(1)
لحظة انبثاق القصيدة لا يتكرر بالشكل نفسه في كل مرة، فأنت لا تعرف
كيف يأتيك الحب. القصيدة مثل الحب.
غير أن الشعر لا يتحدد في لحظة الكتابة. الشعر هو طريقة حياة يعيشها
الشاعر بشكل دائم. والكتابة هي واحدة من الذروات الساحرة التي يأتي
إليها الشاعر ليكتب النص، كما لو أنه يصغي لصوت غامض يملي الكلمات
عليه، فيما يكون الشاعر يسجل تلك الكلمات بشغف كمن يصغي لوصية شخص
يحتضر، (ثمة من يزعم أن المحتضر سيكون الشاعر نفسه في كل مرة).
(2)
قلتُ مرة أن المعاناة لا تكون لحظة كتابة القصيدة. المعاناة تكون
قبل ذلك، إنها في الحياة. أما الكتابة فهي أجمل اللحظات على الإطلاق.
فالشاعر لا يكون سعيداً ومتألقاً ونشيطاً مثلما هو في لحظة الكتابة،
العذاب يكون قبل النص وبعده. أما لحظة الكتابة فالأمر يكون عكس ذلك
تماماً، فلحظة الكتابة هي برهة النشوة القصيرة والنادرة و الخاطفة،
مما يؤكد كم هو الشعر شبيه بالحب في كل شيء. (قلت أيضاً أنني سأعجز
عن الشعر عندما أعجز عن الحب).
بالنسبة لي، الشعر، كحالة، يظل مهيمناً على كياني طوال الوقت، لأرى
أشياء الحياة من حولي غيماً شفيفاً يمتزج بالروح، مؤججاً الحالة الشعرية
التي بها أعيش. يمكنني القول أنه لولا هذه الحالة الغامضة لما تسنى
لي احتمال هذا الواقع. وعندما أتعامل مع أشياء الحياة بهذه الشعرية،
فهذا يعني أن الشعر لا يقتصر على الكتابة فقط، فكل ما يقع تحت نظري
ويلامس كياني هو ضرب من الشعر. لذلك فإن النص لا يبدأ هنا وينتهي هناك،
النص الشعري موج مستمر متلاحق ومتلاطم من اللذة بما لا يوصف. من هنا
أزعم دائماً بأن الشعر هي طريقة حياة، وهو ما يمكن اعتباره الحياة
التي يعيشها الشاعر فيما هو يفعل الأشياء الأخرى، (مما يجعله يفعل
تلك الأشياء بشكل جميل دائماً).
(3)
تنثال القصيدة في الداخل مثل شظايا البلور متناهية في الصغر، وتتراكم
شيئاً فشيئاً، لتصبح بركاناً جميلاً يمنح الروح طاقة غامضة من الامتلاك
العميق للعالم، حيث شعور الشاعر بأنه يضع الجوهر في جيبه. ويتصاعد
هذا الشعور ليبدو في لحظة من اللحظات حالة من العشق تستعصي على الوصف.
عشق ساحر لا يكفّ عن الاندلاع والتصاعد مثل بركان، بركان لا ألذ ولا
أطيب ولا أجمل. تظل هذه الحالة تشحذ الاستعداد الكامن للكتابة بلا
هوادة، وتصقل الروح لتصادف تلك اللحظة الفاتنة التي تنبثق فيها الكلمة
الأولى، أو الصورة الأولى، أو الإيقاع الأول.
فيبدو الأمر كما لو أن الشاعر يكون عرضة لأية ملامسة يشغف بها القلب،
فيقع الشخص في الحب، فلا تنقذه إلا القصيدة. وعندها يبدأ في كتابة
ما هيأته الأساطير في الداخل. ولا أحد يقدر على تحديد السبب المباشر
الذي سوف يفجّر ذلك البركان الحميم، حيث يبدأ حفل الألعاب النارية
في ليل الحياة.
(4)
ما أتذكره دوماً في مثل هذه الحالات، هو أن ثمة صمت غريب وغامض سوف
يسبق لحظة الكتابة في روحي. صمت كثيف حيث لا أقوى على الكلام مع الآخرين
من حولي. بل إنني أحياناً أكاد، لفرط توغلي في الصمت، لا أحسن التخاطب
مع الآخرين، فأبدو مرتبكاً نتعثر الكلام، مضطرباً، تهرب مني لغة التفاهم
مع العالم. فأبدو مثل طفل يتلعثم أمام التفاصيل اليومية كأنه يصادفها
للمرة الأولى، الأمر الذي يجعلني متورطاً في حالة من الحرج بسبب عدم
قدرتي أو استعدادي أو رغبتي في الكلام مع الناس، مثل كائن وحشي لا
يحسن شيئاً يتصل بالبشر العاديين، وساعتها لن يفهمني سوى اقرب الناس
لي، حيث يفهمون حاجتي الماسة للعزلة بعيداً عن الجميع. سأحتاج فقط
لأن أسلم نفسي للكتابة لكي تستفرد بي كما يحلو لها. (سميت ذلك ذات
نص : العزلة الذهبية).
وكثيراً ما تكون العزلة الشديدة هي منقذي من هذه الحالة، وهي عزلة
عن الخارج للذهاب بحرية أكثر إلى الداخل.
ففي تلك الحالة يكون الإحساس الغامر هو أن ثمة انفجار وشيك يتوجب
عدم تفاديه قدر الإمكان.، فهو الانفجار الرحيم. مثل الحب، تأتي القصيدة
لتنقل الروح من عذاباتها إلى الفردوس، حيث الفسحة النادرة من اللذة
والجمال، حيث الأفق اللانهائي الذي يتبدى مثل حلم : متاح ومستحيل.*
|