذاك، والممتد من رأس الرمان شرقاً إلى مستشفى النعيم جنوباً مارا بفرضة (مرفأ) المنامة.

كنت إذن من بين أعضاء لجنة المكتبة الدائمين في مدرسة الهداية، حيث كانت الفرصة متاحة أكثر للحصول على بعض الكتب التي لم أكن قادراً على شرائها. أثناء ذلك بدأ نشاطي مساهما في إعداد جرائد الحائط في الفصل، ثم تطور الأمر لكي أقود العمل في فريق جريدة الحائط فأقوم بتخطيط الجريدة، وكتابتها كاملة بعد استلام مساهمات الطلبة الآخرين. وأذكر أن الروح الوطنية والقومية والحس السياسي كانا يتفجران في ذلك الجيل من طلبة مدرسة الهداية، بحيث كنت أضع التصميم العام للصحيفة في شكل كلمات كبيرة مفرغة تكتب بداخلها المقالات والقصائد، وأذكر على الأقل جريدتين وضعت لهما تصميماً على شكل كلمتين، أثيرتين:الأولى كلمة (فلسطيننا)، والثانية كلمة (حريتنا). وكان بعض الأساتذة الفلسطينيين يستقبلون تلك الاجتهادات بحماس يشجعني على كتابة المقالات الحماسية المتصلة بالقضايا الوطنية والقومية، الأمر الذي يحول تلك الجرائد مجالا يتنافس فيه المتحمسون من الطلبة على نشر مشاعرهم وأفكارهم. وكانت هواية القراءة التي تستحوذ على وقتي تساعدني على كتابة المقالات واختيار القصائد من مكتبة المدرسة. وأذكر أن الأستاذ سليم محمد سليم مدرس اللغة العربية في السنتين الأولى والثانية قد اهتم بما أكتبه في مادة الإنشاء لكي يشجعني على قراءة بعض الكتب المتصلة بفلسطين، وأذكر أنني كنت صديقاً للأستاذ سليم لدرجة أنني كنت أراسله عندما يسافر في العطلات الصيفية، وكنت أتلقى منه رسائل من عنوانه في مخيم عين الحلوة بلبنان، فهو من لاجئي عام 1948 المقيمين في مخيمات لبنان.

 بعد ذلك سوف أكون لافتاً لنظر الأستاذ عبد الحميد المحادين، الذي سيدرسني مادة اللغة العربية، ويتعرف على نزوعي الأدبي الذي يحاكي ميوله الأدبية، ليكون أول من يكتشف موهبتي الشعرية، ويهتم بي اهتماماً خاصاً، ويجعل فكرة أن أكون شاعراً (حسب تعبيره آنذاك) ممكنة.

الصداقة المبكرة التي نشأت مع الأستاذ المحادين، كانت نموذجا غير تقليدي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ الموهوب، ويمكنني الآن القول أن الأستاذ كان يرى في تلك العلاقة محاولة لتحقيق الذات، فالمحادين نفسه كان وقتها مولعاً بكتابة الشعر من جهة ومتورطا في مهنة التدريس من جهة أخرى، فكأنه، فيما يدعم الموهبة الشعرية، كان يعبر عما يمكن وصفه باكتشاف الذات في الآخر. كان المحادين وقتها يكتب شعرا لا يجد من يقرأه ويحبه سواي. فحين صادف لديه تلميذا يعلن عن مشروع موهبة أدبية، كان حماسه للأمر متوقعا لمشروع شاعر محتمل. هكذا أستطيع أن اقرأ طبيعة الصداقة التي هيأت لي مناخاً صحياً لكي أتعرف على الشعر بصورة أكثر رحابة مما فرضته علينا بلادة المقرر المدرسي.

المشكلة في ذلك المدرس، الذي جاء تواً من قرية الكرك الأردنية، أن عليه القيام بتدريس فتية لا يفترقون عنه في العمر إلا قليلا. كنا فتية في واحدة من ذروات المراهقة الممزوجة بما لا يحصى من الهموم والهواجس، وكان على الأستاذ أن يستوعب نماذج صعبة من الشباب. في حين هو ليس بعيداً عنهم في الهموم. وإذا رأينا إلى ذلك الأمر من جانب آخر، سوف نتيقن الآن أن تقارب السن آنذاك كان أهم الأسباب التي هيأت ليكون ذلك الأستاذ، دون غيره من المدرسين، قادراً لأن يقيم علاقة صداقة منقطعة النظير في مدرسة الهداية أوائل الستينات، ولعل كثيرين من طلبة تلك الفترة في مدرسة الهداية يستطيعون تذكر المشهد بصورة واضحة الآن.

لقد كان المحادين أصغر أعضاء هيئة التدريس سناً في المدرسة، وأكثرهم تميزاً بصداقته مع الطلبة. أكثر من ذلك أنه كان أكثر الأساتذة قرباً من حياة المحرق المدينة والناس. واختلافه عن زملائه المدرسين سوف يرشحه دائما للمزيد من المشاكل التي كان يتصدى لحلها على طريقته، بمعزل عن  تزمت الإدارة المدرسية بقيادة الأستاذ عبدالله فرج، الذي سيكون من حقه وقتها أن ينظر إلى ذلك الأمر بشيء من القلق.

لم يكن الأستاذ المحادين متمرداً ولا عاصياً لإدارة المدرسة، ولكنه أيضا لا تستهويه الطريقة التقليدية التي تستدعي اللجوء الدائم لحدود الإدارة المبالغ في صرامتها وتزمتها. ويمكننا، بمقارنه طريفة مع الأساتذة الآخرين، أن نلاحظ الفرق المألوف والمحبب عند المحادين: فهو لم يعرف (مثلاً) بالصرامة القاسية التي أشتهر بها الأستاذ عادل سفيان رحمه الله، مدرس اللغة الإنجليزية الذي كان يتفنن في ضرب الجودو على عنق الطلبة. كما لم يكن المحادين محافظا بصورة مبالغ فيها مثل الأستاذ وجيه نزال مدرس الدين. ولم يكن شخصية أرستقراطية متأنقا في ملبسه ومظهره مثل الأستاذ خالد زنتوت الفنان مدرس الرسم والقابع دوما في برجه العاجي في الطابق الثاني من المدرسة. ولا نراه مأخوذا بالمشاريع (التجارية) في خدمات المدرسة مثل الأستاذ ربحي سالم، مدرس الرياضيات، الذي يستعين بأعضاء جمعية الأشغال، التي كان يتعهدها، للعمل في مقصف المدرسة الذي كان أيضا يتولى إدارته.

أكثر من هذا كله، فأنك لا تصادف كل يوم مدرساً قليل الركون في غرفة المدرسين مثل المحادين، فمن المألوف جداً رؤيته خلال الاستراحة بين الحصص واقفاً مع مجموعة من الطلبة مستغرقا في أحاديث لا علاقة لها بالدرس.

وأذكر أنه كثيراً ما كان يحرص على مشاركة طلبته المناسبات وخصوصا في نهاية العام الدراسي. وهذا ما كان يجعل المحادين شخصية لا يستطيع المرء لأول وهلة أن يجزم ما إذا كان: مدرساً أم طالباً في تلك المدرسة. وليس من المتوقع كثيرا أن تصادف مدرساً، غير مدرسي التربية الرياضة، مولعا بكرة القدم، وهذه واحدة من الهوايات التي كانت تقرب المحادين من قطاع كبير من الطلبة. فقد أصبح المحادين واحداً من أشهر مؤيدي فريق المحرق، ويكون الأمر مشوقا أكثر إذا عرفنا أن أحد أشهر لاعبي فريق المحرق آنذاك كان طالباً معنا في نفس الفصل الذي يدرسنا فيه المحادين، وهو الشيخ حمد بن أحمد الخليفة.

ثمة لحظات كان السجال بيننا وبين المحادين يصل، لفرط الألفة، إلى الانفعال الحار، كما لو كنا فتية حي واحد، ولكونه أصبح بحكم المعايشة يحسن لهجة المحرق وأساليب التعامل باللهجة البحرينية الشعبية بمحمول مفرداتها الماكر ودلالاتها المغلقة على غير أهلها، فهو، مثلاً، لم يتردد في اختراق من يحاول التطاول عليه متسترا باللهجة وكاشفاً تخابثنا، دون أن يشكل ذلك أية حساسية من أي نوع لدينا جميعا. بل أننا سرعان ما ننفجر ضحكاً للموقف الذي نجد أنفسنا فيه مكشوفين أمام معلم أصبح يعرفنا أكثر مما كنا نعرفه، وربما أكثر مما كنا نزعم معرفة أنفسنا في ذلك الوقت. أظن أن تلك أسباب جعلت المحادين صديقا جديراً لأن يحزن بعضنا أو يعترض إذا وضع في فصل لا يدرس فيه هذا الأستاذ.

وحين أتذكر الشأن الأدبي في تلك البرهة، سوف أصادف في المحادين القارئ الذي يحببك في الأدب ويشعرك أنك الشاعر الوحيد الذي يمكنه أن يكتب قصيدة مهمة في هذا الكون. بالنسبة له كان يتحدث عن شيء يحبه، وقد وجدني مولعاً بالأدب بصورة تهدد علاقتي بالواجب المدرسي. لم أشعر أن ذلك الشأن كان يشغله كثيرا، ربما لأنه لم يكن يخشى على الموهبة الشعرية (التي ثبت فيما بعد أنه واثق بها أكثر مني) إذا هي خسرت شيئا من الدرس، مادامت ستؤكد ذاتها بجدارة. ولعله لم يكن بعيدا عما كان يعتمل في نفسي. لقد كانت أحاديثنا في الأدب والشعر تستغرق منا ساعات طويلة لا تسعها الفراغات بين الحصص في المدرسة، مما جعلنا نواصل الاستغراق فيها بجلسات طويلة كنا نقضيها لديه في سكن المدرسين الذي كان وقتها في مبنى بقرب وزارة التربية والتعليم في المنامة، ومن ثم في سكن آخر خصص للمدرسين الوافدين في المحرق بمنطقة القاعدة القديمة. كنت والصديقين، زميليّ الدراسة، خليفة وعبدالوهاب العامر، نقوم بزيارات منتظمة للمحادين لمواصلة الأحاديث المشوقة في حقل كنت أكتشفه بولع لا يضاهى. ولقد تعرفت من خلال تلك الأحاديث على الكثير من قضايا الشعر العربي الحديث الذي كان أستاذي نفسه يجد متعة في الصدى الرائع منعكساً في المحاولات الشعرية التي كنت أحملها إليه في كل مرة، ويقوم هو بوضع ملاحظاته الكثيرة المتعلقة باللغة والقدرة على التعرف على مفهوم الشعر.

وكان في مجلة (الآداب) ودواوين السياب و نازك الملائكة وصلاح عبدالصبور ونزار قباني وحجازي والفيتوري وغيرهم مادة خصبة لنقاش لا ينتهي. وحين استوقفني كتاب نازك الملائكة واعتراضاتها الخليلية على تجربة شعراء مجلة (شعر) المحتدمة في مجلة (الآداب)، أثارتني مسألة البحور والأوزان التي لم تكن بالنسبة لي سوى ضرب من الألغاز والعمليات الرياضية التي كانت سبباً في تخلفي في مادة الرياضيات.

وأذكر أنني بدأت أيامها أطرح على الأستاذ المحادين الأسئلة المتعلقة بالخليل وأوزانه، فقد استثارني الزعم الرئيسي الذي كانت تتوقف عنده نازك الملائكة في معظم أطروحتها. وأذكر أن المحادين كان يتفادى الحديث عن ذلك الأمر في كل مرة، حتى أوشكت على الظن أنه لا يعرف تلك الأوزان. وفي ساعة من ساعات انهماكنا في المناقشة أعدت عليه السؤال معبرا عن رغبة في أن يعلمني بحور الخليل بن أحمد، فنصحني بصرامة : ماذا تريد بالقوانين الخليلية، لم تعد بحاجه لها الآن، انك تكتب شعراً موزوناً بدون أن تعرف الأوزان. اسمع نصيحتي، إذا أردت أن تكتب الشعر لا تشغل نفسك بتعلم الأوزان، لأنني أخشى انك ستفقد الشعر إذا شغلت نفسك بغيره.

لقد أذهلني ذلك الموقف لحظتها، لقد كان ذلك (في اعتقاد تلك اللحظة) نقيضاً واضحاً لكل ما تتمسك به وتراهن عليه نازك الملائكة، وهي من هي في تلك اللحظة من لحظات تجربة الشعر العربي الحديث. فعدتُ أراجع كل تلك الدوافع التي شحنتني للظن بأنني أمام شرط بمثابة الامتحان العظيم لابد من اجتيازه لكي أكون مؤهلا وجديراً بمزاعم الشعر. عدت لأكتشف أن ثمة مساحة إضافية من التحدي يقترحها علىّ شخص يؤكد موهبتي من جهة ويشكك في حدود الخليل وشروط نازك الملائكة من جهة أخرى.

الآن، أعتقد أن تلك اللحظة كانت أول المواقف التي وضعتني في مواجهة الحرية، ثم لم تكف عن التأجج في داخلي طوال الوقت.

بدأت منذ ذلك الوقت في فهم الأسرار الفنية التي يحتج بها أصحاب التجربة الجديدة في الشعر الذين يشكلون لنازك الملائكة خطيئة لا تحتمل. ووجدت في أستاذي، ربما من غير أن يقصد ذلك مباشرة، انحيازاً مبكراً لحريات الشاعر المتوقفة على قدرته على الإبداع. ولعل في ذلك الانحياز تعبيراً لا شعورياً عن النزوع الشعري الذي كان يعتمل في روح المحادين نفسه، وهو الذي كان يكتب قصائده الأولى أيضا، (مازلت أحتفظ ببعضها بخط يده) كما لو أنه قرر أن يدفعني إلى الحد الأقصى من التجربة التي على موهبتي أن تجابهها بالمزيد من الحرية. 

***

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى