هندسة العسف الماثل

(1)

كلما طفح عسفُ التقليد على الصعيد الثقافي، تحسستُ موضع التفكير في الروح.
أقول (طفح)، لكي أعني بأن العسف اليومي، الذي أوشك الجميع على إدمانه، بات قادراً على إيهامنا بأنه الحالة العادية في حياتنا. إلى الدرجة التي يمكن لبعضنا أن يستنجد به لكي يصدّ (معنا) عسفاً يبالغ قليلاً، بين وقت وآخر، فيبدو كأننا ضحية مزدوجة تقبل (قانعة) بعسف أقل.

(2)

ثمة شعور يخالجني، بأن المبالغات التي يمارسها عسف التقليد على الصعيد الثقافي، غالباً ما تكون ذريعة وحجاباً لعسف أكثر خطورة في مكان آخر من حياتنا.
تكون ذريعة / توظفها أجهزة التخلف اليومي لكي تكرس سطوتها ضد الجانبين :
أولاً ، ضد الأرواح الحالمة بالمستقبل، لكونها تفضح الواقع الإنساني الذي يرزح تحت التخلف الاجتماعي، بآلية التقدم البشري المشروع. وفي استغلال عسف التقليد كإرهاب المستقبل بالماضي. وبهذا تتقمص هذه الأجهزة دوراً حضارياً زائفاً يرى في العمل الثقافي خطراً ماثلاً يتوجب كبحه، بحجة خروجه على تقاليد المجتمع و أعرافه و أخلاقه (نفاقاً بشعاً لأصحاب الماضي). وسوف تحتمي هذه الأجهزة بقوانين أقل ما توصف به أنها تحقير للفكر والإبداع، مبررها رد الفعل المفتعل لعقليات بائدة.
ثانياً، ضد عسف التقليد المبالغ فيه ( أحياناً )، لأن أجهزة العسف اليومي قادرة دوماً على تربية تطرف التقليد وتنميته، ثم إفراغه أو استبداله بتقليد آخر، تريده أقل تطرفاً. بحجة أن ذلك تطرف يصدر عن الماضي للتحكم في الحاضر. هذا الحاضر الذي يهمها أكثر من المستقبل، فهي لا ترى في المشهد غير حصتها في الحكم . وسوف لن ترى في احتدام المجابهات، بين الحالمين بالمستقبل والمتشبثين بالماضي، سوى الفجوة الدائمة التي يجب التحكم في درجة تفجرها، لكن دون التسليم بضرورة معالجتها بالمزيد من الحرية. فأجهزة العسف اليومي لا ترغب في التنازل عن سلطتها القائمة على هذه الإحتدامات، التي يذهب ضحيتها الآخرون. والآخرون، في مشهدنا، هم ناس الهامش. وتلك ذريعة يحسن القائمون على العسف اليومي (الرسمي) هندستها واستغلالها بما يتناسب مع تأكيد حصتهم في الحكم.

(3)

وتكون تلك المبالغات، أيضاً، حجاباً لعسف أخطر في مكان آخر، فينتابني القلق غالباً، بأن تلك المبالغات تطفح على السطح، وتساهم أجهزة الإعلام في تضخيمها لتشغل أطراف المشهد أمام أنظارنا، ليتم التستر، أثناء ذلك، على عسف أكثر خطورة، ربما يتحقق في تلك اللحظة، فيما ننشغل عنه بتفاصيل العسف (الطارئ)، فلا نتنبّه إلى ما يمكن أن يحدث هناك، في المكان الآخر. وهو مكان محجوب عن أبصارنا وإدراكنا اليومي، بفعل الإعلام الرسمي (وهو ضرب مركب من العسف). ونستغرق في العمل على تفادي العسف الطارئ، مستنجدين بكل طاقاتنا وأسلحتنا، التي هي في الأساس كانت طوال الوقت معطّلة ومهمّشة ومسكوت عن حقها في النظر والفعل. وعندما يذهب بعضنا في الوهم إلى حد تصديق بأن أجهزة العسف الرسمي يمكن أن تكون معيناً لنا ضد عسف التقليد المبالغ فيه (أحياناً).
فيتضاعف بهذا الحجاب، الذي هندسته أجهزة العسف الرسمي حولنا، بعد أن هددتنا بمجابهات لم نملك فرصاً متكافئة من حريات النظر والعمل لكي نكون قادرين على تفادي عسفاً، هو بالأصل وليد الظواهر التي رباها في حياتنا العسف الرسمي نفسه. فكيف يحدث أن نصدّق بأن من مارس علينا العسف كله طوال الوقت، يمكن أن يكون جديراً وصادقاً في إسعافنا ورفع الظلم عنا. ففي أثناء ذلك سيتاح لأجهزة العسف الرسمي أن تنجز خطرا هناك، بعيداً عن إدراكنا، لأننا أضحينا على مبعدة عن حقيقة ما يجري، بوهم أن عسف التقليد الطافح هو ميدان مجابهاتنا الأول. كما لو أن حقل الثقافة يمكن أن ينفصل عن الحقول الأخرى في حياتنا.

(4)

لذلك، سوف أتوجس دوماً من المجابهات التي تثور بين وقت وآخر في الحياة العربية الراهنة، تحت باب ردة التقليد على الحداثة، في الفن والفكر. فأضع يدي على موضع التفكير في الروح، خشية أن أكون ضحية هندسة الرعب الجهنمية التي لن يكفّ عنها أصحاب العسف اليومي الرسمي، دون اكتراث بمصائر الناس. وكلما بالغ البعض إعلامياً في الأمر لفرز المجابهات بوصفها بين أصحاب المستقبل وأصحاب الماضي، شعرتُ بأهمية من يطرح الشك على دور أصحاب الحاضر في هذه المعارك. وأصحاب الحاضر هم دائماً مؤسسو العسف اليومي وأصحاب المصلحة في استمراره، بالدرجة التي تكرّس وجودهم وتنفي حق الآخرين في مسائلتهم عن حدود الحق العام.

(5)

ليس في هذه الخشية تقليل من خطورة عسف أصحاب التقليد على حقنا في القول والخيال، ولكنني على درجة من الشك في طبيعة المؤسسات المهيمنة بآلية العسف اليومي، بوصفها مسؤولة تاريخياً، في العمق، عن هذه النتائج الخطيرة التي تتفاقم في ترف الجهل والمصادرات. فكأن ما يحدث هو (في صورة من الصور) ضرب من تبادل التصفيات السياسية بين شتى الأطراف التي تلعب، فيقومون، فيما يلعبون بنا، بإنجاز التصفية التي نذهب نحن ضحية لها، أي أنهم يحققون تصفيتنا تحت مظلة من الدفاع عن الحاضر فيضحون بالمستقبل.
وليس في الأمر أية استهانة بخطورة المستقبل الذي يحاربونه بالماضي، وليس في الأمر استخفاف بما يحدث على الصعيد الثقافي من اقتحام خطير لحريات التعبير. لكن من المؤكد أن ثمة من يهندس لنا المشهد على هواه، فاسحاً المجال لنا للاعتقاد بأن مصادرة كتاب أو ملاحقة كاتب، يمكن أن يشغلنا عن حقنا في محاسبة المسؤول عن القانون الذي يتيح للماضي محاكمة المستقبل. وهو قانون يتجاوز القوانين الوضعية والاعتبارات القضائية. إنه قانون الغاب الذي سيظل قادراً على تكبيل أفراد المجتمع بحدود غير مرئية، يتمسك بها أصحاب الحاضر، لمحاربة الجميع. وأكثر من ذلك تأجيج المزيد من الإحتدامات والمجابهات بين ناس الهامش، متذرعة بالقوانين ذاتها التي وضعت أصلاً لحماية وتكريس الأجهزة والمؤسسات، التي لا ترى في الثقافة غير الخطر الذي يتوجب تفاديه، إذا لم يمكن نفيه أو قتله. ترى هل يمكننا أن نرى إلي المشهد من هذه الزاوية، لئلا نبالغ في التوهم بأن خصوم المستقبل هم فقط أصحاب الماضي؟@

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى