(1)
"أرجح أن الهواء الثقيل الذي يحمل الطائرات
سيقذف قلبي على شرفة شاهقة
أرجح أن الخطى الواثقة
ستخذلني ذات ليل طويل
وتمدحني الساحرات
لفرط احتمائي من النار بالصاعقة".
(2)
يغادر مكانه، نحو مجهول زعم أنه يقدر على هدنة السفر معه لبعض الوقت.
يأخذه ليل طويل دائم ومستمر. ليل يشي بأنه لا يتلاشى ولن يكف. (ليل
يلتبس عليه، هل هو صديق أم كتاب). لكنه يستسلم لئلا يبدو أقل حرية
من النجوم والغيم والهواء، أو يقصر عن جسارة جناح الحديد وهو يتصاعد
متوغلاً في الليل الشاهق الطويل.
(3)
عندما عشرون ساعة من الليل الكثيف، تختبرك بتحولات الفيزياء في جسدك
والكيمياء في روحك، ينبغي عليك أن تذعن لإخفاقك الفاتن، وتؤمن به وتهتم.
(4)
يضع قدمه على أرض ليس له وليست عليه. أرض لا تكترث به، إنها بالكاد
تزن الشخص بخفة غيابه. قال لنفسه : "هذه لا مبالاة تليق بمن عقد
العزم على ضياع مؤقت ".
فلم يسمعه أحد، فطاب له أن لا يهتم بأحد هوا أيضاً.
أن تكون في هامس الناس، فتلك نعمة تسبغ عليك حرية صغيرة يحلو لك أن
تستغرق في آفاقها الشاسعة التي لا يدرك رحابتها سواك، لكمن أن يكون
العالم جميعه في هامشك، فهذا كرم مفعم بالرحمة، وليس لك أن تفوت متعة
التمرغ في فروه الرؤوف، الذي لا يناله غير شخص مكتظ بشهوة الكتابة،
غزير الأحلام، ولمخيلته طبيعة جمر في المهب.
تستقبله الطبيعة وحدها، (ربما لأنه لم يعد يحلم بغيرها)، في قميص أبيض،
يشف حيناً ويغمض غالباً، لكنه لباس لا يمنح غير رغبة المزيج ومشاكلة
الشخص بشمس نادرة. وحين يبدأ الكلام مع الكائن الشفيف، يصح لم ينظر
إليهما أن يهتف : "شخصان يتصادمان وتستعيد فيهما اللغات هيئتها
الأولى ".
(5)
هذه هي الغابة إذن.
المكان القصي الذي تأخذك إليه المصادفات، ويسعى إليك بأقدام رهيفة
من الرؤى.
تلمس صنوبرة تحرس ركن كوخك، فتتأود لفرط الوجد. صنوبرة تتذرع بأخضرها
القديم، صامدة في زمهرير الثلج، فيما تخبئ الأشجار ثيابها في خزائن
الصيف.
تحاول أن تفتح أحداقاً مفتوحة لتملأ ذاكرة البصر بهواء يتثاءب، مازجاً
الحلم بالنسيان، فينتابك الولع بصمت تكاد أن تسمعه.
بين كوخك والكوخ يليه مسافة يتكفل بها الشجر وتكفي لراحة بين تعبين.
تضع جسدك في بكورية المكان، فتنشر لك الروح مظلة تحميك من الوقت وعبوره،
وليس لك أن تثق بأسطر ناياتك لقياس الليل والنهار.
هذه هي الغابة إذن.
ضياعك الجميل الذي يحسن قراءتك، وأقاصيك التي يتملكك الشغف لكتابتها.
(6)
وما أن يكسر الضوء، ظاناً أنه ذاهب إلى النوم، حتى تتوهج عزلة الذهب
من حوله. تبدأ أشياء الغابة بزيارته، متخللة النوافذ المنسوجة من قصب
النايات، ومنسربة من تحت أعقاب الناي المصاغ من عاج الأراغن، ويبدأ
فضاء الكوخ في التألق.
ثمة زائر فاتن غاب عنه طويلاً، يستفرد به الآن، وينهر في الكوامن،
مشعلاً حوله القناديل، مهدداً بألعاب نارية تفضح خجل الكلمات المتوارية
وتمنح الحروف حرياتها، ويتركه في التماهي مع الضوء. فيبدأ في تبادل
الشظايا، فيما يلثم ثلج ناعم كالسكر صحوة الكون في الخارج، مثل امرأة
تغمر جسد حبيبها بالقبل. ثلج يلمع كلما لمحته العيون بدهشة القلب،
كان الله يمنح الشخص من رحمته ماءً يغسل أقدام القصائد وهي تتقدم.
ثمة زائر حميم عازم على تلقينه درس الكتابة كاملاً.
(7)
هذا شخصٌ يسعى إلى حتفه.
فقد تعاورته الجيوش بالهجومات :وطلق يلهج مستسلماً للهزائم، لئلا يبدو
أقل بسالة من الغابة. موغلاً في البذل مثل كرم الطبيعة.
(وفي الصباح، يجدون في سريره
جسداً مريضاً وقصائد نشيطة)
تماماً مثلما كان يحدث.. هناك.
(8)
المسافات تشحذ الحب أيضاً. @
|