برلين، كنتُ في وردة الرماد
القطارات التي تمرّ بي وتعبر مسرعة، مبتعدة، والتي لا ألحق بها ولا أصعد إليها ولا أغادر معها، هي نفسها القطارات التي أذهب معها بأحلامي، وأكون مأخوذاً بها أكثر من تلك التي أكون على متنها، مسافراً بالفعل.
هذا هو الانطباع الذي انتابني حين رأيت القطارات لأول مرة في حياتي، وخصوصاً تلك القطارات الأوروبية الفائقة السرعة التي ما أن تنغلق أبوابها المعدنية أمام كيانك الهشّ، حتى تنطلق عابرةً طبيعة لا سلطة لحواسّك عليها، مخترقةً أماكن لا تراها إلا لمحاً، ومارقةً الفيزياء غير ملتفتة لأحلام الناس المنتظرة، المتأخرة، والخاسرة. ****
أيّ معنى، يُمكن فهمه أو ابتكاره أو اكتشافه، لترك البيت والسفر للإقامة في مكان آخر: مكان بعيد، غريب، متعذّر التنبؤ به؟
ثمة جناح شاسع من سماء زرقاء يحلّق ويهبط ليسلّمني لحضنٍ أخضرَ،
كنتُ في الطائرة، أحملق بعينين تائهتين يتوجّب انتشالهما من الندم.
لكن،
ما إن انسحقت عجلات طائرة الخطوط البريطانية على أرض مطار برلين، حتى شعرتُ بأنّ التجربة أكثر من جديرة، ولا يليق بالكاتب أن يتأخّر عن تجربته مهما كان السبب.
مطار برلين، لأول وهلة، منحني شعوراً غامضاً بأنني في القرية المجاورة. مطار صغير وغير متوقع، نظراً للسمعة والمكانة التاريخية لمدينة برلين. فما إن خرجت من باب الطائرة حتى صادفتُ الحقيبة أمامي، سحبتُ الحقيبة الثقيلة واستدرتُ بها للخروج، فوجدتُ السيّد (توماس هارتمن) يلوّح لي باطمئنان. بادرته بدفقة اعتذار كثيفة عما سببته له من إرباكات طوال أشهر الإعداد للزيارة.
- هل انتظرتَ طويلاً ؟
أجابني توماس:
- كنتُ سأنتظركَ على كل حال.
يتوجّب عليكَ أن تصادف شخصاً يستقبلك في المطار مثل السيّد (توماس)، لكي تنال شعورَ الإطمئنان باكراً في البلد الغريب الذي تضع قدميك فيه. ثمة طاقة حميمة يحسن هذا الكائن بثّها في روحكَ. ليس، فقط، لفرط قدرته على دفق الحديث المتسارع المرح فيما يقدّم لك تفاصيل الطريق والمكان ولمحات تاريخية عن زمانه، لكن خصوصاً لكونه يرغب في وضعك داخل المدينة دفعةً واحدة بالعديد من المختصرات، لكي يحلو له التفرّغ، كلما تسنى له الوقت لرفقتك، لعرض المزيد من التوسّع في تفاصيل هذه المعلومة أو تلك.
بعد أن انطلقنا بسيارته الحمراء الصغيرة ، اكتشفتُ أنني كنت كمن يواصل معه حديثاً انقطع يوم أمس.
كان الطريق سبيل الإسترخاء بعد توتّر استغرقني أياماً طويلة.
هل أنا في قرية العالم؟ ****
احتجتُ إلى ظهيرة كاملة، بعد أن تركني (توماس)، كي أستعيد توازني الروحي، وأبحث عن انسجام فيزيائي مع فضاء الشقة. هذا هو الطابق الرابع والأخير من المبنى. سعيت إلى بعض الأوكسجين لتنشيط الدم المتخثّر، لكن ما إن فتحتُ النافذة حتى انهالت أضواء الشمس الجديدة من سماء بالغة الزرقة وحشود لا نهائية من خضرة الأشجار.
هذا هو الهجوم الأول والهزيمة الثانية.
لقد كنت وسط واحدة من أجمل غابات برلين وأكثرها كثافة، أو على الأقل هكذا شعرتُ لما اجتاحني من الخُضرة الآسرة.
أخذتُ نفساً عميقاً،
وتذكرتُ فجأة لحظة بَسَطَ لي (توماس) رسالة الدعوة في واحدة من ليالي مدينة المحرق، حين جاء العام الماضي برفقة قافلة (فاطمة المرنيسي) في زيارة ثقافية إلى البحرين.
قلتُ في نفسي: ليس ثمة عبث في ما ترسمه لك أقدار الكتابة.
فالمحرق ليست كل العالم. ****
في الشقة، ذات الأرضية الباركيه الخشبية، كنت أتمنى أن أطفو مرتفعاً عن الأرض لئلا أسمع وقع خطواتي التي ظننت أنها تفزع كل ساكني الأدوار الأربعة في المبنى. كيف يحتمل الآخرون سكناً يَصُرّ تحت أقدامهم طوال الوقت، وكل هذه السنين، وربما مدى العمر. كنت أتفادى النهوض عن سريري قدر الإمكان، متنازلاً عن الحاجات الضرورية طوال الليل، لئلا أوقظ قاطني المبنى، خشية أن أتعرض للتوبيخ في الصباح.
ضحك أحد الأصدقاء عندما أخبرته بالفكرة التي تفزعني في غرفتي المُوحشة، وقال لي: على العكس، يتوجّب أن تكثر من السير في الشقة، كي، على الأقل، تُؤنس وحشتك، وأنتَ وحدك في الليل والنهار.
لا أعرف،
ربما أعجبتني الفكرة لحظتها، لكن دون أن أجرؤ على تطبيقها. ****
يمكنني وصف حالتي بالمجنون التائه في اليوم والليلة اللذان قضيتهما في الشقة بدون خدمة الإنترنت، وربما حسبت أن تلك بداية غير مناسبة، لئلا أقول غير متوقعة، وأنا الذي وضعت توفّر خدمة الإنترنت شرطاً أولاً في الإتفاق مع السيّد توماس.
وأوشكتُ على الفزع إلى درجة أنّ أحلاماً كابوسية قد نجحت في تحويل ليلتي الأولى في برلين إلى ما يشبه الهستيريا المكبوتة، وشعرتُ فجأة أنّ الجحيم يكمن لي في السرير لشدة الحَرّ، فوجدتُ نفسي أتصل بالسيّد (توماس) هاتفياً لكي أخبره أنني لا أستطيع النوم في هذا الجوّ الخانق. ولكن ما إن سمعت صوته على الطرف الآخر من الخط، حتى شعرت فجأة بالحماقة التي ارتكبتها وأنا أزعج هذا الشخص وسط عائلته، -و(توماس) من النوع الذي تشعر به على الفور- فما كان منه إلاّ أن تنفّس الصعداء كمن يستعيد طاقته على استيعاب ثورتي غير المتوقعة، وقال لي أنّ الطقس عنده جيّد، وما عليّ إلا أن أفتح النافذة في الجانب الآخر من الشقة لكي أترك الهواء يتخلل المكان. كانت هذه الملاحظة بمثابة الصدمة لذهني الشارد، وخجلت أن أشرح لحظتها كيف أن الخلل ليس في الطقس وإنما في الوحشة التي تكفلتْ بليلتي الأولى في المكان الغريب، وحيداً بلا نافذة الإنترنت.
حسناً،
سأفتح النافذة في الشقة، لكن ماذا عن نافذتي الأخرى المطلة على الكون؟
أجّلت شرح الحالة إلى اليوم التالي.
لم يكن ذنب (توماس) ولا غيره،
حظي أنني وصلتُ في نهاية الأسبوع، العطلة المقدّسة في عالمهم، حيث لا أحد يترك عائلته لكي يمدّك بتجهيزات خدمة الإنترنت، وعليّ الإنتظار حتى صباح اليوم التالي؛ الإثنين.
بدأ صباحي يوم الإثنين باكراً، وجلستُ أنتظر أخصائي الإنترنت الذي جاء في موعده تماماً، التاسعة والنصف، وكنت أنتظره منذ السادسة.
كيف يمكنني تفسير ما يحدث لي كلما تعذّر أو انقطع اتصالي بالإنترنت؟
في برلين، كما في كل مكان أسافر إليه، سيكون توفر الإنترنت في الغرفة شرطاً لازماً يتوقّف عليه تلبية الدعوة .. هذا شرطي الوحيد، لا أكثر ولا أقلّ.
في برلين، منذ يوم الإثنين المبارك، كانت خدمة الإنترنت في الشقة أكثر من ممتازة. فضلاً عن ذلك كان هناك خط هاتف دولي متاحاً طوال إقامتي، غير أنني لم أكتشف ذلك إلا قبل رحيلي بيوم واحد، وبقيت طوال الوقت أستخدم هاتفي المحمول في الإتصالات الدولية.
لقد كانوا على قدر كبير من الكرم، ولم أكن متطلباً بما فيه الكفاية. ****
ألمانيا برمّتها منشغلة، عن كل شيء، بكأس العالم. فدورة 2006 تقام مبارياتها في مدن ألمانية مختلفة ومن بينها برلين التي تحوّلت إلى معسكر حماسي لتشجيع بالغ التنوع، لفرق مختلفة، أبرزها، بعد الألماني، الفريق البرازيلي.
يأتي التشجيع هنا، بعد الفريق الوطني، لمن يلعب جيداً، وخصوصاً لمن يعطي نتيجة جيدة في صالح الفريق الألماني. برلين صارت بفوز ألمانيا على الإكوادور ساحةَ كرنفالٍ وطني، ليس فقط لفوزهم بثلاثة أهداف نظيفة وبارعة، ولأن فريق الخصم خطير إلى هذا الحد، لكن لأن هذا الفوز منح الفريق الألماني النقاط الكافية لتفادي اللعب مع الفريق الإنجليزي، الخصم التقليدي في مثل هذه المناسبات.
للوهلة الأولى، ستبدو مصادفة المونديال غير مناسبة، أو مُربكة، لزيارة أدبية كهذه. غير أنني سرعان ما شعرت بأن الأمر ليس فقط أكثر تشويقاً من الأيام العادية، لكنه ساهم (حسب ملاحظة أصدقاء ألمان أيضاً) في خلق مناخ إجتماعي وضع الألمان، المعروفين بجديّتهم وتحفظهم، ضمن سياق نفسي وحالة إجتماعية مبهجة، بحيث يسهل معها على الغريب الإستمتاع المشترك بالحالة الجديدة للناس، وهذا مما ساعد فعلاً على إقامة لحظات نادرة من الإتصال بنماذج مختلفة من الألمان، وبمستويات ثقافية غنية التنوع.
ربما لأن أنخاب (العالم) التي كنت أتبادلها مع الكثيرين في المراكز الثقافية والمقاهي والساحات العامة والحدائق، في جو شعبي بالغ الحيوية، هي أنخاب كونية الروح بالمعنى الدقيق للكلمة، حيث تصل أعداد الحشود أحياناً إلى الآلاف، مشدودة إلى الشاشات العملاقة لمتابعة المباريات متخففة من الأعباء الإجتماعية التقليدية التي عادة ما تحبس الألماني في حدود ضيقة.
ما عليك إلاّ أن تأخذ الشراب الذي تحب،
وتأخذ مكاناً أمام الشاشة بين الجالسين أو المفترشين أرض المكان،
وتأخذ لك فريقاً تشجّعه،
وتأخذ الأمر مأخذ المتعة،
ثم تأخذ كل ما سيحدث بروح رياضية،
وتأخذ راحتك على الآخر. ***
الرياضة هي أيضاً ضربٌ من الثقافة..
في برلين، سيبدو الأمر بمثابة الطقس اليومي تحت قبة شاهقة وشاسعة من ألوان المتعة الإجتماعية، ليس فقط لمن لم يعش موسم الدورة العالمية لكأس العالم في مدينة غربية، لكن خصوصاً لمن جاء من بلاد احتكر فيها مالكو الأرض والفضاء حق بث المباريات بطريقة تحرم ملايين العرب من متابعة متعتهم الرياضية الأعظم.
أقول ثقافة، لكي أشير إلى مفارقات لا تكفّ العقليات الإحتكارية من وضعنا في مهبها قرابين التجارة الفجة.
في برلين، فيما أزورها للشأن الأدبي والثقافي، سيصادف أنني أكتشف فداحة ما يحدث من حجب تدريجي لأبسط متع الكائن في مناطقنا التحت أرضية.
ثقافة، لأن مصادرات الثقافة عندنا، وهي شأن نخبوي لا يزال، ستطال يوماً بعد يوم الحاجات الشعبية العامة، أخشى أن لا تكون المتابعة الرياضية آخرها.
في برلين، ستلاحظ كيف يستوي، الذين يلعبون والذين لا يلعبون، في لحظة انطلاق صفّارة الحَكَم لبداية المباراة، ومن لم تتح له ظروفه الحضور الحيّ في ملاعب المدن الألمانية، يستطيع متابعتها عبر شاشات العرض العملاقة في كل مكان، من غرفة البيت إلى أكبر الملاعب والساحات والحدائق العامة.
أقول ثقافة، أيضاً، لكي أشير إلى أن أول مباراة تابعتها في برلين كانت في أحد أكبر المراكز الثقافية في هذه العاصمة العريقة ثقافياً وهو (بيت ثقافات العالم)، حيث كانت أصوات مئات المشاهدين تتعالى في قاعة المركز الكبيرة، التي كانت تشهد في الأيام نفسها أكثر من نشاط ثقافي وفني، مثل المعرض الخاص بأمريكا اللاتينية من كتب وأشغال ومصنوعات فنية، كما كان هناك حفل موسيقي برازيلي، وحفل أكاديمي لمناسبة تخرّج فوج جامعي جديد.
كل ذلك في المبنى الكبير ذاته الذي يشكّل تحفة معمارية بعد إعادة تعميره في السنوات العشر الأخيرة، وهو المشروع الثقافي المتخصص والمفتوح لفعاليات الفنون العالمية، ليتحول من مرفق حكومي على حدود سور برلين، مجاوراً للنهر، إلى مركز إشعاع ثقافي تتجاوز نشاطاته حدود ألمانيا، مسهماً في الحوار الثقافي مع شعوب العالم.
منذ اليوم التالي لوصولي برلين، شعرت برغبة لابدّ أن أستجيب لها وأقنع بها الأصدقاء منظمي برنامج زيارتي، أن يشمل برنامج زيارتي حضور أهم مباريات كأس العالم. كنت أظن أنني أقول شيئاً جديداً، ففيما كنت أحاول شرح اقتراحي، أخبروني بأن ذلك مأخوذ بعين الإعتبار، وليس هذا فحسب، بل كانوا قد برمجوا مواعيد ندوات برنامجنا في الأيام التي تخلو من مباراة مهمة، أو من مباراة يلعب فيها الفريق الألماني.
بهذا تيسّر لي أن أتابع أهم المباريات إذ كلما كانت الرياضة شأناً إجتماعياً، صار لها أن تتقاطع مع الشأن الثقافي وتغنيه وذلك بوضع الروح المتعصّبة في مهب الروح الرياضية.
كيف سيتسنى لنا أن نرى إلى الولع بكُرَة القدم بوصفه شأناً ثقافياً، ونحن في سياق إجتماعي ومعرفي، وضمن منظومات لا ترى في الثقافة ذاتها شأناً إنسانياً، منصرفة إلى الرياضة باعتبارها حقلاً أكثر أهمية من الثقافة، الأمر الذي يجعلنا نخسر الإثنين معاً: الثقافة والرياضة.
الطقس في برلين، شارك باعتداله في جعل الأيام الرياضية مشمسة، طريّة تسمح بالإنطلاق خارج البيوت، في الساحات والحدائق، وهو ما لا يحدث كثيراً حتى في مثل هذه الفترة من السنة.
كأن الطبيعة صارت أيضاً رياضية. ****
قبل موعد الوصول بأيام قليلة، بعث لي (توماس) يخبرني بتأجيل رحلة الضيف الألماني (إيليا توريانوف) لإضطراره البقاء في ميونخ لحضور حفل استلامه الجائزة المهمة التي حصل عليها عن كتابه الجديد (جامع العوالم).
بقي (إيليا) لحضور المناسبة الإستثنائية التي يستحقها بالفعل، وليستجيب للعديد من البرامج التلفزيونية واللقاءات الصحافية مع وسائل الإعلام العالمية، ثم ليتابع الصعود السريع الملحوظ لمبيعات كتابه الحاصل على الجائزة.
قلت: هذا فأل الطيّب.
****
مؤلفات إيليا ترويانوف:
- الأسطورة والحياة اليومية في شرق أفريقيا 1993
- حراس الروح مقابلات مع كبار السن في زيمبابوي،
1996(بالاشتراك مع الكاتب الزيمبابوي شينجاري هوف)
- كتاب عن عودته إلى بلغاريا 1999
- على خطى الرحالة المستشرق ريتشارد بيرتون
(كتاب عن رحلة إلى تنزانيا) 2001
- على امتداد نهر الكنج: إلى الضفاف الداخلية للهند
(عن رحلته إلى الهند) 2003
- الحج (إلى المنابع المقدسة للإسلام) 2004
- جامع العوالم.
- أكاديمياً : درس علم الأجناس الإثنولوجيا وهذا ما قد يفسر توجهه في الكتابة)
أعتقد ان اختياره خضع لتجربته في الأجواء الحارة واهتمامه بالكتابة عن الرحلة .
- إنه عالم كبير وملاجئ إنقاذ في كل مكان (أولى رواياته)- 1996-
(عن عائلة من البلقان تلجأ إلى إيطاليا)
- مراسل لعدة صحف ألمانية في الهند 1998
|
تعرّفت على (إيليا توريانوف)، في البحرين، ثم واصلت الإقتراب من مشاغله اليومية في برلين وميونخ، وهو لا يزال في غمرة مشاغل ومتطلبات فوزه بالجائزة، ليصبح أحد الشخصيات الشهيرة في ألمانيا. راقبته عن كثب وهو في قلق كتابة مقالته الأسبوعية، ذهبت معه إلى مكان عمله، والشقة التي يقيم فيها وتقع في المبنى ذاته الذي يعمل فيه في دار النشر المتخصصة بالكتب الفنية والمصورة وتصميم وإصدار المطبوعات المختلفة. حضرت معه أكثر من مقابلة صحفية وإذاعية كان فيها يتحدث عن حياته وكتبه. لاحظت أنّ الذين يعبّرون عن إعجابهم بتجربته، لا يشيرون فقط إلى أسلوبه الحيوي وطريقته في التعبير الأدبي، بل ويمتدحون أيضاً طاقة السفر لديه لإكتشاف العالم مباشرة، وبكل حواسّه، في زمن تندر فيه التجارب المهمة الخاصة بأدب الرحلات. ربما موهبة (إيليا)، في ما لمسته من بعض مما تُرجم من كتابه الأخير إلى العربية، تكمن في قدرته على خلق ذلك المزيج الفعّال من السرد الروائي وما يمتلكه من لغة شعرية ومعرفة، وقدرة على الوصف المباشر وخلق التشويق المكتشف في لحظة إبداعية متفجرة العواطف، خصوصاً في وقت قد لا يكترث فيه القارئ بكتاب يتصل بالمعرفة إذا لم يتوسّل التشويق الأدبي ورشاقة الأسلوب. سوف ينتظر القارئ العربي بعض الوقت ليتعرّف على رحلات هذا الكتاب ولغته الأدبية، وحسب (إيليا) فإنّ ثمة مشروعاً وشيكاً يجري الإتفاق عليه لترجمة كتابه (جامع العوالم) إلى العربية عن طريق دار نشر عربية في ألمانيا.
****
منذ أيامنا الأولى، وكلما صادفتنا معضلة أو موقف يشي بتخلّفٍ ما، أقول: ماذا نفعل، سنحتاج بعض الوقت لكي نتجاوز هذا.
يقترح (إيليا توريانوف) حلاً جذرياً : الثورة ..
غامزاً من قناة تجربتي السياسية.
فأضحك قائلاً: لقد فات أوان الثورة بمثل تلك الطريقة.
لكنه لا ييأس، مؤكداً أن ثمة طرقاً وأشكالاً مختلفة للثورة .. لئلا يتأخر هذا المجتمع عن العالم.
ثمة حلم حقيقي وصادق يصدر عنه الصديق الألماني، فهذا الذي عاش واختبر أكثر مناطق العالم فقراً وتخلفاً وبعداً عن سياق الحداثة، يعرف جيداً قسوة أن يظل المجتمع محروماً من حقه في الحضارة. غير أن الأمر سيختلف بالطبع هنا. البحرين ليست أفريقيا ولا الهند، كل هذه البلدان المختلفة قائمة على منطقها الخاص. المشاكل والمعضلات في البلاد العربية تزداد تعقيداً دون أن تحصل على فرصة لإيجاد حلول جذرية. هناك الحروب المتواصلة، المستعرّة تحت سَمْع وبصر أنظمة غير مكترثة بتوفير أوضاع تستحق الأمل على الأقل.
غير أن (ايليا)، فيما ينطلق بفتوّته الحماسية، مقترحاً تجربة أدبية تتصل مباشرة بالعمق الإنساني للحياة، متسلّحاً بموهبة جديدة وأسلوب أدبي أخّاذ (حسب تعبير أكثر من قارئ ألماني سمعته)، منخرطاً في العمل الصحافي الحُرّ، من شأنه أن يمنحنا فرص التعرّف على تجربة المثقّف الكوني، كما أحببتُ أن أسمّيه أثناء حوارات برلين. وظني أن التكريم الذي ناله بعد فوز كتابه (جامع العوالم) بالجائزة، واحتفاء جهات ألمانية وعالمية رصينة بتجربته، وترجمته إلى لغات عدة، كل ذلك كان بمثابة التحيّة الحضارية للشخصية الجديدة للمثقف الكوني.
يقدّم (إيليا) نموذجاً لافتاً لمصادر تجربته الثقافية المتجذّرة في موطنه الأصلي بلغاريا، ثم انتقاله المبكر إلى ألمانيا بعد فرار عائلته من العسف الشيوعي في منتصف الخمسينات، وتمتعه بالجنسية الألمانية. في كتاباته يهتم باكتشاف ودراسة وكشف آفاق المجتمع الإنساني في جوانبه المتأزّمة، اجتماعياً واقتصادياً وحضارياً، منتجاً نصوصاً باهرة (عن أفريقيا وآسيا) مصقولة ببصيرة المثقف المبدع وبحثه الجاد والطموح. إنه يقدّم تجربة مشحونة بالدلالات، فيما ينهمك في تلك القضايا بحريّة ومن غير عُقَد تقليدية غالباً ما يتعثّر بها مثقفون كُثر مثقلون بإرث تاريخي أو رازحون تحت وطأة أيدلوجيا جاهزة. إنه يذهب إلى كل تلك المناطق الفقيرة والمتخلّفة، بشغف الباحث، وليس فضول المتفرّج.
(إيليا توريانوف)، كلما توغّلت معه في حوارنا المتقطع، تكشّفتْ لي مسألة غاية في الأهمية، وهي كيف تُقيم حواراً مع مثقف وأديب ينتمي إلى لغة أخرى، وإلى جيل أكثر منكَ حداثة؟
بالنسبة إليّ، لم أتعثّر بفارق العمر بيننا. وهو أيضاً لم يبدِ تبرّماً او استياءً من طبيعتي المُحافظة التي تبرز بين وقت وآخر، بل سوف يصادف ما يناسبه مع أولادي، دون أن تفوته فرصة إطلاق التعليقات الذكيّة على ذلك.
في الفصول التي قرأتها من كتاب (إيليا توريانوف)، التي ترجمها ببراعة المترجم الفذّ (جونتر أورت)، تعرّفتُ على السرد الروائي السلس والمشوق الذي استطاع (ايليا) أن يشدّ به القارئ، كما تبيّن لي ما يمكن وصفه بالحساسية الإنسانية التي يشي بها النص طوال الوقت. لقد كان قادراً، كما يكشف الجزء المُترجم، على الإحتفاظ بالمعادلة الرشيقة بين ذهنية السرد التاريخي وجماليات الفن الروائي، ولعلّ هذه الخاصيّة قد ساعدت على وضع كتاب (جامع العوالم) في سياق متميّز من التجارب الأدبية، دون أن تقلّل من أهميته الصحافية التي يهتم بها عمل (إيليا توريانوف) المهني.
وتجدر الإشارة هنا، حسب مختصين ألمان، إلى موهبة ترويانوف اللغوية، حيث يكتب بلغة غير لغته الأم، ويجيد استخدامها على أحسن وجه... والألمانية أصعب من الإنجليزية.
****
منذ اللحظة الأولى سيبدو الإختلاف بيني وبين زميلي في هذا المشروع بالغ الإتساع، إذ أنّ طبيعة الكاتب (إيليا توريانوف) وتجربته وخبرته تختلف تماماً عني، فهو الأديب المعروف أساساً، نصاً وشخصاً في كونه أحد المأخوذين بالسفر بوصفه مصدراً للإبداع ولطاقة الكتابة، وقد اشتهر بذلك، ونال جائزة، كما سلف وذكرنا، عن أحدث كتبه (جامع العوالم)، والذي أخذ منه سنوات أمضاها في الكتابة عن رحلاته.
ربما هذه المصادفات هي واحدة من نقاط التشويق التي ستمنح تجربتنا المشتركة جانباً من الطرافة، وستتيح لشخصين من جيلين ولغتين وتجربتين مختلفتين فرصة اكتشاف عالميهما، المتباعدين وربما المتناقضين، من خلال هذا الإختلاف.
حين أتى (إيليا توريانوف) البحرين، بدا كمن ينتقل من غرفة إلى أخرى في البيت نفسه الذي يعرفه جيداً، فبيته الآن هو العالم.
أما بالنسبة إلي فقد بدت التجربة ضرباً من المعاناة، دون أن تفقد تشويقاً من نوع ما.
****
على رغم الفتنة التي أدهشتني لأول وهلة فيما كان السيّد (توماس هارتمن) يطرح عليّ فكرة الإقامة في برلين عدة أسابيع، فإنّ لاوعي الكائن المتحفّظ فيّ، والذي يُؤثر السكون والإستقرار، استيقظ مستنفراً ضد رغبة الكائن الآخر فيّ الذي يميل إلى السفر والإكتشاف. وبدأت أضع العراقيل أمام الدعوة وأبتكرها في حرج وحيرة، متذرّعاً بطول الفترة ومشاكل اللغة وتفاصيل بلا معنى. فيما بقي السيد (توماس) طوال أشهر الإعداد للزيارة يعبّـر عن حماسه للفكرة، محاولاً تشجيعي وشدّ أزري، حتى أنه حاول إزالة كل العقبات مُلبياً رغبتي في اختصار فترة الإقامة من ستة أسابيع إلى ثلاثة.
كيف يمكن لأحد أن يفوّت فرصة إنسانية باهرة كهذه؟
لا أُحسنُ التقدير بلا قلق، فأنا الذي كنتُ أستجيب لكثير من الدعوات الأدبية في السنوات الأخيرة، والتي غالباً لم تكن تستغرق أكثر من خمسة أيام ، في أحوال كثيرة كنت أختزلها لأعود سريعاً إلى البيت.
غير أنّ برلين أمر مختلف، وكان عليّ معرفة هذه الحقيقة مبكراً، لئلا يكون شعوري بالخسارة فادحاً إلى هذا الحدّ. فقد كنت ضحية نوع مما يمكن تسميته (فوبيا الغياب عن البيت)، إلى درجة أنّ شعوراً بالمرض الجسدي انتابني يوم السفر، مع اضطراب في دقّات القلب، وبعض القلق، فاضطررت إلى تأجيل رحلتي عدة أيام عن الموعد المحدد، الأمر الذي أوقعني في حرج كبير وأربك برنامج الزيارة المُعدّ سلفاً برفقة زميلي في المشروع (إيليا توريانوف).
الآن،
يمكنني قول التالي:
حتى لو كان مكسبي الوحيد من هذا المشروع التعرّف بـ(إيليا توريانوف)، فهذا مكسب جيد وكافٍ، وكان جديراً بالمغامرة.
****
سَكَن (برنامج الفنان المقيم) التابع للأكاديمية الألمانية، شقة في الدور الرابع والأخير، من عمارة طاعنة في التاريخ وبلا مصعد. لعلّ هذا كان امتحاناً بمثابة النعمة.
حتى أن الألم الصغير الذي حملته معي، وجئت أصعد به ببطء ثقيل درجات السلّم التي لا تكاد تنتهي في تلك العتمة المريبة، كان لا يني يكبر ويتضاعف في كل مرة أصعد فيها، وربما مع كل درجة من ذلك السلّم المفرط في حياده، إلى حد أنني، فيما أرتقي تلك الدرجات كان ينتابني شعور ممض بأنني أنحدر من جرف سحيق.
قادم من حالة تضاهي المرض، مع حقيبة ثقيلة، وحماس منقطع النظير إلى مكان يضاهي البيت. فما كان من السيد (توماس) حتى تجشم معي عبء حمل الحقيبة عبر الأدوار الأربعة، وراح يعرّفني بمكان الإقامة.
طمأنني بدايةً إلى أنّ خدمة الإنترنت ستكون متوفرة صباح الغد، ذلك أن اليوم هو الأحد ولا أحد يعمل. سبقني فهزمني، عادة لا أستطيع الإنتظار ليلة واحدة.
لا ينقص الشقة شيء على الإطلاق؛ من الهاتف إلى ورق الكتابة إلى تجهيزات المرافق الأخرى. يبقى فقط أن أفتح حوار استئناس مع كل هذه التفاصيل، وحدي.
عرفت من (توماس)، أن العمارة مخصصة لضيوف مؤسسة (DAAD) في مشروع الإقامات الفنية في برلين.
كل منهم في مكانه، لديه مفتاح الباب الرئيسي ومفتاح شقته. لم ألتقِ أحداً، لم أتعرّف بأحد.
وليس من العدل إرجاع وحشة المكان ليلاً ونهاراً إلى التزام كل المقيمين بشققهم، فالمكان ليس للإجتماع، إنما للنوم والعمل.
ثمة مواقع أخرى تستطيع فيها اللقاء بمن تريد.
****
ليس الإحتفاظ بذاكرة الحرب فحسب، لكن الإستمرار في صقل هذه الذاكرة بما يجعل المرء قادراً على النجاة من تكرارها في الحياة الجديدة.
طرأت هذه الفكرة في بالي وأنا أتأمل دلالة الإبقاء على كنيسة (شارع كودم) المصابة من جراء الحرب العالمية الثانية، إنها بمثابة الاحتفاظ بدرس الموت للحياة.
كذلك الإحتفاظ بأثر سور برلين بعد هدمه، لئلا تتعرض الذاكرة للسهو والنسيان. فليس عبثاً ومن غير دلالة، الإحتفاظ بأثر امتداد سور برلين داخل أرض المباني المشيّدة حديثاً على طريق السور بعد إزالته، ولعل اللافت خصوصاً أن ذلك يحدث في بهو المبنى الجديد لإذاعة برلين. إذ عندما دلفتُ ذلك المبنى الضخم، برفقة الصديق (إيليا توريانوف)، حيث سيتم تسجيل لقاء إذاعي معه، لاحظتُ على أرضية البهو خطاً رخامياً يبرز بشكل لا يستقيم مع بقية هندسة المكان بحيث يبدو كما لو يشطر المكان، لكنه ينسجم فنياً مع العمران العام.
عندما سألت عن ذلك، شرحتْ لي الموظفة التي كانت في استقبالنا، أنّ سور برلين كان هنا. عند خروجنا من المبنى شاهدت جزءاً قديماً من السور لا يزال محفوظاً أمام المبنى الجديد، لكي نلاحظ كيف يشكّل هذا الجزء امتداداً هندسياً للأثر الحديث الموجود داخل البهو.
لاحقاً، بدأتُ ألاحظ أن ثمة مواقع كثيرة في الشوارع والمنعطفات وبعض الحدائق القديمة أو المشيدة حديثاً لا تزال تحتفظ بأثر رمزي من ذلك السور الذي صار جزءاً من تاريخ ألمانيا الحديث.
وكأن هناك من يريد أن يقول بأن ثمة درساً يتوجّب تفادي تكراره.
****
كلما عبرت تقاطع شارع كودم مع شارع آخر ولمحت اللافتة الكبيرة التي تشير إلى متحف، "إيروتيك"، غالبتُ رغبة مكبوتة لزيارته، مستسلماً لفتنة الدلالة الإجتماعية التي يشير إليها.
أكثر من ألماني كان يبدي عدم ارتياحه لفكرة هذا المتحف، حين نعبر ذلك التقاطع، لكنّ أحداً لم يعترض على وجوده، فكل فرد له حرية أن يحب ما يشاء دون أن يكون ذلك الموقف حكماً يصادر حق من يحب ذلك في برلين.
أعرف أن في برلين مظاهر أكثر جرأة وتحرراً من هذا المتحف، لكنني رأيت في هذه الفكرة ضرباً من النظر إلى هذا النوع من النشاط الإنساني بوصفه جزءاً من التاريخي البشري الذي يتوجّب رصد مراحل نشوئه وتطوره وتأمل تحولاته وتبلوره في الحياة عبر التاريخ.
وربما سيتحتم علينا التعاطي مع هذا الأمر بقدر كاف من الحسّ الحضاري، في معزل عن الحساسيات الطهرانية التي قد تفوّت علينا أحياناً فرصة اكتشاف ما يقترحه العقل والخيال البشريين في الطبيعة الإنسانية المتعلقة بالنزوع الجنسي، الذي ربما سيظل أحد أكبر مكونات وعناصر ودوافع حياتنا.
بقيت حتى مغادرتي برلين خاضعاً للترسّب الإجتماعي، الذي يحول دون إبداء رغبتي في زيارة ذلك المتحف، فأتيقن مجدداً من سطوة التربية التقليدية التي تشدّني إلى اتخاذ بعض المواقف الرجعية حتى الآن.
فأسأل، كيف يتسنى لنا التعرف على أنفسنا، في البيت وخارجه.
****
من شرفة الطابق الأعلى من مبنى إذاعة برلين، يمكنكَ أن تشاهد البانوراما العمرانية المشيّدة بعد سور برلين، بمظاهرها وخطوطها الهندسية الأكثر حداثة، والممتزجة، في إيقاع بصري رشيق، بعدد كبير من القبب المذهّبة المنتشرة، والتي تشير إلى المباني القديمة ذات الهندسة التاريخية التقليدية، الأمر الذي أضفى على المنطقة رونقاً باهراً يجمع بين الإحتفاظ الواعي بالأثر العمراني القديم، وهي ظاهرة تميزت بها برلين، وبين النزوع الحضاري للعمارة الجديدة.
ومن الشرفة ذاتها يمكنك ملاحظة مجمّع مباني الحكومة الألمانية، بكل المرافق المختلفة والمخصصة لعائلات موظفي الحكومة.
فهمت من مرافقتنا أن ثمة من يرى في هذا المشهد الجديد جواباً متناغماً على أسئلة مرحلة ما بعد السور.
عند الألمان، سيظل هدم السور حدثاً يُشار إلى ما قبله وما بعده بوصفه نقطة انعطاف فاصلة في التاريخ الألماني الحديث. لكن دون أن يكون هذا الوصف حكم قيمة نوعية على ذلك الحدث، فليس كل ما يحدث ويصير واقعاً هو أمر حقيقي ناجز، ثمة أكثر من جيل سيختلف في تقدير ذلك الحدث، ليس كحدث توحيدي في حد ذاته، لكن باعتبار المنجز الإيجابي المتحقق بعد ذلك، وما إذا كانت إدارة ذلك التحوّل مُنتجة ومُثمرة من قبل فئات مختلفة، من الجيل القديم والجيل الشاب، لديهم ما يستحق التوقف والإصغاء، عندما يحتفظ بعضهم برأيه وانطباعه وتحفظاته. يقال أن المستفيدين من ذلك التحوّل فئة محدودة، وأن البعض، ممن فقد إيجابيات العهد الإشتراكي في ألمانيا الشرقية، لم ينل ما وُعَد به وجرى الكلام عنه في العهد الرأسمالي، ربما لأن آليات العمل ووسائط العيش (الفردية) لم تصادف استعداداً ذاتياً لدى الجيل القديم الذي كان يتمتع بتأمينات ومعاشات (اشتراكية). في حين أن قسماً كبيراً من الأجيال الشابة سيجدون في منطلقات التحرر، في المرحلة الجديدة، ما يستجيب لنزوعهم واحتياجاتهم، وهم الأجدر بالمستقبل، ويحق لهم هذا دائماً.
****
عند السيّد (توماس)، الشيطان ليس في التفاصيل، فثمة ملاك مستنفر يجعل (توماس) محض راصد يقظ يعتبر تفاصيل زيارتكَ وشؤون احتياجاتك في أعلى سلّم اهتماماته ومن أولويات نشاطه اليومي، منذ استلامك رسالة الدعوة وحتى وداعك في مطار برلين راحلاً.
سيقول لك، معتذراً بكياسة، يوم وصولك واستقبالك واستقرارك في مقرّك ببرلين، أن طبيعة التزامه بعمله اليومي قد تأخذه عنك طوال الأسبوع فيما عدا السبت والأحد إذ سيخصص لك الوقت كله. لكنك لن تفتقده أبداً، لأنه سيفعل الشيئين معا،ً حيث سيؤدي مهماته الخاصة دون أن يغفل عن برنامجك اليومي، إما من خلال اتصاله الهاتفي بك شخصياً، أو من خلال المرافقين العاملين والمتعاونين معه في برنامج الإستضافة. هكذا تكون حاضراً في صلب برنامجه اليومي طوال الأسبوع، أيام العمل وعطلة نهاية الأسبوع، لا يغفل عنك ولا يترك لك غفلة عن نفسك.
مجموع رسائله الإلكترونية التي أحتفظ بها في ملف الزيارة، تكفي لاستكمال ملف نموذجي عن شخص يبسط طقسه البرليني على ضيف يتعثّر في زيارته الأدبية.
غير أن حديث (توماس) المتدفق سوف يحقق عدة أمور في اللحظة نفسها، إذ ستكتشف شخصاً يحسن ما يفعله دون ادعاء، ويكسر جهامة المؤسسة، وهو على الأخص سيفسّر لك الموج الحاشد من خضرة الأشجار التي تبدو كأنها تفيض على الغابة المترامية التي لا نغادرها على طول برلين وعرضها.
مع (توماس)، أنت تسير مغموراً بالإثنين: خضرة الشجر الطائش على الغابات، وموج كلام (توماس) المتدفق شارحاً تفاصيل المكان الألماني، منذ التاريخ حتى محتملات النص غير المرئية.
سيارته الصغيرة الحمراء التي اختطفتنا من بوابة المطار الحميم، هي ذاتها التي ستعرف الطريق ربما أكثر من قائدها. وفيما هو منهمك في التعريف بتفاصيل الطريق، وأنا أصغي إليه منتبهاً إلى إشارات المرور والمنعطفات والعربات المتقاطرة حولنا، خشية أن يسهو عنها، هو الذي لا يسهو أبداً، تيقنت أنه يحسن انجاز أكثر من مهمة في وقت واحد، حتى أنه عندما انكسر محوّل السرعة في سيارته بعد أسبوع من وصولي، تأكدت أن ذلك يحدث لفرط اعتماده على السيارة في عمل كل شيء.
شارع كودم (Kurfürstendamm)، الشهير في برلين، باتجاهيه المتعاكسين والذي تظلله الأشجار الكثيفة في الوسط وعلى الجانبين، لا يزال يحتفظ ببعض بريقه المخطوف بعد هدم السور.
أُنظرْ..
يقول لي (توماس). هذا كان الشارع الأهمّ في برلين قبل هدم الجدار. الآن انتقل كل شيء إلى هناك، ويقصد الجانب الشرقي من المدينة؛ المتاجر الكبيرة بماركاتها العالمية وموضاتها الكلاسيكية الشهيرة، والتنوع المدهش للمطاعم بكل جنسياتها. ويستطرد (توماس) في سرده المدهش لطبيعة الشارع، منحرفاً نحو المنعطفات الداخلية ومواصلاً استعراض التعدّد اللانهائي للمطاعم التي جرّب معظمها شخصياً وخبر مميزات بعضها وسلبيات بعضها الآخر، مشيراً إلى ذاك المطعم الذي لم يعد مهماً بعد أن غادر مطبخه ذلك (الشيف) الممتاز. في تلك الإنعطافة الفاتنة للمطاعم، مَنَحَني (توماس) بعض النصائح ذات المغزى التي لو يدري كم هي حيوية بالنسبة لشخص مثلي ما إن يغادر بيته حتى يصاب بمشكلة اختيار الطعام المناسب.
(توماس) بشرحه المشوق بلا توقف، يظل قريناً مميزاً يسابق اندفاعات الأشجار الخضراء التي تحيط بك وترافقك وتنتقل معك في الشوارع، وتكمن لك أينما حللت، كأن ثمة من يحمي هذه المدينة بجيوش خضراء.
في الدور الرابع من المبنى الذي أقيم فيه، ما إن فتحت نافذتي حتى اندفقت الغابة كاملة في الشقة وشغلت الغرف والممرات والسطح والسقف. خضرة غمرت الروح اليابسة، ثم بدأت تعبث بأشياء المكان وتطوي السجاد وتنثر أوراق المكتب وتتصفح الدفاتر وتدير أزرار الكمبيوتر على هواها.
خضرة رافقتني منذ وصولي، ولا أزال مكنوزاً بها.
لنتخيل كائناً بحرياً يعود محملاً بالغابات.
لقد أحببت ذلك فعلاً، وبدأت أندم على اختصار وقت الإقامة إلى هذا الحدّ.
****
احتفل به العرب لمناسبة بلوغه السبعين، قضى خمسين منها عند الغرب، في ألمانيا.
احتفلوا به بعد أن أنجز تجربته الفنية بحريّة حلم بها في بلاده بما يكفي، وتحقق في المشهد التشكيلي العالمي بهدوء الناسك وزهده.
لماذا يحتفل العرب بمبدعيهم بعد الموت أو قبله بقليل؟ كم يعبّرون عن فرح الخلاص منهم؟!
جاءني صوته عبر الهاتف منسرباً مثل لون أزرق مشحون بشجن نادر. سبقني في الإتصال مثل طفل يرهقه التأجيل والانتظار.
جاء في الوقت المحدّد، وأخذني من مكان إقامتي بسيارته ذات اللون النبيذي الرائق.
دقائق الإرتباك المتوقعة لم تصمد في حضرة هذا الطفل الملتحي بفضّته العتيقة.
حين يتحدّث بصوته الناعم، عليكَ أن تبذل بعض الجهد لكي تلتقط كلماته. جلست إلى جانبه فراح يتحدّث كمن يواصل كلاماً انقطع قبل ساعة. عثرنا على مداخل كثيرة للحديث. تهيبت أن أساله عن غربته، لكنه سمعني. فقال: (نشرب قهوة في البيت، ثم نخرج إلى العشاء).
طفق في العزف مفتتحاً: ( هذه المدينة..)،
وانخرطتُ معه في سيرة الخمسين عاماً في برلين، يتكلّم عن المدينة كمن يتحدّث معها، أو ربما يتحدّث مع نفسه عنها.
ألتقيه للمرة الأولى، لمحتي الأولى لوجه (مروان باشي) اختصرت مسافة كانت تحجبني عن الوجوه التي لا تحصى في لوحاته. وجوه مفتوحة للبصر والبصيرة، تستدرجك لكي تتوغل في ذاكرة الرأس كلما عبرت طبقة لونية لكي تتفجّر في وجهك أعماق الوجه في غبار وشظايا.
غير أن (مروان) يمعن في التقدّم نحوك بوجوه جديدة، تسبق وجهه الطفولي الذي يشبه حديقة مقصوفة تواً بتسعة كيلو غرام ألوان.
وجه (مروان) لا يختلف كثيراً عن وجوه لوحاته إلا في الدرجة. إنها من النوع ذاته، من التشظّي العميق ذاته، وأيضاً من البحث الهائم ذاته والمولع بعدم الوصول. وحين وقفت أشاهد لوحاته واحدة بعد الأخرى في مرسمه، لم يكن ينقصني (للتأكّد من فكرة البحث عن اللاشيء التي راودتني في طريقنا إلى بيته) إلا أن يطلعني على واحدة من أجمل تجاربه حميمية وجَلَداً في الرسم. فقد راح يمرّر أمامي كدسة كثيفة من الصور الفوتوغرافية لعمل فني واحد ثابر في العمل عليه في أكثر من خمس وسبعين حالة، وتعرّض العمل لعدد كبير من التحوّلات شكلاً ورؤية ووجوهاً، بدرجة بالغة الذهول، واستغرق من الوقت ما يكفي لخمسة معارض تقريباً، حسب تقديري.
هذا الولع بالبحث الفني يلقي ضوءاً مهما على تجربة مروان، ويتيح لنا فسحة نوعية لصياغة تعامل وقراءة خاصة لما ينتجه.
عند (مروان باشي)، الفنان يبحث بالدرجة الأولى، لكن مثل طفل، ويبقى على الآخرين أن يجدوا ما يحلمون به.
في مرسمه الزجاجي منحني نعمة الإطلاع على تجارب وأحجام ورؤى بالغة التنوع والغنى، حتى أنني رأيت الفأل الحسن أن يبدأ يومي الأول في برلين بتجربة تشكيلية من هذا النوع، ليس ولعاً بالرسم فقط، ولكن استجابة لنزعة تلوين العالم، كلما فشلنا في تغييره.
وجوهه لا تحصى، ولا تكفّ عن إطلاق شهوة التأمل.
لم يكن يرسم وجوهه، كانت تقوده في نوع من الرحلة المرآوية عميقة التحديق.
الألوان عند مروان، هي أداته المادية وغايته الصوفية في آن.
لا يمكنك تفادي وجوهٍ قادرةٍ على التحديق بك إلى هذا العمق وبهذه الكثافة. وليس لك أن تتفادى ذلك، فكل اتصال بوجه جديد امتزاج بتجربة غريبة، وفي الغرابة جمال.
لرفقة (مروان باشي) في برلين متعة خاصة، وسبيل معرفة فذّ. وأن يأتي ليأخذك إلى عالمه فتلك لقية حميمة.
سيارته النبيذية تنساب بسلاسة مَنْ ينال كأسه الثالثة في مساء منتش. قيادة مروان تختلف كثيراً عن سياقة (توماس)، لا أعرف لماذا قفزت هذه المقارنة في ذهني وأنا أكتشف كم كنت مسترخياً في مقعدي بجانب مروان دون أن أحمل عبء السياقة معه، حتى لم أنتبه (تقنياً) أنه يقود السيارة أصلاً. كان يجلس إلى جواري فحسب، تاركاً السيارة تذهب بنا، في شوارع عرفها (مروان باشي) وراح يتحدّث عنها بلطف شديد.
خمسون سنة، ليست مزحة في حياتنا المشحونة بالعمل والمكتشفات والمرارة، لكن أن تكون هذه الخمسون لعربي في برلين!
قلت له: لعلكَ شاركتَ في تأسيس التاريخ الحديث للمدينة، وربما أسهمتَ في رسم شوارعها ورويت أشجارها بسهر آلاف الليالي الخضراء. عشتَ في خضم التحوّلات والمنعطفات العاصفة التي مرّت بها هذه المدينة التي كانت واحدة من أهم المدن وأكثرها حيوية وفعالية طوال ثلثَي القرن الماضي وكل ما قبله، ولعلها في الحرب الكونية الثانية كانت وردة الرماد لتلك الحرب.
بين مكان إقامتي وداره مسافة ينبغي أن لا تزيد عن عشرين دقيقة، لكنني خلتها الزمن الكثيف كلّه الذي امتدّ خمسين عاماً. كان مروان متدفقاً في الحديث عن التجربة التي نقلته من أحياء دمشق إلى مدينة برلين في رحلة بحث مريرة وخيارات في الدرس والموهبة والعمل بصورة أغنت حياته وجعلته يعرف أية وجوه ترصف له طريق العمر، لكي يسكن أخيراً في شارع بإسم الشاعر الأشهر (هيرمان هيسه). كأنّ المصادفات المبدعة هي التي هيّأت ذلك لـ(مروان باشي)، وهو الذي تولّع إضافة إلى الرسم، بالأدب والكتابة، وحلم دوماً بوضع الإبداع في سياقه الحضاري. يخبرني، ونحن ندخل في غابة كثيفة، رحبة الطريق، حديثة التخطيط وبالغة الهدوء، ذاهبَين إلى بيته، المختبئ في حضن أحد الغابات.
منذ سنتين اشترى مروان هذه الدار واشتغل على ترميمها بحيث خصّص منها مكاناً للسكن وآخر للعمل: رسماً وكتابة وتأملاً.
****
حين عبرنا باب الدار، دلفنا مباشرة من باب مقابل فوجدت نفسي في حديقة متوسطة على الجانب الداخلي من البيت. وقبل أن أجلس على مقعد خشبي بجوار طاولة من ذات الخشب، بادرني سائلاً: (هل تشعر بهذا الجو المكتوم، المشحون بسخونة ما؟ هذا يحدث دائماً قبل أي انفجار عاصف في الطقس). لم ينتظر تعليقي. أشار إلى أنها حالة تنذر بالرعد والمطر.
لقد كان يقرأ شيئاً يعرفه. ربما شيئاً كتبه أيضاً. لا أعرف.
أعدّ شاي (الدارجيلينك) الطيّب الرائحة وراح يحكي عن تجربته الأثيرة مع عبد الرحمن منيف. كنت أريد أن أسمع منه عن هذه العلاقة فعلاً، بعد أن قرأت ما كتبه عنه منيف تقديماً لواحدة من أجمل كتالوجات أعماله.
كان منيف قرينه في التجربة السياسية والغربة. غاب زمناً في السياسة والنفط، ثم هرب عائداً إلى الأدب. قال مروان: كأني استعدت حقي فيه عندما بدأ يكتب الرواية. كان رفيقي الإبداعي الخاص. وتحدّث مروان عن فداحة ما يخسره كل يوم وهو يستوعب (بتمنّع روحي عميق) ذلك الفقد. تحدّث عن مراسلاته الطويلة الغنية بالحوارات الأدبية والفنية التي شكّلت له مصدراً روحياً لمكتشفات حياته. تحدّث عن آخر رسالة استلمها من منيف قبل وفاته بثلاثة أيام.
يبدو أن تلك العلاقة والمراسلات الحوارية مع منيف هي من بين ما صقل نزوع مروان الفطري للتعبير عن أفكاره كتابة، فمما أطلعني عليه وقرأت جانباً منه، من مخطوطات ومذكرات، يشي بطاقة إضافية يتميز بها هذا الفنان قلما نصادفها عند تشكيليين عرب في زمننا. في ما قرأت، ثمة حالات تأملية عميقة في المسألة الفنية، ومحاورة ممتازة للذات إزاء اللوحة.
وظني أن تجربة (مروان باشي) في برلين ساهمت نوعياً في تأسيس البعد العقلاني في تجربته الفنية. فقد كان طوال سنواته في ألمانيا متصلاً بأكثر التجارب تنوعاً، ليس في حقل الفنون فحسب، إذ شارك في العديد من الورش والمشاريع الثقافية ذات البعد المعرفي، واشترك مع فنانين وناشطين ثقافيين مختلفين، ربما كانوا يرون في تجربته الدافع النوعي لما يبحثون عنه في تجربتهم الغربية. خصوصاً أن تجربة مروان في رسمه هذه الوجوه الكثيرة تقترح، ربما من حيث لا يقصد، رؤية جديدة لمفهوم (البورتريه) في الرسم. وعندما تذكّرت إحدى بورتريهات فان غوخ للحظة، وأنا أشاهد التعدّد الكثير لوجوهه، شعرت بأن ما شدّني في أعمال الرسام الهولندي منذ سنوات، هو ذاته الذي شدّني إلى وجوه مروان. لقد كان فان غوخ يبحث، مثلما يفعل الآن مروان، لكن على طريقته، وهو يقترح بَلْوَرَة باهرة لما يمكن أن يكون قد توقّف أو كفّ عن النمو في بورتريه فان غوخ العابر بألوانه الخشنة والكثيفة.
عندما كان يعرّفني على وجوه لوحاته، أشرتُ إلى ذلك الحضور الطيفي المتوالد لملامح عبد الرحمن منيف في أكثر من لوحة في السنوات الأخيرة، وقبل أن يجلب نفساً عميقاً في شكل نفثة قلب، استدركت مؤكداً على خطورة تفسير اللوحة بالواقع، غير أنني أردت فقط أن أسبر هذا التقاطع العميق بينه وبين رفيقه النضالي والإبداعي. وفي تجربتنا العربية يندر أن نصادف علاقة عميقة بين رسام تشكيلي وأديب على هذه الدرجة من التبلور والحوار، بعكس التجربة الأوروبية، حيث نعرف العديد من التجارب والصداقات المهمة والمنتجة بين الرسامين والكتاب بشتى تجلياتهم، مما ترك لنا تراثاً جمالياً لا يزال يؤثّر في اكتشاف المفاهيم الفنية وإعادة صياغتها.
فيما كنا نتأمل فكرة التفسير والتأويل للعمل الفني اتفقنا على أن كلمة (فهم) ربما لم تعد تناسب أو تليق عندما يتعلق الأمر بالفن. وإذا لم تكن كلمة ( إحساس) تناسبنا فعلينا أن نبحث عن تعبير غير كلمة (الفهم) الذهنية التي تنقض العمل الإبداعي.
فالقلب لا يفهم، لأن الإبداع ليس عقلاً.
قلما نصادف فناناً متأملاً بهذا الشكل، حتى عندما نتذكّر شاكر آل الشيخ كمثال نادر، سوف يتأكّد تقديرنا لما نفتقده من تأمل روحي في التشكيل العربي.
ظني أنه حتى عندما (يفكّر) الفنان العربي فسوف يفسد عمله الإبداعي لفرط ذهنيته ومجافاته للعمق، فالتأمل حالة أكثر عمقاً وفعالية من مجرّد التفكير، بل أنها الرواق الروحي لنشاط مخيّلة المبدع.
هل ثمة ما يتوقف هنا على مصادفة أن يعيش الفنان العربي في الغرب؟
لا أريد أن أرى في تجربة العيش في الغرب حكم قيمة ناجز في كل الأحوال. لكنني لا أريد تفادي هذا السؤال لئلا أخسر فرصة التعرّف الصريح على تجربة (مروان باشي) وغيره. بالطبع لابدّ من توافر طاقة الذات اليقظة لتأمل ما يحدث، فربما كانت الحياة في الغرب، بسبب كونها تجربة مكتسبة ثقافياً وحضارياً، تفرض صقلاً لحواسّ الفنان وتشحذ أدوات ومصادر انبثاقه الروحي فيما يصوغ أعماله الفنية.
كان ذلك كله يدور داخل المرسم الرحب، لكن أثناء ذلك، في الخارج، كان الطقس يتحوّل بالسرعة التي وصفها البعض بأنها الطقس البرليني، فما إن خرجنا من المرسم مغادرَين الدار حتى واجهنا الطقس العاصف الذي تفجّر رعداً وبرقاً ومطراً بعد احتباس مكتوم، تماماً كما توقّع أو أجزم مروان قبل قليل. صعدنا السيارة فبدأت الأشجار تنثر شلاّل أوراقها في الفضاء على مستوى سطح سيارتنا، والمطر يغسل إسفلت الطريق ويبلغنا رسائل غير مقروءة. كيف تسنى لهدوء، يكاد يكون صمتاً، أن ينقلب في دقائق إلى هذا الصخب العجيب. قلت لمروان:
أصبحتَ تحسن قراءة أحوال الطبيعة لفرط حوارك اليومي معها.
قال بصوت طفولي ناعم، لا يتناسب مع الجوّ: لا تهتم سيهدأ هذا كله بعد قليل.
كمن يريد أن يثني على إشارتي بمعرفته أحوال الطقس.
ولم نكد نقطع الغابة في طريقنا إلى شوارع وسط المدينة، لتناول العشاء الأول، حتى هدأ الجو فجأة وشعرت أننا نخرج من خيمة كبيرة فحسب. كانت العاصفة مثل كائن هائج يعبر الشارع.
العشاء الأول، الذي دعاني إليه (مروان باشي)، كان في المطعم الصغير الذي يملكه شاب مصري جلس معنا دقائق يساعد مروان على إقناعي بوجبة السمك الذي يشرف على شرائه شخصياً، غير أنني كالعادة لا أقدم على مجازفة تناول سمك لا أشتريه بنفسي من السوق ويكون حيّاً أو من صيد اليوم نفسه على أقلّ تقدير، الذي سيأخذ فيه طريقه إلى الطبخ ومن ثم المائدة.
فوعدني بطبق شهيّ من قطعة اللحم المشوية (الستايك)، وكان شهياً بالفعل، وكذلك كان النبيذ.
****
وصلنا باكراً. قاعة القراءة الأولى في برلين تضم (إيليا توريانوف) و(عاليا ريّان)، الألمانية من أصل فلسطيني، والشاب الذي سيتولّى الترجمة الفورية للنقاش الذي سيتبع القراءة، والذي سيظهر متعثراً في ملاحقة الترجمة بشكل ملحوظ. قيل لي أنه يخطو الخطوات الأولى في حقل الترجمة الفورية، وهذه محاولة لمنحه فرصة التجربة. حظي أنني ساهمت بندوتي في فرصته المبكرة.
في الرواق الصغير في خلفية القاعة، التقى مشاركون وأصدقاء متوقعون: السيّد (فرانك أرنولد)، الممثل المحترف الذي تولّى قراءة الترجمة الألمانية لكتاب (ورشة الأمل)، (ليلى شماع) مترجمة الكتاب، جونتر أورت المترجم المستعرب الذي يحسن العربية كأهلها، الفنان (مروان قصاب باشي)، من بين الحضور أيضاً كان سكرتير من سفارة البحرين في برلين الذي قدّم نفسه وأبلغنا تحيات سفير البحرين في برلين الذي اعتذر عن عدم تمكنه الحضور بسبب سفر خارج برلين، وكان بالطبع السيد (توماس هارتمن) مهندس برنامج (ديوان الشرق والغرب)، وبادرت اللقاء مديرة القاعة التي افتتحت اللقاء بكلمة ترحيب.
بعد دقائق قصيرة، وفيما كنت أنسّق مع (فرانك أرنولد ) حول الفصول التي سيقرأها من الترجمة الألمانية شعراً ونثراً، كانت القاعة الصغيرة (مكتظة) تشهد حضور جمهور يسرق نفسه من خضم دورة كأس العالم المتوهجة لحظتها. لكنه الجمهور الذي سوف يحتدم في حوار متنوع، لا تنقصه الحدّة، حول مختلف القضايا التي لا توفر السياسة ولا تقتصر على الأدب.
في تقديمه الحميم، فاض الصديق (إيليا توريانوف) بتأثره الإنساني برفقتي له في البحرين، محدّثاً الجمهور عما لاحظه من علاقتي اليومية القوية بالناس، مُحيلاً هذا إلى شهرتي في البحرين، ومعتبراً هذا دلالة على اتصال نادر بالحياة، مشيراً إلى التوقف الكثير لتقبل تحية الناس من جهة، ورنين هاتفي المحمول بشكل دائم.
اختار (ايليا) أن يتحدّث عن الجانب الإنساني لتجربته في البحرين، وكنت أخذته منذ الوهلة الأولى من المطار إلى العائلة في البيت، حيث تعرّف على أفراد عائلتي وتناول في بيتنا عشاءه الأول. واستطرد في انطباعاته عن أفراد عائلتي وارتياحه لأبنائي الذين شاركوني في استضافته، ورافقوه إلى أكثر من مكان، عندما كنتُ مضطراً للسفر أثناء وجوده في البحرين. والحق أنه حين بدأ يتكلم، بلغته العاطفية الرشيقة، عن سعادته بتلك الرفقة، ارتبكت فعلاً، لأن انطباعه الإيجابي خلّصني من شعوري المكتوم بالتقصير معه يوم كان في البحرين، وخصوصاً وأنني سافرت مرتين لبضعة أيام وتركته في رعاية عائلتي، الأمر الذي جعلني أشعر بأنني لم أتمكّن من تحقيق طموح برنامج زيارته لسببين: سفري من جهة، وطبيعتي الشخصية من جهة ثانية، حيث لا أحسن الجولات السياحية أو غيرها، ولا أملك الخبرة الجيدة بالمناطق والمواقع التي رغب في أن يزورها.
وقبل أن أبدأ القراءة، عقّبت على تقديم (إيليا) مؤكداً أن زيارة الألماني إلى البحرين كانت مناسبة ممتازة لكي أتعرّف على بعض مناطق البحرين التي اكتشفتها معه للمرّة الأولى. وأشرتُ إلى بعض المواقف المحرجة أثناء تجوالي معه، حيث كنت أزوّده ببعض المعلومات عن مواقع معيّنة ليكتشف فيما بعد أنها معلومات خاطئة، كمثال، ميدان النصب الوطني التذكاري الذي كان قيد الإنشاء وقتها لم يكن ميدان سباق الفورمولا 1 للسيارات كما أخبرته أثناء عبورنا بالسيارة. وقد اعتبر (ايليا) حالتي – مازحاً- بأنها أحد مظاهر (الزهايمر) المبكر لدي الشعراء.
بدأت الندوة،
قرأت ثلاث قصائد، قرأ فرانك بعدي ترجمتها الألمانية، ثم قرأ فصلين من كتاب (ورشة الأمل) بطريقته الحيّة الباهرة في التعبير، الأمر الذي جعلني أحجم عن قراءة أي شيء بعده. وقد ساهمتْ قراءته بلا شكّ في إنعاش جوّ الندوة وفَتْح آفاق الحوار المتنوع، وخصوصاً عن طبيعة المجتمع البحريني وما إذا كان ثمة دور للعمل الأدبي والثقافي في تحولات هذا المجتمع السريع التغيّر.
غير أن ما استوقفني فعلاً انتباهة (ايليا توريانوف) لما يمكن أن تحدثه النهضة العمرانية في البيئة الفطرية البحرية الجميلة التي تتعرض للتقلّص يومياً تحت وطأة المشاريع الإسمنتية، ولاسيما تلك التي تقوم على الردم المتواصل للسواحل في جزيرة صغيرة مثل البحرين.
يتوجّب أن تكون لدينا رؤية واضحة إزاء سؤال حضاري من هذا النوع، ولا يكفي أن نشير، كما حاولت أن أبرّر، بأن هذه هي ضريبة التطوير الحديث. لقد شهد (ايليا) ما يحدث على سواحل الجزيرة الصغيرة، وشاهد عدداً من المشاريع العمرانية التي تنشأ مثل الفطر السريع مُشكّلةً حزاماً إسمنتياً يعتمد على ردم السواحل. عندما أشرت إلى الحاجة المتزايدة لسكان جزيرة صغيرة، شعرت بمن يمتعض إزاء هذا السبب وهو يعرف عدد السكان في البحرين، ففي البلاد ما يكفي من المساحات لكي تحتفظ الأرض بجمالها.
لقد انطلق (ايليا) من سؤاله الذكي مما قرأه وشاهده في مدينة المحرق وهي الجزيرة الطبيعية أيضاً. وقتها شعر بأن ثمة ما يعرّض تلك الأماكن والتراث الإنساني للخسارة، وربما شاركه بعض الذين أصغوا ليلتها إلى وصف البحر في كتاب (ورشة الأمل).
ليلتها شعرتُ، مجدداً، كم أن هذا الكتاب يبدو أكثر نجاحاً، بشكل ما، في تحقيق الإتصال بالآخر، قياساً إلى بعض النصوص الشعرية التي قرأتها في لقاءات برلين، .. هناك سحر السرد الذي يستحوذ على الذائقة الأدبية في البلاد.
ليلة الندوة الأولى، تعرّفت على أحد الأساتذة العاملين في جامعة برلين، والمهتمين بالشأن الشرقي، وسألني مباشرة عن مقدار معرفة الجمهور العربي بكتاب غوته (الديوان الشرقي للكاتب الغربي)، فتذكرت له الترجمة المبكرة التي حققها عبد الرحمن بدوي، والإهتمام الموسمي الذي يحظى به غوته وأدبه، وبعض الترجمات المتفاوتة والمختلفة لنصوصه، منها ترجمة عبد الغفار مكاوي الذي صدر مجدداً عن دار الجمل الألمانية/ العربية. فما كان من هذا الأستاذ الألماني إلا أن عبّر عن أسفه كون الجمهور الألماني نفسه لا يعرف عن هذا الكتاب على نحو ما هو متوقع.
وتبلور حديثنا باقتراح أن يعاد إنعاش الذاكرة بترجمة جديدة وطبعة جديدة تجري في احتفاء خاص، تذكيراً بالإقتراح المبكر الذي أطلقته تجربة غوته فيما يمكن وصفه الآن بالحوار بين الشرق والغرب، وربما كانت هذه الإستعادة ضرورية في هذه اللحظة بالذات حيث يحتاج فيها عالمنا لإبتكار الجسور والآليات الثقافية التي ستكون أكثر جدوى وفعالية من الوسائط والأساليب السياسية البائسة.
فيما بعد،
عندما طرحت على الصديق (توماس هارتمن) فكرة أن تبادر مؤسسة (ديوان شرق غرب) بتنظيم ندوة دولية حول كتاب غوته بشكل خاص، أُعجبَ بالفكرة وتحمّس لها، لكن دون أن يشير، سريعاً، إلى ضرورة توفّر الداعمين لتحقيق مثل هذه الندوة، برجاء أن لا يعدم الوسيلة.
****
ثقافياً، يصعب على الغرب إدراك المفارقات، بالغة التركيب، في التحولات التي يتعرض لها البناء السياسي للمجتمع العربي في السنوات الخمسين الأخيرة، خصوصاً تلك التداعيات التي تلت هزيمة حزيران 1967، بعد انكشاف هشاشة النظام السياسي العسكري، بشعاره الإشتراكي وخطابه التقدمي، ثم بروز الحكم التقليدي، بوصفه البديل المؤجّل لما أحدثته تلك الأنظمة الإنقلابية. حتى أنّ بعض منظّري السياسة والفكر العربيين، في معرض انتقاداتهم لتجربة الحكم العسكري، يواصلون عقد المقارنات بين ما حدث تحت هذا الحكم، خالصين (مباشرة أو مواربة) إلى حتمية وواقعية الحكم العربي التقليدي (الموصوف رجعياً في أدبيات الخطاب الثوري السابق)، مقابل طوباوية مشروع النظام العسكري الذي قدّم أبشع نماذج القمع والديكتاتورية والحكم الشمولي والظلم الاجتماعي.
عندما تحدثت مع صديق ألماني (صادراً عن إرثه اليساري) عن تجربة المشروع الشيوعي في البلاد العربية، الذي بالغ في نسخه وتبعيته لنماذج الشيوعية السوفياتية والأوروبية، والألمانية بشكل خاص، كنت أقرأ، فداحة مضاعفة السنوات المهدورة من العمل السياسي العربي (الحزبي) الذي تبنى، فيما تبنى، من المنظومة الإشتراكية (وعلى رأسها الإتحاد السوفياتي) الإحتقار والنظرة الدونية الفجّة للعمل الثقافي والإبداعي بوصفه تابعاً، يضاهي البوق، للحزب.
كيف يتسنى للغرب المتحرر الآن أن يتفهم مقدار التضحيات والخسارات التي تكبّدتها الثقافة العربية طوال تلك السنوات، تحت وطأة (حركات تحرير) تبرّعت بجعل منظومات التخلّف العربية بديلاً مؤجلاً لتلك الأخطاء الشنيعة لطريقة النظر والعمل التي منحتنا القهر واليأس.
في برلين لمست جمال التحرر من تلك الحقبة،
وبقي أن نبرأ من أصداء ذلك الإرث.
****
عندما أخذني (توماس هارتمن) في جولة إلى القسم القديم من برلين، وجدت نفسي في الأزقة نفسها التي يمكن التعرّف عليها في معظم المدن الأوروبية القديمة، بالمباني المتواضعة و الفقيرة ذاتها، والشوارع المرصوفة بالصخر القديم، وهندسة بيوتها التقليدية القائمة على مزيج من الخشب والحجر والطين المتداخل بشكل مدهش. وفي تلك المنطقة من المدينة سوف تصادف الخليط والتنوع لجنسيات الناس.
نويكولن واحدة من قريتين قديمتين أُنشئتا في القرن الرابع عشر، بعد تأسيس برلين في القرن الثالث عشر، و(توماس) لا ينسى شيئاً، من أنواع النبيذ حتى برنامج المناسبات التقليدية التي تحتفل بها هذه المدينة، ففي منطقة لا تزيد على أربعة كيلومترات تيسر لنا أن نزور عدداً كبيراً ومتنوعاً من المعارض الصغيرة والإحتفالات الشعبية وأسواق الشراب والطعام والأعمال الفنيّة المبتكرة الغريبة.
وفي نهاية الجولة التقينا بـ(عاليا ريان)، الفلسطينية المولودة في مدينة بريمن في شمال غرب ألمانيا. تتكلّم العربية أفضل قليلاً مما أتكلّم الإنجليزية. هي تعمل مع (توماس هارتمن) في نفس مشروع (شرق غرب)، وحدث أن تكفّلت بالبحث عن المطاعم الهندية مساهمة منها في حلّ مشكلتي مع الأكل. حين أخبرتها أن زيارتي الأولى لألمانيا كانت إلى مدينة بريمن، أبدت ارتياحها لكوني عرفت ألمانيا من المدينة الأكثر هدوءاً ورصانة. قلت لها ، بالمناسبة، لقد تناولت أفضل طبق من (البرياني الهندي) في مطعم على مقربة من الميناء في بريمن، في منتصف ثمانيات القرن الماضي، وعليكِ أن تعثري على مطعم يضاهيه.
أخذت التحدّي مأخذ الجدّ، ليس فقط انتصاراً لمدينتها، ولكن أيضاً لأنها من محبي الطبخ الهندي، مما سهّل لي انحيازها لوجبة هندية عندما يأتي موعد الأكل، الأمر الذي جعلني أغرّر بالجميع للبحث عن مطعم هندي مختلف في كل مرّة، لنجد أنفسنا في نهاية الأمر ننفجر ضحكاً ونحن نمسح عرقنا المتصبب لفرط حرارة البهارات المدهشة لذلك الطعام الساحر.
كان (إيليا) قد أخذني إلى مطعم هندي للمرة الأولى في برلين، دون أن يكون الأفضل. وطوال فترة إقامتي في برلين كان هذا الموضوع يأخذ حيزاً مرحاً عندما يتعلّق الأمر بالأكل، وأظن أنني ساهمت في حوار الشرق والغرب من طريق ذلك الإتصال التاريخي الذي كان سائداً في القديم: طريق البهارات.
ولا تخلو هداياي إلى أصدقائي في العالم من حفنة توابل وبهارات من مَزْج العائلة.
****
تكلّم ريلكه، ذات نص، عن شخص يكون الباب الحقيقي للإتصال من خلاله بالعالم. في برلين، سوف تحتاج في كل لحظة إلى شخصٍ ما يسعفك مما أنت فيه.
في برلين، تيسّر لي أكثر من شخص يساعدني على الإتصال بالمجرة الألمانية. بل أنني صادفت ما هو أجمل من الشخص الواحد، فقد اكتشفت ما يدحض القول الشائع عن التجهم الألماني. وكنت قد حدثت جمهور ندوتنا الأخيرة في ميونخ عن هذه التجربة. قلت لهم أنني جئت متوقعاً تجهّم الشخصية الألمانية، غير أنني وجدت العكس. لحظتها طاشت القاعة بالضحك، فتأكّدت أن التجهّم ينحسر دائماً كلما سألته: هل أنت صباح الخير أيها التجهّم؟
صحيح، لكن سرعان ما تكتشف، إذا أردت، أن ثمة استعداداً كامناً لتبادل الأسئلة، دون أن يكون التبادل دليلاً على تواصل منجز سلفاً. سوف يتوقف الأمر على فعالية السؤال واحتمالات قدرة الأجوبة ومبادراتها على المشاركة في الإنفعال. الألماني لا ينفعل بسهولة، لكن حين ينخرط في الإنفعال سوف يملأ الموقف قصفاً بالضحك ويفيض بالإندفاع نحوك.
وهذا كله سيعتمد على المواهب الذاتية.
التجهّم لا جنسية له. وعندما قال لي صديق أن برلين عاصمة التجهّم، غبطني للحظة أنني ذاهب لزيارتها. كما أن التجهّم ليس تراثاً أزلياً في بنية الشخصية، إنها الظلال الهشّة الباقية من خشونة الجبال السحيقة مشحوذة بالحروب الحديثة لكي تجعل الكائن يتحرّك على المحكات، كمن يسأل الأجوبة فيما يصنع حياته بمعزل عن الآخرين.
لعل ألمانيا، التي قسمتها الحروب الساخنة والباردة، والتي صادف أنها نجت من التجربة الإستعمارية للشرق، هي الآن جديرة بنقض فكرة التجهّم بدلالته الكونية، فيما تقف الآن في مقدمة أكثر الدول الأوروبية رغبة في محاورة الشرق والتعرّف عليه من الشرفة الثقافية بعدما عرفت الفشل الذريع لكافة الوسائط السياسية، وخصوصاً الغطرسة السياسية.
****
لم أكن بحاجة إلى أكثر من خمس دقائق لكي أتواصل مع (بيتر بانكه)، أحد أبرز الموسيقيين المختصين بموسيقى الشعوب في ألمانيا.
جاء برفقة (إيليا توريانوف)، فجلست في المقعد المجاور له في سيارته في طريقنا إلى أحد المتاحف، وسرعان ما شرعنا نواصل حديثاً في موضوع مشترك، هو الموسيقى.
خفيض الصوت، كأنه يريد أن يفسح لك المجال كله لكي يصغي لموسيقى الآخرين. حين عرف شغفي بالموسيقى الشعبية انتعشت حواسّه، وعندما أخبرته عن إبني الذي يؤثث حياتنا بالموسيقى، وأنه درس الموسيقى سبع سنوات ويعمل مؤلفاً موسيقياً، أبدى رغبة في تجاوزي والتعرّف على إبني. فأخبرته عن مصادفة أنني أحمل له هدية خاصة عبارة عن ثلاثة أقراص مدمجة تضم كل أنواع الموسيقى والغناء الشعبي في البحرين.
خمس دقائق كانت كافية لنكتشف الجسر المشترك الذي يفضي إلى حقل أجمل الفنون الإنسانية، ذاك الذي يجعل الشعر كائناً يجلس على الشرفة ويتفرّج على صداقة جديدة.
سارع (ايليا) إلى التعريف السريع بإبني (محمد) الذي سبق أن تعرّف عليه واشترك معه في عزف بعض المقطوعات في دارنا.
في ما بعد، أخبرني (توماس هارتمان) بأن (بيتر بانكه) هو واحد من ثلاثة أشخاص هم الأكثر شهرة في مجال موسيقى الشعوب الشرقية.
في منتصف الخمسينات من عمره، لكنه أمضى ثلاثين عاماً في الدراسة والبحث في الموسيقى الصينية والهندية، بالإضافة إلى علم اللاهوت المقارن في جامعات هامبورغ وميونخ والهند، كما اهتم بالتجربة الصوفية في تجليها الموسيقي.
وقد قاده بحثه إلى تركيا وإيران وباكستان والهند قبل أن يكتسب سمعة جيدة ومميزة في معرفة موسيقى هذه الشعوب. لقد ساهمت مشاغله الفنية والثقافية في تشكيل ما يمكن وصفه بالحوار الموسيقى بين أوروبا ودول الشرق، ساعده على تفعيل ذلك الدور تقديمه للبرنامج الموسيقي المتخصص، أسبوعياً، في إذاعة برلين منذ سنوات طويلة. وبالإضافة إلى عدد من المؤلفات المطبوعة في كتب، (يعمل حالياً على أطروحته الأهم في الموسيقى الشرقية)، فقد أنتج وشارك في أكثر من خمسين قرصاً مدمجاً خاصاً بالموسيقى الشرقية المختلفة.
في تلك الدقائق الخمس التالية، على المقعد المجاور له، فيما كان يقود سيارته المكتظة بأربعة أشخاص يطيشون حواراً، تيسّر لي التعرّف على شخص مولع بما يشكّل في هذه اللحظة الكونية مدخلاً إنسانياً للتعرّف على تجربة البشر من خلال أكثر أشكال التعبير فطرية. وهو ما سوف يجعل الشعر ضيف شرف في حفل صوتي بالغ الحيوية.
لا أدري لماذا دفعتني هذه اللحظة لأن أضع تجربة (بيتر بانكه) في سياق أكثر رحابة، مستحضراً ظاهرة الشعر الصوتي التي تتوسع في السنوات الأخيرة في عموم أوروبا، دون أن يتوفر لديّ تفسير مكتمل. كأنّ ثمة ما يشي بأن اجتهادات، مختلفة الدوافع، تذهب إلى مصادر فطرية واحدة لإعادة قراءة التجربة البشرية في الغرب من خلال جذورها في الشرق.
كيف يمكننا أن نفهم ونتفاهم مع هذا الولع المعرفي المميز الذي تمثله تجربة (بيتر بانكه)، إذا لم نضعها في سياقها الكوني، فيما تأخذنا إلى العمق الجمالي للحوار الحضاري المتسارع الأهمية في حياتنا؟
أطرح على نفسي هذا السؤال، وأنا اكتسب الخبرة النوعية في صداقة جديدة مع (بيتر بانكه)، الذي سوف يفاجئني يوماً بعد يوم، أثناء رفقته البالغة العمق في برلين.
في بيته، شعرت بالحضور الشرقي الجاد في حياته، ليس فقط بسبب التفاصيل الكثيرة المتمثلة في الآلات الشرقية التقليدية والأعمال الفنية وقطع الأثاث، لكن أيضاً وخصوصاً بسبب ما لا يحصى من تنوّع الأعمال الموسيقية والتسجيلات الشرقية النادرة وكذلك بعض الكتب بلغاتها الأصليّة ومن بينها العربية.
ما أدهشني في اهتمامه العميق بالتراث الشعبي للموسيقى العربية، سؤاله المذهل عن تلك الأسطورة التي تقول بأن فن غناء (الفجري)، الشهير في البحرين والخليج، قد أخذه المغني الأول القديم من (الجن). تلك الحكاية الشعبية التي تناقلها التاريخ عن الشخص الذي كان عائداً إلى بيته بعد تأديته صلاة الفجر فسمع ذلك الغناء الفاتن يصدر من أحد البيوت المهجورة في ظاهر المدينة، دخل المكان ليستمع، وبعد أن انتهى المغنون واكتشفوا وجوده، طلب منهم أن يعلموه سرّ هذا الغناء، وافقوا بعد أن أخذوا منه عهداً على أن لا يفشي هذا السرّ. وكانوا من الجنّ.
هذه الحكاية ليست معروفة حتى في الثقافة العامة في الخليج، ولكي يعرف شخص هذه الحكاية يتوجّب أن يكون على درجة من التخصص والبحث في مصادر غير متاحة عموماً.
لقد طرح (بيتر) سؤاله حول هذه الحكاية معبراً عن إعجابه الخاص بطاقة المخيّلة الشعبية في صياغة مقارباتها التعبيرية، مشيراً إلى أن شعوباً مختلفة سوف تشترك معاً في هذه التجربة التي تذهب إلى المخيلة عندما يتعلّق الأمر بتفسير أصول ومصادر بعض فنونها الغريبة الغامضة الأصول، فالشعوب تشترك في مخيلة فنية واحدة المشاغل.
قلت لـ(بيتر بانكه): ها أنتَ تفشي السرّ الجميل في العالم، لعلّ اتصالك بالجن أكثر من اتصال أهل هذا الفن.
وحين جرى الكلام عن موضوع كتابه الجديد، سوف يدهشني عنوانه المشحون بالدلالات: (المغني يموت مرتين)، وهو عنوان جاء له من الأحلام أيضاً، وفق ما رواه لنا (بيتر بانكه)، فقد عاش تجربة هذا العنوان في حلم فاتن يكمل جمال الولع بالموسيقى.
تلك هي الدقائق الخمس الغنية، التي استغرقتها صداقتي مع هذا المبدع الجديد طوال أيام إقامتي في برلين، مكتشفاً بُعداً مختلفاً لمعنى أن يكون الحوار الحضاري متمثلاً في شخص على هذه الدرجة من الرحابة.
تُرى هل يجسّد (بيتر بانكه) جملة الشاعر الألماني ريلكه، عندما قال:
"إنني أحمل قطعة من الأبدية في صدري"؟
****
تحت ظلال الزيزفون، وأنا أقف في منتصف الشارع في مواجهة قوس بوابة برندنبورغ الشهيرة في برلين ، قال لي دليلي إلى برلين ذلك اليوم، السيد (أحمد بهجت): "خذ حذرك وخفّف الوطء وتمهّل، أنتَ الآن تقف على أثر نهر من دماء أكثر من عشرين ألف قتيل احتدمت بهم المعارك في الحرب العالمية الثانية. فهذا الشارع، الذي شيّده الملك فردريك الكبير ولا يزال يحرسه بتمثاله، نشأت عليه ومن حوله أكثر تجارب ومنعطفات تاريخ برلين الحديثة، وهو الآن ملتقى العديد من المعالم التاريخية والثقافية في المدينة".
(أحمد بهجت) شاب عَشِقَ مدينة برلين وتولّع بتاريخها، وهو سيكون اليوم دليلي ومرشدي إلى الأماكن التي يتعيّن على كل زائر لبرلين أن يقوم بارتيادها، هكذا شرح لي قبل أن يتجه بي إلى المدينة بتاريخها الحضاري قبل السور وبعده.
بعد أن التقطنا بعض الصور بجوار التمثال البرونزي الأخضر لإله البحر بوسيدون وسط نافورة، وتمثال الصديقين الشهيرين ماركس وأنجلز، وتمثال القديس مارجرجس وهو يصارع التنين (1858)، بدأنا بما يسمونه جزيرة المتاحف، ومررنا بقصر الشعب الذي يجري هدمه وكان قد أقيم على أطلال قصر سابق، وعبرنا كنيسة الدوم والمتحف القديم بقسميه الأول والثاني، ثم متحف بيرغامون ومتحف الشرفة الشهيرة التي أُعلن منها للمرة الأولى عن جمهورية فايمر، وتبدو إلى جوارها الآن وزارة الخارجية، وبقربها جامعة (هومبولت) التي يقع أمامها مباشرة موقع محرقة الكتب التاريخية على يد النازيين، وفي امتدادها ساحة (جندرمن ماركت) حيث توجد فيها المباني التي أنشأها الهوغينونتن البروتستانتيون الذين فرّوا من الإضطهاد الكاثوليكي في القرن الثامن عشر في فرنسا، ويتوسط هذه الساحة تمثال الشاعر الألماني الكبير شيلر تحيط به آلهات الشعر والحكمة. ويوجد هناك متحف وكنيسة ومركز للأوبرا من أيام الهوغينوتن. وأيضاً المكتبة البروسية التي تضم ثروة كبيرة من المخطوطات العربية النادرة.
ولم ينس دليلنا الشاب أن يعيدنا إلى تراث حديث لم يزل في ذاكرة الجيل، فأخذنا إلى ساحة مشهورة في القسم الشرقي من برلين قبل الجدار، لنرى ساعة برلين العالمية الشهيرة المصممة لترمز إلى القارات بمواقيتها المختلفة، والى جانبها العمارة الشاهقة (بمقياس الستينيات) التي كانت مخصصة للإقامات المؤقتة لوفود حركات التحرّر القادمة من بلدان العالم الثالث المدعومة، آنذاك، من حكومة ألمانيا الشرقية. ويمكنك أن تشاهد مبنى لا يشي بأي لمسة جمالية، هو المقرّ السابق لمكتب حزب الوحدة الإشتراكي.
****
2751 قطعة من المستطيلات الإسمنتية ثقيلة الوطء، الكتل الخرسانية العالية بأشكال مختلفة، بإرتفاعات تقارب خمسة أمتار. سوف تشكّل هذه المستطيلات التي يتكّون منها هذا النصب، على مساحة مئات الأمتار، معطيات بالغة التنوع كلما اختلف موقع الناظر والنظرة إليها.
حين يعبر الشخص بجرمه الصغير الضعيف الهشّ، سوف يخضع لعملية غامضة من الصهر التاريخي، كما لو أن صانع النصب يصدر عن فكرة سحق بدن الكائن كلما سار بين الكتل التي توحي بقدر هائل من الصلادة الغامضة. وسوف يساعد على هذا الشعور ذلك اللون الرمادي الكثيف الذي ليس مصادفة أنه لون مشحون بفكرة المحرقة الشهيرة. ولك أن تتخيل مقدار المفارقة الباهظة بين الرماد الهشّ والإسمنت الرمادي الصلد الموحي بقوة الوطء، هذا الثقل الذي لفرطه على الأرض سوف ترى بالأرض تحت قدميك وهي تميد بدرجات مختلفة في ممرات ضيقة بين الكتل ذات الزوايا الحادة بصرامة، ممرات مرصوصة متقاطعة، بحيث يمكنك أن تشعر بأنك في المتاهة الحقيقية التي تبدأ ولا تنتهي بك إلى مكان. إذا نظرت إلى النصب من أعلى سوف تجد أن الإرتفاعات المختلفة لأرضيّة النصب تجعل سطح الكتل المصقولة بمثابة الموج المنساب بصمت، لكن بقدر محسوس من العنف.
أما إذا جازفت ووضعت يدك على سطح إحدى الكتل فسوف تنتابك القشعريرة الناتجة عن صلافة الحجر الأصمّ الذي سيطرد أصابع وراحة كفك. لن يسمع حواسك، ولن يكترث برغبة اقتراح أي معنى آخر سوى الإنتقام الكامن في برودة كل كتلة من كتل النصب الشاسع، انتقام ممن لا علاقة له بهذه المصادفات المبالغ في احتدامها العنيف.
بقي أن تتيقن، بنظرتك الكاملة لمشهد كتل الإسمنت الرمادية المستطيلة، الثقيلة كالرصاص، بأنها كناية صريحة لقبور لانهائية، في إشارة واضحة وعنيفة إلى تلك القبور المؤجلة لليهود الذين قضوا حرقاً على يد النازية.
احتجتُ الساعات الباقية من ذلك النهار، لكي أتخلّص من وطأة الشعور الذي تركه ذلك النصب المتطلب.
****
قبل زيارتي إلى برلين بعدة أشهر، كانت (ليلى الشماع) قد بدأت بترجمة كتابي ( ورشة الأمل)، وكانت على اتصال مستمر للحديث حول بعض المسائل المتصلة بالنص، وقد اهتمت خصوصاً بالأمور التي تتصل بالبحر وصناعة السفن، الأمر الذي استدعى، أثناء وجودها في الكويت، أن أزور معها متحف الغوص وصناعة السفن للمعرفة المباشرة عن هذا الحقل، وسجّلت (ليلى) كل ما احتاجته من معلومات.
و(ليلى شماع) من جيل المترجمين الشباب الذين نقلوا كتباً وتجارب مهمة من الأدب العربي الحديث، روايةً وشعراً، وقد أتاح لي توليها ترجمة كتابي فرصة التعرّف عن قرب على المشاكل التفصيلية للمهمة المضنية في ترجمة الأدب والشعر خصوصاً.
في برلين كانت (ليلى شماع) من بين الأصدقاء الذين رافقوني في الجولات وفي الندوات أيضاً. وسرّني كثيراً سماعي، من أشخاص مختلفين، ألمان وعرب يحسنون الألمانية، التعبير عن إعجابهم بترجمة (ليلى) لفصول كتابي، لأنها قرّبتهم بشكل ممتاز من روح النص المكتوب بالعربية.
وأزعم أنني لمست مقدار نجاح الترجمة من خلال اللقاءات المباشرة التي قرأتُ فيها فصولاً من الكتاب؛ حيث أبدى بعض الحضور إعجابهم بأجواء النص الشعرية على الرغم من كونه نثراً.
اللافت في (ليلى شماع) أنها ليست كثيرة الإدعاء فيما تنجز من ترجمات، بل إنها من أكثر المترجمين العرب خفاء في ألمانيا، في حين أنها قد أنجزت نصوصاً أدبية حديثة ومهمة، وظني أنها، مع أقران لها عرب وألمان، من الجيل نفسه، أصبحوا يمثلون، في السنوات الأخيرة، عنصراً حيوياً في مشروع الحوار الفعّال بين الثقافتين العربية والألمانية.
الترجمة، بوصفها جسراً، من بين الحقول التي يجري تنشيطها وتفعيلها برصانة من خلال المشاريع الثقافية المشتركة، التي من بينها مشروع (ديوان شرق وغرب)، المدعوم من جهات أكاديمية وثقافية ألمانية، الذي هيأ هذه الإقامة الأدبية، لي ولآخرين سبقوني من كتّاب البلاد العربية وإيران وتركيا.
سيظلّ مشروع تبادل الزيارات الأدبية ( ديوان شرق غرب) بين الكتّاب الألمان والشرقيين، واحداً من أنجع وسائط الحوار الثقافي الذي أصبح ينال المزيد من التفهم والتفاهم بين الأطراف المشاركة فيه. فهو بمثابة الخروج الرصين على حدود المناسبات المغلقة والعابرة التي نادراً ما تترك أثراً في المشاركين ...
****
في برلين، كان على (ليلى شماع) أن تتكفّل بمرافقتي، ليس ثقافياً فحسب، ولكن صحياً أيضاً.
قلت لها : ها أنت تحملين عبء من تقومين بترجمة كتابه عندما يحتاج لعناية صحية.
فاعتبرتْ ذلك فرصة مؤاتية للتعرّف على الكاتب بوصفه (الكائن الذي لا تُحتمل هشاشته). رافقتني إلى طبيب الأنف والحنجرة في محاولة لاستعادة حاسّة الشمّ التي توشك على التلاشي، بسبب خلل عضوي نتج عن حمى شديدة، قال لي الطبيب، اللبناني الأصل، أنها حالة عابرة، فعبرت عليه.
لكن هذا ليس كل شيء مع مترجمة شابة مثل (ليلى شماع)، طموحها المعرفي أكثر من حدود النص الذي تسهر على ترجمته، فالسنوات الطويلة في برلين سوف تصقل لدى (ليلى) موهبة بناء الشخصية الثقافية الخاصة بها، بشرط أكثر المكونات جمالاً ونبلاً : الإبداع الإنساني.
وهي اختارت أن تكون ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الألمانية حقل اهتمامها، لتخلص لنفسها من جانبين، الأصل العربي الذي تصدر عنه، والحياة الألمانية التي تعيشها وفيها تستقر.
بهذا الشكل، يجوز لنا القول بأن إسهاماً كالذي تقترحه (ليلى شماع) على الثقافة الألمانية، هو كسب نوعي للأخيرة.
لقد أصغيتُ إلى من يمتدح طريقتها المميزة في الإعداد والتقديم للندوات التي تديرها، وتأكدتُ من هذا عندما شاهدتها وهي تقدّمنا (إيليا توريانوف وأنا) في قاعة الهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي (DAAD)، وتشارك في الحوار بوصفها مترجمة النص.
****
الندوة الثانية في برلين، حضرها ما يشكّل نخبة من المهتمين بالشأن الثقافي العربي، وكان هناك أيضاً عدد من محبي الأدب.
وشاركنا، على نحو فعّال، المترجم الاستثنائي (جونتر أورت)، الألماني الذي يتكلّم اللغة العربية مثل أهلها، وهو مترجم قانوني محترف، بالإضافة إلى ترجمته العديد من الأعمال الأدبية العربية إلى الألمانية. يعدّ (جونتر) من أشهر المترجمين الفوريين، على الصعيدين الثقافي والسياسي، وحين كان يترجم لي الحوار المباشر في هذه الندوة، شعرت بالإختلاف بين الترجمة الفورية في الندوة الأولى، وتيقنت من فداحة ما تعرضت له من خسارة آنذاك.
وكان عليّ أن أندم قليلاً على ذلك.
****
لدى (جونتر أورت) ملاحظات نوعية في حقل الترجمة، كان قد طرحها في محاضرة خاصة في الأردن، في الشهر نفسه، تابعتها في الصحافة العربية آنذاك، وتيسّر لنا مواصلة الحديث عنها مطوّلاً في برلين. ولكي تكتمل الصورة، كان علينا أن نلبّي دعوة عشاء في داره، والتعرّف بزوجته الشامية التي انهمكت في إعداد عشاء الدجاج بالملوخية، التي انتقت وريقاتها الخضراء الطازجة غصناً غصناً بيدها، في محاولة لتأكيد عربية السهرة. في برلين ليس من الحكمة تفويت دعوة عشاء في بيت عربي. والمترجم الذي يسهر على قلق الإنتقال باللغة بين لسانين سوف يشركنا في قلقه الخاص بما تتعثر به اجتهادات الترجمة بين الألمانية والعربية.
كان معنا الفنان (مروان قصاب باشي)، وكانت (ليلى شماع)، والصديق (مروان علي) المقيم في مدينة (إيسن)، ومعنا أيضاً مترجم شاب بالغ الدماثة تعرّفتُ عليه في برلين هو (يوسف حجازي).
طرح (جونتر أورت) بعض ملاحظاته على ترجمة أعمال (عبد الرحمن منيف) إلى الألمانية، وهو موضوع سوف يثير اهتمام (مروان باشي) صديق (عبدالرحمن منيف) والقارئ الجيّد لأعماله، الأمر الذي هيّأ مدخلاً مشوقاً لملامسة واحدة من أهم قنوات الإتصال الثقافي بين الأدبَين العربي والألماني، وهي الترجمة.
(جونتر أورت) و(ليلى شماع) تجربتان متميزتان، مع اختلاف حساسيتهما الخاصة تجاه الترجمة، وقد اشتركا في حوار السهرة بتصورات فنية شخصية بالغة الدقة، في محاولة للتعبير عن الصعوبات التي يواجهانها فيما ينقلان الإبداع العربي، دون أن يقعا في مثالب الإجتهادات المبالغ فيها، فهما يحاولان تقريب النص العربي للحساسية الألمانية.
انتصر (أورت) إلى شرعية التدخل الشخصي الطفيف بذائقة المترجم، لكي يأخذ التعبير العربي سياقه الأنسب في النص الألماني، من أجل أن يدرك الألماني كيف يمكن للمطر أن يكون نعمة في صحراء العرب فيما هو بمثابة النقمة في الغرب بأسره. وظني أن مترجماً متمكّناً مثل أورت يمكن أن يوفّق في اجتهاده بوصفه الألماني المدرك للحساسية الفنية عند القارئ الألماني. تقابله في ذلك الإجتهاد تجربة (ليلى شماع) التي عبرتْ عن نزوعها للطاقة الشعرية التي يقترحها النص العربي باعتبارها عنصرا تعبيرياً وجمالياً لابدّ من الاعتناء به، في الترجمة، من أجل ملامسة اللاوعي الشعري عند القارئ الألماني.
ليلتها كنا نكتشف، جميعاً، كم هي مضنية عملية الترجمة كصنيع خالق، نحن الذين نذهب لقراءة نصنا منعكساً على القارئ الألماني، دون أن نتصوّر الجهود، بالغة التعقيد، التي تحمّـل عبئها المترجم في عملية إعادة الخلق، من أجل المساهمة في تحقيق الإتصال الحيوي والفعّال بين تجربتين إنسانيتين شاسعتين إلى هذا الحد.
ليس من غير دلالة أن يكون موضوع الترجمة على رأس كل مشروع يسعى للإتصال والعمل المشترك بين العرب والألمان، ولا يخلو من محاذير التعرّض لموقف الترجمة الخاطئة أو المترجم قليل المعرفة، عندما تجد نفسك في لحظة سوء التفاهم النموذجية بينك (نصاً وشخصاً) وبين القارئ أو المستمع في حوارٍ يتطلب الدرجة القصوى من الدقة والمعرفة.
في السياق نفسه، سوف نتوقّع من مشاريع الإتصال المشترك المباشر، الذي تقوم به تجربة (ديوان شرق غرب)، القدر الأكبر والأهم والأكثر جديّة يومأً بعد يوم.
****
في متحف الفن الحديث في ميونخ وجدت ما يؤنس وحشتي التي أوشكت على التلاشي لفرط الوقت: مخلوقات جياكوميتي الرهيفة والشفيفة كما لو أنها كائنات افتراضية لفرط خفّتها في الفضاء. ففيما أُودّع المكان الألماني، عبر اليوم الأخير في ميونخ، أخذني الصديق (إيليا) لزيارة المتحف الذي شكّل صدمة لأهل المدينة وقت افتتاحه بسبب التنوع المتطور في حداثته، فهو لا يتوقّف عند مدارس الرسم الحديث منذ نهايات القرن التاسع عشر فحسب، لكنه يعرض أكثر اجتهادات ومغامرات التصميم والعروض الشيئية والتصوير والعمارة والتقنية الحديثة حتى نهايات القرن العشرين، مما هيّأ مناخاً يخترق الفكرة التقليدية لمفهوم الفن خارج اللوحة والرسم، الأمر الذي جعل بعض أهالي ميونخ يطرحون السؤال الجذري: ما جدوى مثل هذا العرض وكيف يصحّ أن ينال كل الميزانية التي يتكلفها متحف ضخم مثل هذا؟
غير أنني لاحظت أن ثمة جواباً صارماً وبليغاً سوف يتمثل للزائر منذ لحظة دخوله بهو المتحف، حيث سيصادف واحدة من أجمل المباني الحديثة وأكثرها أناقة وسلاسة في التصميم، بحيث يصبح المبنى نفسه تحفة فنية.
من بين القاعات العديدة للفنون التشكيلية المألوفة هناك مجموعات مختارة لأكثر فناني العصر الحديث إثارة للجدل والإختراق التعبيري، من هنري ماتيس إلى بول كلي، من سلفادور دالي وبيكاسو إلى جياكوميتي.
ولأن لحظات الإتصال بالعمل الفني ستظلّ مختلفة في كل مرّة تشاهد العمل، وبالرغم من إنني قد شاهدت سابقاً أعمال هذا الفنان، إلا أنني شعرت هنا بأن هذه الكائنات، التي بالكاد توجد لفرط شفافيتها وجرمها الخفيف الذي يضاهي الوجود الطيفي، تطفر من جسدي وروحي أكثر من كونها محض منحوتات منتصبة على قواعدها الثابتة في فضاء القاعة. لقد كانت خفيفة الوجود وثقيلة الدلالة، قادمة نحوك منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، مندفعة برشاقة المعدن الطالع من مناجمه هارباً إلى لا مكان، وكلما اقتربتَ نحو الجسم أكثر اختلط عليكَ الظنّ، هل هذه أجسام ذاهبة إليك أم ذاهبة معك أم ذاهبة عنك؟
منتصف خمسينيات القرن العشرين، أين كان يقف الإنسان وكيف كان موجوداً، وربما يصحّ لنا أن نسأل: هل كان موجوداً أصلاً؟ تلك الفترة كانت ذروة الحرب الباردة بين معسكرات تبتكر، وتتسابق في ابتكار، مصادرة الإنسان ونفيه وتشييئه، ليبدو أمام نفسه كائناً بلا دلالة، وليكون، في كل لحظة من ذلك الصراع الفظّ، بمثابة الوقود البشري البخس لصراع باهظ الثمن.
لقد قادتني الصدفة الألمانية لزيارة هذا المعرض مستنجداً، بلا قصد، بكائنات جياكوميتي المرتجفة، القادمة من الحروب، في وقفتها كمن يشهق من جحيم. مخلوقات بشريّة طيفية الوجود شبحية الروح، تخرج من التجربة محمّلة بعذاب لا يُوصف، ليراها كائن مثلي، يرى المعدن الأكثر صلابة والأكثر هشاشة في آن.
كنتُ هناك،
جالساً على مقعد في زاوية العالم،
وحدي مع جياكوميتي .. أتلاشى.
فبدأتُ أعرف.
****
قاسم حداد
ما الذي جاء بي
يا أبي
والقطارات مشحونة بالشجر
ومأخوذة بغموض المطر
ما الذي، يا أبي،
حطّني في الطريق إلى النهر
للناي يقتلني
كلما مَـرّ بي
يا أبي
ما الذي جعلَ العانسات البعيدات يشغفنَ روحي
ويغزلنَ، مثل الأغاني النحيلة،
قمصان قلبي
ويمسحن، مثل الهدايا،
جروحي
ويصقلن بي غربة المتعب
يا أبي
ما الذي جاء بي
نحو هذا النبيذ الغريب
كأنّ الجُسُور،
وغيم البحيرات والشجر الحرّ
أرجوحة الغائب
ها أنا، بعد بحرين، تنتابني،
يا أبي
مثلَ برقٍ، بحارُكَ
فارأفْ بطفلكَ
واكتبْ له نجمةً في السديم،
كأنكَ خلقٌ له
خارجَ الكوكبِ.
****
تأتي القهوة مسبوقة بعطرها
وتأتي الأراكيلُ
يأتي نحاسُ الطواجن مكلّلاً بالبهار
وباللؤلؤ (البسمتي) من الأرّز
ويأتي تختُ الموسيقى بصناجاته
بالتوابل نفّاذة مثل عطر الغابات
تأتي التآويل والبهاليل
ومنعطفات لا تحصى
في شارع (كودم) الزاخر بمقاعده وخضرته
بمنافذه الكثيرة نحو مسارب الضوء
بمداخل ترصد الظلال الكثيفة في حواف الرصيف اللانهائي
يستيقظ (كودم) قبل منتصف النهار
فيحرّك أعضاءه مغتّراً مثل سفينة عظيمة متعددة الصواري
بأضوائه الثلاثة ذات السطوة
حيث فيزياء المكان
أضواء تصدّ العربات من هنا
وتطلق نهر الناس من هناك.
سفينة تؤرجح صواريها
وتهتف: ها رشاقة الناس بين الرصيف والمقهى ومنحنيات الريح
صوارٍ قصيرةٌ واثقة مستغرقة تحرس غفلة الكائنات
صوارٍ من المعدن القديم
تتّكئ على أرصفة تظلّلها شواهق الأشجار
تمنح الحركة على الكائنات بالقسطاط.
أحصيها صاريةَ صارية
واهتف:
صباحُ الخير للمدينة وهي تنهض من نومها
صباحُ الخير لكائناتها في شارع (كودم).
لستُ ضيفاً على أحد
فكلما رشفتُ قهوة نقصتْ صارية
ولمع لونٌ جديدٌ في تاج الشارع المغرور
مستعيداً مجداً يكاد أن يذهب.
لستُ ضيفاً على أحد
الأشياء تأتي مأمورةً
أجلسُ في عطر المقهى
وأطلق كلماتي في دفتر الشارع
لأرقبَ رشاقة الكائنات وخفّتها
تعبر ذاهبةً إلى بهو الوقت
أقداح البيرة الضخمة وهي تفرز عضلات الزند
الأقداح الطويلة المبعوجة ذات الخصر
لكي ينثال الذهب خارج السيطرة
فناجين القهوة بتاج الرغوة الهشّة اللاسعة
الطيور المذعورة لفرط أبواق مشجعي الكُرَة الطغاة.
أتّكئ على سلّة ريح عابرة مُكتظّة بوريقات صفراء
فلستُ ضيفاً على أحد
برلين غير مكترثة بي
لكي أنالَ الحريّة كاملة
ففي حانات الشارع المُكابر
لم أطلبْ ضوءاً مُضاعفاً للكتابة
العتمة تكفي
وتكفي نافذةٌ بشرائط البوص الرهيفة
نافذةٌ تظلّ مواربة لئلا تصدّ نسمة متعبة.
لستُ ضيفاً على أحد
هنا،
لا أحد يمنع وحشة البيت
بيتٌ هاربٌ من منخفضات الريح
لاجئاً إلى أرجوحة الأعالي
بيتٌ يختار عزلة الطابق الرابع
مرصوداً بدرجٍ باهتٍ تزخرفه مساقطُ ضوءٍ شحيحٍ
في حضن عتمة مُترفة
لستُ ضيفاً لكي أصعدَ على مضضٍ
إلى بيتٍ يخافُ من وحشته
لستُ ضيفاً لكي أنامَ وحدي
في غرفةٍ تئنُّ أرضُها مصقولة تحت عربات أحلامي
فليست الشرفة غير وريقات صفراء تهطل في شارع (كودم)
وعطايا النوم رحلة مشتهاة تكاد أن تغفو.
****
يغادر مكانه،
نحو غيمٍ مجهول
يزعم أنه قادرٌ على هدنة السفر
يأخذه ليلٌ طويلٌ دائمٌ ومستمر
ليلٌ يشي ويتلاشى ولا يكفُّ ،
ليلٌ يلتبسُ:
صديقٌ أم كتاب،
ويستسلم
لئلا يقصرُ عن حرية النجوم والغيم والهواء،
في جسارة جناح الحديد
يصعد متوغلاً في الليل الشاهق الطويل
يتصاعدُ مثل لهبٍ
في مكان الموقد ومكانة الأوج.
****
الصباح هنا لا يتبع الشمس
صباحٌ أكثر حرية من الشمس
يسبقها ويغرّر بها ويؤجّلها
كلما طابَ للمرأة أن تسهرَ الليل في وحشة النافذة
كلما طال ليل انتظاراتها
فالصباح المُبْكر يسرقها
مسعفاً ضعفها
الصباحُ هنا يبتكر شمساً يؤنس بها المرأة الساهرة.
****
صباحٌ يتماثلُ كلما حرّكَ الناسُ أعضاءَهم
في الرصيف الذي لا زال رطباً
في انكسار الهواء على شرفة موحشة
في القطارات مكتظّةً بالمرايا البخيلة
بالعصافير مرصودةً للشِراك
غابة غائمة
غير أنّ الصباح الذي يسبق الشمس
سوف يمرّ ليوقظَ رائحة الشاي
والقهوة النائمة.
صباحٌ كثيف يحرّر أحلامنا
ويقايضنا بالتفاصيل
بالأكفّ المدماة ذاهبة للعمل
كلما انتصرَ اليأسُ فينا
يقايضنا بالأمل.
صباحٌ هنا سوف لن يستجيب لمشتهيات الكسل
صباحٌ لنا،
كلما ندمَ الضوءُ في غابةٍ
بدأ المحتملْ.
سوف يمتدّ هذا الصباح
إلى أن تقرر أشجاره الكشف عن شمسه
إلى أن يهرول أطفاله في الحديقة قبل الحصص الموهنة
كأسُ الحليب الحبيب الذي تركَ امرأةَ الليل في عطرها هائمة
وانزاح في خلسة من سرير انتظاراتها
امرأة الليل يا وحدها
والحبيب الذي طار في العربات الأخيرة
في قاع برلين
في الدرجات الكثيرة والنوم
لا يرتبط الصبح بالشمس
هذا صباحٌ يلوّن ما تشتهيه الحياة
ويرسم كل التفاصيل
يوقظ ما انتابها في السرير الذي يغادره طيفها
لاحقاً بالعربات الرشيقة تشهق منسابة
في رواقٍ من الأفعوان
ويوقظها مثل شمسٍ قبيل الأوان
صباحٌ له الشمس تفاحة
له امرأة مثلها
كلما طاش في غامض الليل حلُمٌ لها
شـبّـت النارُ مثل النهارات،
كالشمس في غيمة ضائعة
كأنّ الصباح سينسى
كأنّ الجريدة وهي تؤجّل أحداثه
سوف تنسى
كأن الحبيب الذي سوف ينسى
كأنّ التي شغفت بالتفاصيل تنسى
ترى من يسأل الشمس عن فجرها
وهي تنسى؟
****
نفسها الكأسُ
غيرَ أنّ الأصابع والرعشة النبوية
والأحمر المستريب والعتمة المزمنة
رشفة لا تشبه الكأس
فالليل يبكي على كتف النادل المستريح
والسهر الناعم النوم
واللوم يشحذني بالحنين الغريب
والرؤى الكامنة
نفسها كانت الكأسُ
حتى إذا طاشَ في الرأس برقٌ كسولٌ
تسنّى ليَ الوقتُ
وانداحَ في الليل وهجٌ خجولٌ،
تبجّـلتِ أيتها القُبَل المؤمنة.
****
اتركوه هارباً يجهل الطريق
ويذهبُ
سرب النحل المذعور
سرعان ما تمزّقه هندسة النيران
يفـرّ مأخوذاً نحو العسل المتروك في الأعالي
اتركوه
يعرفُ طريقَ المجهول
واذهبوا إلى ذخائر المليكة
أنقذوها من وطء الحافر والخفّ.
****
أزقّتها المتربة
تجاعيد أطفالها الشاحبة
زرقتها،
ريشة التاج في عرسها
بحرها يحرسُ الفقرَ فيها
ويجتازها
تحضر الآن، في غيم برلين
رغم المسافات
تقترح الكتب الغائبة
أسمعُ نومَ النوارس في معطف الليل
أسمعها في الظهيرة
أركضُ،
والشمس خلف الخطى التائبة
يا أيّها الولع المرّ
يا منتهاي البدائي
أيتها المدن الغريبة
أنساكِ كي أتذكّرها وحدها
فرساً سائبة.
****
مثل ليلٍ يغسل أحلامه بالندى
تفيض على جسده ضجّة المكان
رأسه منسيّة على ركبة مثنية
تركتْها الحربُ الأخيرة
ساقٌ لم تنلْ منها القذيفة التي أخذت أختها
ساقٌ واحدة تفيض عن حاجة الرصيف
في محطة القطار
مثل أحلام محروسة بغياب الدرك
في يقظة تشبه ليلاً لا يشبه أحداً
لا يحملُ شيئاً
يفترش ما يتماهى مع الرصيف الكالح
ويجلس فقط
ظهره إلى الحائط
ويداه بطيئتا الحركة
ترسمان أشكالاًً في الهواء الثقيل.
يوقفكَ
يشرح لكَ صدركَ بآياتٍ غامضة
يستحوذ عليك
فيما يتمتم بلغاتٍ فصيحة، لا يُخطئ لغتكَ
ولا يفعل شيئاً،
يرفع رأسه الحليقة عن ركبته الوحيدة
ويستولي على حواسّك
مثل سديـمٍ ناسكٍ
عيناه مفتوحتان في عينيك
لا يرى سواك
ولا يفعل غير إدهاشك
يتوغّل نحوك
بلامبالاته الرصينة.
يزمّ شفتيه
فتعرفَ أنه يشتـمُّ رائحة وجبتك القادمة
ربما بادَرََ ونهاكَ عن السمّ في الدسم
لا يصدّك عن مواصلة عبوركَ الفادح
غير أنكَ مُقيّد في شِباكٍ غير مرئية
وهو يراكَ
يرى القيْد والشِباك
كمن يغزلها بحركةِ يدَيْه البطيئتين
بكلماته النادرة
ينصحكَ بالعَرَبة التالية ذات الرقم الزوْجيّ
فيكون القطار كلّه لك.
يبسط لك كفّه الناصعة الحُمْرة مثل وردة
فتقرأ معه ما يكتبه عليك
كلّ شيء هنا في يدِكَ
ما لَـكَ وما عليك
يبسط كفّه فتظنّ أنه يسألكَ
وحين تهمُّ بمنحه
ينهركَ: لستُ شحّاذاً
لا أطلبُ منك
لكنّي أطلبُ لك
فاذهبْ والحقْ بقطارٍ يفوتك.
****
في ليلِ برلين يُخطئ مستوحشٌ بابَ أحلامه،
كلما انتابه النومُ
أطلقَ أشباحه في الهزيع الكثيف من الوقت
يُخطئ مستوحشٌ
عندما ينهمرُ الخوفُ من ليلها.
برلين ليستْ على رسِـلها
بيتها غابة
برلين محروسة بالكلُورُوفيل
بالأخضر الفائض المُستهام
بالبحيرات والإنسجام
برلين تسهو قليلاً
فيستيقظ تاريخُـها في التفاصيل،
في دفتر الحرب
منسابة في ما تبقى من الحجر القرمزي
من الفرن يخبز طيناً ويرسمه للجياع
من المرتجى في ضياع الهروب الكبير
من الموت
مما تبقى لبرلين من صوتها
من الليل أطول من نومها.
يا ليل برلين
يا حارسَ الخطوات البطيئة عبرَ الممرات
قلْ خبراً واحداً يسعفني في صباحٍ بعيد
قلْ كيف اقرأ أخبارَها
كيف أساعدها كي ترى في الظلام الوحيد
احتمالاتها في كتابي؟
يا ليلها قلْ لها
كيف سأقرأها في كتاب الصباح،
كما يصنع الخوفُ لي
ما يـلي في الخطى الراعشة
شرفتي الموحشة
سفرٌ موغلٌ في التآويل
في معجم الليل،
تاريخها، منتهاها
لها ما يحضّ على الذكريات
ما يجعل السور إرثَ الكوابيس
ما ينتهي حين يبدأ
ما يستحيل اختزالاً مُخلاّ لها
وهي في ليلها
في الهزيع السريع من الحلم.
يا ليل برلين
دعني أفسّـرُ ما سوف يبقى من الروح
في البدء والمنتهى.
****
كلما اختلفوا في هجائها
شهقوا بمديحها الشامل
يتهدّج بعضهم بالنشيد
مثل فتية يتعثّرون بعشب الحديقة المهمل
مثل تراتيل الآحاد في كنيسة مكسورة البرج
مثل أقداح الجعّـة الضخمة
تهرول على طاولات المقاهي المزدحمة
لم تكن المدينة بنت الخطيئة
الخطيئة في الناس
قبل السور وبعده
يتقاطر الكهول بالتجاعيد الكثيفة
مرتجفي الأصابع، بعكازاتهم المعروقة
أعواد متوّجة بالعاج القديم
مقابض اصفرّت لفرط التبغ
واحمرّت لفرط النبيذ
واسوَدّت لفرط الوقت.
أرواحُ الكهول تطفحُ في ذاكرة مستعادة
لزفيرهم رائحة السأم
ولأقدامهم المتأرجحة رجعُ المارش القديم
لجيش عائد من الموت.
كلما كشفوا قمصانَـهم المتهدّلة عن آثارٍ تهجو المدينة
سارع أحفادُهم باقتراح المديح لتسلية ضجرهم
ومؤانسة الأيام الأخيرة لحواسّهم المتكاسلة
يتذكّرون نسيانَـهم كلما حرّك شخصٌ رمادَ مجامرِهم
وطفقوا يهجُـون مديحَ المدينة
قبل السور وبعده.
ينشرون خرائطهم العتيقة على الكراسي
ويطلّون عليها من سطح طاولاتهم
كمن يُشرف على جحيم ويُمطره بزَبَد الجعّـة الطائش
ينظرون إلى أحفادٍ لا يرونَ غيرَ نجومٍ في نهارٍ وشيكٍ
يستعصي على الوصف
ولا يمكن تفاديه.
يمتدّون بأصابعَ مرتعشة
يهدهدون صَبْرَ الأحفاد
بالمديح الوافر ويدرّبونهم على المعرفة.
ورثنا مدينة مشطورة الدلالة
تتفصّـد بالقواميس وتقصُـرُ عنها المعاني
نحن إرثُ الجغرافيا
وخزائنُ التاريخ
أخذنا دَيننا على المناكب،
وتقاسمنا التجربة مع كائنات المكان
لتنال نصيبها من النص.
****
عندما عشرون ساعة من الليل الكثيف،
تختبركَ بتحوّلات الفيزياء في جسدكَ
والكيمياء في روحكَ،
ينبغي عليكَ أن تذعنَ لإخفاقك الفاتن،
وتؤمن به وتهتمّ.
****
يضع قدميه على أرض ليست له وليست عليه
أرض لا تكترث به،
إنها تزن الشخص بخفة غيابه.
قال لنفسه:
هذه لا مبالاة تليق بمن عقد العزم على ضياعٍ مؤقت،
لم يسمعه أحد،
فطاب أن لا يهتم بأحد.
أن تكون في هامش الناس،
فتلك نعمة تسبغ عليك حرية صغيرة
يحلو لك أن تستغرق في آفاق شاسعة
لا يدرك رحابتها سواك،
لكن أن يكون العالم جميعه في هامشك،
فهذا كرم مفعم بالكشف،
وليس لك أن تفوت متعة التمرّغ في فروٍ رؤوفٍ،
لا يناله غير شخص مكتظ بشهوة الكتابة،
غزير الأحلام،
لمخيلته طبيعة جمرٍ في المهب.
تستقبله الطبيعة وحدها،
- ربما لأنه لم يعد يحلم بغيرها -
في قميص من الغيم
يشفّ حيناً ويغمض ،
لباسٌ لا يمنح غير رغبة المزيج
ومشاكلة الشخص بشمس نادرة.
وحين يبدأ الكلام مع الكائن الشفيف،
يصح لمن ينظر إليهما أن يهتف:
"شخصان يتصادمان
تستعيد فيهما اللغات هيئتها الأولى".
****
هذه هي الغابة إذن.
مكانٌ قصيٌ يأخذك إلى المصادفات،
ويسعى إليك بأقدام الرؤى الرهيفة
تضع يدك على صنوبرة تحرس لك الكوخ
فتتأود لفرط الوجد.
صنوبرة تتذرع بالأخضر القديم
صامدة في صهاريج الثلج،
فيما تخبئ الأشجار ثيابها في صندوق الصيف.
تحاول أن تصقلَ أحداقاً مفتوحة لتملأ الذاكرة بذكاء الريح،
مازجاً الحلم بالنسيان،
فينتابك الولعُ بصمتٍ تكاد أن تسمعه.
بين كوخك والكوخ الذي يليه
مسافة يتكفل بها الشجر
غابة تكفي لراحة بين تعبين.
تضع جسدك في بكورية المكان،
فتبسط لك الروح مظلة تحميك من الوقت وعبوره الفادح
وليس لك أن تثق بأنين ناياتك لقياس الليل والنهار.
هذه هي الغابة إذن.
ضياعك الجميل الذي يحسن قراءتك،
وأقاصيك التي يتملكك شغفُ كتابتها.
****
لماذا
كلما قبل برلين
صليتِ لي في الدفاتر
بالشعر والشغف المستثار
وما ان سهوتُ عن البحر
صليتِ عني.
في الصيف
ينتابني الذعر
وتخطفني الكيمياء
وأخسر بعض الحواس
وأهذي
فيا قبل برلين
يا بعدها
جئت في النثر
صليتُ
يا شعر برلين
يا سردها
رقّ لي ... وامتحنّي.
كأني
أقسّمُ جسميَ على آخرين
ذريعـتُـهم أنني تائه الروح وحدي
وأنت
تضيعين، في لحظة النار، عني.
لماذا الحياة التي،
كلما قبل برلين،
ضاعت سدىً،
كلما صاحتْ الروحُ
جاء الصدى
لماذا تعالجني الكهرباءُ
بما يمنع البرق عن شهوتي
وتنهرني شبكات الغواية
فيما تنامين بالقرب من جنتي.
إذا ضعتُ في بيت برلين
مستوحشاً بالذئاب الأجلاء
مستأنساً بالولع الذهبي الذي تبدعين
يفزّ على ضفتيك الحنين،
وحين أموتُ قليلاً
تنامينَ في النص قبلي،
تنالينني
على الرغم مني.
****
يكسر الضوء،
ظناً أنه ذاهب إلى النوم،
فتتوهج عزلة الذهب من حوله.
تبدأ أشياء الغابة بزيارته،
متخللة النوافذ المنسوجة من قصب النايات،
منسربة من تحت أعقاب أرغنٍ هاربٍ من عاج النيازك،
فيبدأ فضاءُ الكوخ في التألق.
ثمة زائرٌ فاتنٌ غابَ عنه طويلاً،
يستفرد به الآن، وينهره بالكوامن
موقداً حوله القناديل،
عابثاً بألعابٍ تفضح خجلَ الكلمات المتوارية
وتمنح الحروف حرياتها،
ويتركه في التماهي مع الضوء.
يبدأ في تبادل الشظايا،
فيما يلثم ثلجٌ كالسُكّر صحوةَ الكون،
مثل امرأة تغمر جسدَ حبيبها بالقبل
ثلجٌ يلمع كلما لمحته العيون بدهشة القلب،
كان الله يمنح الشخص من رحمته ماءً
يغسل أقدام القصائد وهي تتقدم.
ثمة زائر حميم عازم على تلقينه درس الكتابة كاملاً.
****
تخوضون في الدم
في العقيق القديم
في زجاج يكسر الحنجرة
في طفلة منثورة في الحاشية
فيستيقظ الضوء في الباقي من الروح
في بريد النيازك
يبدأ فينا
يقرأ الدفتر
ويتجرع الحياة.
تخطّـون في حجر الدم،
ينسى ويمحو.
****
نهارٌ يكاد أن ينهضَ،
شمسه تقود صباحاً طازجاً
والكائنات التي أنشأتْ هذه الجسور
توشك أن تهرمَ لفرط العمل
نهارٌ ينهض ويتماثل ويسطع
لكأن شمساً واحدة لا تكفي.
****
في انتظار
الفارس القادم من الصنوبر الزكي
يأخذني إلى المسرات
ويمنح روحي لحظة البهجة
الفارس الضائع في المدينة
سوف يخطفني من رصيف القطار
حارساً يقظاً لعثراتي المتوحشة
لئلا تستفرد بي وحشة
ولا تنال مني خطوات الغربة المرتبكة.
****
عصيّة على الوصف
صورة شخص يلتقط شظاياه
في شريط الشرفة
بين حوض البقدونس وسيل الحمم
الطائش
المنهمر
بلا قيادٍ ولا أدلاءَ ولا معنى.
****
صريخٌ صادرٌ من جذور الشجر
مستغيثاً بالمياه الخفيّة
مَنْ يصغي
قبل الماء و بعده؟
مَنْ يطلقه في نسغ الغصون؟
صريخٌ يفيضُ على القلب
يطيشُ به العقل.
****
ناركِ الفاشية
في هشيمي..
من أين لكِ كل هذا الجمر،
هذه النيازك الفاتكة،
هذه التحولات الفادحة
من وردةِ الغيم إلى نجمةِ الوجه؟
تعالي بناركِ الفاشية.
****
تؤثثين غرفة الليل بغيابك
لا أحد يلمس الضوء وينجو
دون أن يعبر المسافة بين القلب والكتاب.
****
تأخذ الحكمة معكَ إلى المكان
فليس للمكان حكمة في غيابك
حكمة مأهولة بكائنات غائبة
خفيّة
مشحونة بالعناصر الجديدة الفجّـة
كلما وضعت قدمكَ على عتبة المكان الغريب
ستقرأُ حكمتكَ الأولى.
ليس ثمة حكمة واحدة لمكان واحد
ثمة أمكنة لا تحصى وحكمة واحدة،
حيثما تكون،
أنتَ في مكان الحكمة.
****
مثل بهجة العلاج
جسدكَ أرجوحة القطار الرشيق
وروحكَ ضالة
لا تنال الهداية
ولا تنشد المعصية.
تسيلُ من المقعد على أرض العربة
ذائباً
متحولاً إلى عناصركَ الأولى :
هباءُ الروح
وجسدٌ يكاد أن يفنى.
****
تلك التي تترك المطر يقتفي أثر خطواتها
تلك المتعالية ناظرة إلى الشجر من شرفتها
تلك الرشيقة مشقوقة القميص
طائشة الشعر
تلك الضائعة
منشورة الأجنحة
مأخوذة بفكرة الآلهة
تلك المكترثة بعبء الخَلْق
غير المُتاحة في القصائد،
لا أعرف لها صفة ولا طبيعة.
****
يتوجّب أن تكون بلادكَ جزيرة
لأجل أن تحظى بفداحة البحر وهو يبتعد عن بيتك.
يتوجّب عليكَ أن تفنى قليلاً في انتظارٍ رحيم
لئلا يتأخّر بكَ السفر في درجة المنفى
عندما بلادك جزيرة تحميك من الغزو
وتأتي لك بالرحيل والمغامرات
ولا تنساك
على أن تكون نافراً
ومستعداً لذلك.
****
الشجيرات المُزْرقّـة لفرط البرد
المُثقلة بالانتظار والمعرفة،
قالت له الحكمةُ
نصَحَته بفهارس الأرق
ألاّ يعبر تحت موجها الأزرق وهي تبكي.
قالت له الحكمة
خصّته بفصاحة الألوان
وهو يضع كتفيه في المعطف
وهو يزيح الطينَ عن خطوات الماء
وهو ينحني بعبء الخبز
وهو يستعصي على الضغائن.
تحولاتٌ وضعتْ يده في المناجم
وغمرتْ أهدابَـه بالقناديل
الشجيراتُ ذاتها، رهينة التحولات
وهي تصْـفرّ غيرةَ
وتحمرُّ لفرط البوح.
****
ماذا أفعل بكل هذا النبيذ؟
أنخابُه تتدافع في بهو السهرة
وأعضائي تتدثّر بيقظة الليل
العناصرُ تترنّحُ ذائبةَ
تصقلُ دفترَ التأويل
منتشيةَ بما يتيحُ للجسد تاجَ الشهوة
وما يجعلُ القلبَ في الغيم.
****
ما من شعوب تزعم تكبّد الخسارات
وتجرّع الهزائم
وهَدْر القرابين
مثلما نفعل،
من غير حكمة ولا درسٍ ولا موعظة.
ما من شعوب تخضعُ لعسف حكّامها
وتبجِّلُ جلاديها
وتستجيرُ بالجحيم
مثلما نفعل.
نحن جوابو الجهات
نحسن غزلَ الشِباك لخطواتنا
نصقل جمرَ المواقد لتصهرَ المسامير
وهي تنغرس في لحمنا حتى خشب الروح
نغيّـرُ جلودَنا لكل سوطٍ
ونتضرع للنصل لئلا يكفَّ
ونعضّ عليه بالجراح
نقرأ مصائرنا في الليل
وتقودنا الكتب.
صَـبَّ اللهُ الأصنامَ لنا بالدوارق والأباريق
طواطمَ تجثم على الأكباد
تصهرنا في جبل الفولاذ،
آلهة تعبثُ بلا غضبٍ ولا ضغائنَ
تضعنا في غرفة الصاعقة
وتصفق الباب خلفنا
وتنسى.
****
ليتكَ في المعرفة
ليتَ هذا الضوء الذي يعبثُ بي
يتكلّم ويطرح الصوتَ
لتدركَ الغرفةُ درسَ الضوء
ويأخذ (نيتشه) نصيبَـه من الندم
وينالُ درسَ الضوء ويشفى،
ليتَ المعرفة علّة الضوء
ليتها ...
****
فلكٌ يفيضُ من نافذة السديم
نصفُ عتمةٍ
نصفُ ضوءٍ غائبٍ
وجسدَه ينضحُ غباراً يغمر شجرة البيت.
فلكٌ أكثرَ علواً من الصدى
لا يسمع غير خطواته نحو علّة المعرفة
ولا يرى سوى معدن العلل.
****
جسده يستنطق العمل
ويشتغل في حمأة الغيم
منهمكاً في تأويل المرض
جسده يوغل في غابة القواميس
والفصول ذات الشراك
ينصقلُ ويرقُّ ويشفُّ ويشي ويفيضُ بالدلالات
جسده مشحوذٌ بالليل
يجتاز مختبرات الولع
يشكُّ في أبجدية الضوء
ويعرف لغة تقصر عنه.
****
أصعدُ إليه
لا درجٌ يطاله ولا يدٌ عليه،
ترقى به أقداحٌ معبوبةٌ بضوءٍ شاحب
ويطيش له العقل.
أصعدُ
ساقاي متهالكتان
وأطرافي تبردُ
ويكبحُ الضوءُ عينيّ.
شاهقٌ
يعرفُ الأعالي
فأصعدُ مثل جناح يحلُمُ بالريح.
يشفق،
فيعلّم أصابعي الكتابة
ويدرّب جسدي على الصَبْر،
فأصعد.
****
ستبكي هذه الـيـدُ وحدها
وهي ممدودةُ
يزخر بها فضاءٌ مشحونٌ بالانتظار..
كيف تقوى نوافذه الغامضة
على وداعِ ليلٍٍ ضائعٍ مثل هذا؟
كانت اليد وحدَها بلا مناديل
ولا دمعٌ ولا عناق.
يدٌ ممدودةٌ في سديم الميناء
مثل غيمٍ كسرته زخّـة من قذائف المساء
وقطعتْ حبالَ السفن النائمة.
اليدُ وحدَها
ذات اليد الوحيدة
وحدها،
بكتْ وحدَها.
****
الفارغُ من الدلالات
كلما بالغَ في طرح صوته
ضاجاً
مجلجلاً
يجهر بجرأة خطابه الفجّ،
كلما شَـغـرَ به المكان
وفرغت التجربة من أخباره
وخرجَ عن فكرة العمل.
كلما تكاثر بالكلام
شحّّتْ دلالاته
وشَحُبَ المعنى.
****
أين سنتركُ أثرنا الخفيف
فوق أرضٍ منكوبةٍ كهذه؟
وكيف سيقرأ الآخرون وقع ندمنا الكثيف
في ساحة الهزيمة المزعومة بالأوسمة،
المثقلة بالضغائن؟
وماذا سنقول لدورة الدَمِ المذعور
وهي تصقلُ ترنّحنا المُكابر
لئلا يشوبُ الغموضُ
أنخاباً تباهي الشمس
وتخدعُ الأمل؟
****
يهندسُ لنا إيقاعَ القصيدة
هذا الماضي المرضوضُ بالعجلات الفولاذية..
كنا نؤلّف به أيامنا البطيئة
لئيمة الإدعاءات
ونؤثّث غرفَ جحيمنا بتركته الفجّة،
وكنا نغرّر بأكثرَ مريدينا حماساً له.
الماضي الذي ينتصر علينا
لا يزال يغلبُ النحوَ والصرف
ويستفرد باللغة في غفلة من قلوبنا
يَحضرُ يَحتضرُ
ويصيرُ مستقبلاً.
****
بخطوات راقص الباليه المترفـّع
المستخفّ بالهواء
الموشك على شرفة الكون
خطواته الرشيقة الواثقة عن الأرض
وضع حياته في مهبّ الكتابة مراهناً على السفر
خطوات تكتب له طريقاً
فيسلك سواه
الخطوات ذات الخفّة
بالقدمين المأخوذتين برحمة الريح
قدمان مجنّحتان
ما أن يضعهما في الاقامة
حتى يطيرَ بهما في سفر
يمشي في التجربة على حافّة الوقت والمكان
مثل طيفٍ رهيفٍ
كمن لا يريد إيقاظ أحد
هو الذي يسعى لإيقاظ الخرائط
هو الذي جابَ الماءَ و اليابسة
طوّافُ المعرفة الكونية
مَـنَـحَ شبحه الشفيف لرسامي الجزر
وملوّنِـي الأوقيانوس بلازورد القلب
ومُخلَـصي الأصدافَ من مرضِها الكريم
ومروّجي الكحولَ بطيئة العمل
ومنحنا نعمة الصداقة
في ترف الفالس فائضاً عن الكمان
طائشاً، مندلعاً في دفتر الطبيعة
بتلك الخطوات الطازجة
مثل حبّات المانغو الخضراء في غابة المطر
في سهوب آسيا المذهولة
مثل سمك ينسى عادة الماء
في سواحل أفريقيا المنتظرة
ويمنح الناس أرجوحة المبتدأ و الخبر
بالخطوات السريعة ذاتها
يتقدم مكترثاً،
مشفقاً على الأرض المتألمة
الفتى البلغاري
شديدُ الإنتبهاه، الخارج مبكراً على النص
جاء متأخراً عن العسف
خطواتُـه الصغيرة خارج المكان الأول
منحته بيتَ العالم
هو الذي رأى مناجم الكشف في مجهول السفر
الرجل المندفع في تجاعيد الطبيعة
مدخراً الطفلَ الذي لم يكبر معه
يمسّ الأرضَ بقدمين مذعورتين
مأخوذتين بالسفر
لا تستقران في غرفة ولا يكفيهما الوقتُ
يَـقِـيـسُ بهما خيطَ الأفق
مطمئناً لقلقهما
قدمان سادرتان في سديم البحث
تقودهما عينان ساهرتان في شرفة المجرّة
تَـريان أو ترويان،
القدمان المسكونتان بالإقامة والسفر،
تكتبان الجُسُورَ وتقرآن جامعَ العوالم.
****
بشغف الملتهب
كنت سأهِبُ روحي
في نصف القصيدة دفعةَ واحدة
لكي أقوى على رعشةِ
النصف الثاني من القصيدة
حيث الكتابة
قصف الولع بوردة الخلود
ومحو الحالم
لذكريات المستقبل.
****
قليلٌ على القلب
هذا الذي كنتُ سمّـيته
والذي كنتُ أجّلتُ روحي له
والذي كلما طاشَ عقلي به في الصباح
تضرّعتُ للشمس كي تنتهي عنده
أقلّ قليلاً من القلب لكنه
شدّني بالتآويل
واقتاد روحيَ
وانتابني.
كل هذا القليل الصغير من القلب
الذي كنتَ بجّـلته
نالني، وانتهى
فابتدأتُ
كحبٍ صغير على القلب
هذا الذي خُنتني كي تموتَ له
والذي، أعرفُ الآن،
تقتلني كي تكونَ له
كل هذا الأقلّ من القلب
كيف، تجاوزتَ حبي،
وصدقتَـه
ثم كيف انتميتَ، انتهيتَ
وصليتَ، كفراً، له؟
****
|