عندما أراد (هرمان هسه) إيجاز مشوار حياته ، قال (عند سماع كلمة (يجب
عليك) ينفر كل عضو في جسدي وأصبح عنيداً). وسوف نرى بعد ذلك كيف تجلى
هذا الموقف في مجمل حياة هسه. فطبيعة المبدع سوف تكون دوماً نقيضة
لكل أشكال الامتثال، في الحياة كما في الفن.
ففي الامتثال سوف يفقد المبدع طبيعته النقدية. وهو لن يتمكن من تحقيق
ذاته المتميزة إذا لم يكن نقيضاً للخضوع. ولعل العذابات المتواصلة
التي واجهها هسه في علاقته مع أشياء الحياة (العائلة / الدراسة / المجتمع
/ الثقافي/ السياسي/ الفني) هي نموذج يمكن مصادفته في حياة العديد
من المبدعين.
ويبدو لي أنه كلما تقدم المبدع في طريق الحياة والفن، سوف يشعر خطورة
الخضوع الذي تهدهده به السلطات بشتى تجلياتها. ويجد نفسه مضطراً، يوماً
بعد يوم، لأن يحافظ على انسجامه مع ذاته، متفادياً ذلك الامتثال المتماهي
في أشكال لا تحصى. وكلما توغل في التجربة، أصبح انسجامه مع نفسه يتطلب
المزيد من المجابهات .
وهذا ما سيدفع (هرمان هسه) إلى القول بأن (علاقتي بالسلطة، أية سلطة،
مشوهة ومملوءة بالمرارة). وبدرجات متفاوتة لابد أن يصادف المبدع هذه
المرارة، ولا يكون أمامه غير أن يختار، بوضوح تام مع نفسه، بين أن
يكون منسجماً مع ذاته مخلصاً لتجربته، أو أن يكون منسجماً مع الواقع
ممتثلاً له. هذا الواقع الذي هو (آخر ما يهتم به المرء) حسب تعبير
هسه .
ربما لأن الذات الإبداعية هي، بالقياس لتجربة الإنسان، أكثر أهمية
بما لا يقاس، من الواقع، خصوصاً إذا أدركنا بأن الواقع هو شيء يختلف
كثيراً عن الحقيقة، الحقيقة التي يصدر عنها المبدع في جوهر فعاليته
الحيوية. فليس في الواقع، إذا نحن تأملناه بعدسة الفن، ما يسعف الروح
الخلاقة.( هذا الواقع البالي المجدب والمخيّب للآمال، لا يمكن تغييره،
إلا بإنكارنا له، والإثبات عملياً أننا أقوى منه).
ولكي يثق المبدع بأنه، بالفعل، أقوى من الواقع، ينبغي عليه أن يأخذ
الدرس الإنساني مأخذ الجد، واعياً بأن الشاعر هو الذي يلقّن الواقع
درس الحياة وليس العكس. (فمنبع الشعر -حسب تعبير الفرنسي كنتليان -
هو دائماً روح الشاعر، وليس الأشياء و لا الكلمات ولا الأبيات التي
تواردت في أرواح الآخرين). وعندما يتميز الشاعر بابتكار أسلوبه في
مجابهة أساليب الواقع، يتيسر له الخروج بالفن على جاهزية المواصفات
التي ينوي الواقع فرضها على الشاعر ودفعه إلى الامتثال لها كقانون.
وهذا ما سيدفع رولان بارت ليقول ذات مرة (أن الأسلوب يتخذ له موضعاً
خارج الفن، أي خارج الميثاق الذي يربط الكاتب بالمجتمع). فالمبدع،
فيما يخرج بالفن على المجتمع، إنما هو يعبر عن رفضه الخضوع لمتعاليات
الواقع ومسلماته، التي لا ترى في الشاعر غير مشروع موظف يقوم بوظيفته
رهن سلطات الواقع. (فالإرادة الإبداعية - يقول جمال الدين بن شيخ -
لا تتحقق على مستوى البحث الفني، بل على مستوى الحاجة الحيوية). وليس
على الشاعر إلا أن يحسن صقل أدواته وتشغيل وسائله بالموهبة والمعرفة
والجمال، في نقض إبداعي للواقع .
وظني أنه كلما تقدم المبدع طاعناً في السن والتجربة، صارت ثقته أكبر
بقدرته على الخروج على الواقع وسلطاته، باذلاً التضحيات في سبيل الاحتفاظ
بجوهره الأصيل، حيث الموقف النقدي هو طبيعته الوحيدة التي ما إن يفقدها
حتى يفقد طاقته الإبداعية. وليس في التضحيات التي يتطلبها ذلك الموقف
شيء من البطولة، على العكس، إنها الشرط الذي يمنح الإنسان جذوة لا
تخبو من العطاء الجميل. فالجمال الإبداعي سوف يكمن دائماً في مقدرة
الشخص على تفادي الوقوع في ممارسة ما يكره. وفي هذا ضرب من جمال يمنح
الفن صدقه مع الذات وثقة الآخرين في رؤيته وكتابته .
يقول هسه (غالباً ما يفتقد الناس في كتابتي الاحترام العادي للواقع).
إذن، ثمة احترام غير عادي للواقع، هو الاحترام المتصل بالجوهر الحقيقي
للواقع، وهو جوهر كثيراً ما يكون محجوباً عن الإنسان العادي، ومسؤلية
المبدع أن يكشفه كإبداع من جهة وفضيحة من جهة أخرى. ترى كيف يتسنى
للمبدع أن يكون، واضحاً أمام ذاته، فيما يكون نقيضاً متواصلاً للواقع
الخارجي للذات ؟
بهذا الشكل يمكننا أن نلمس الطاقة الإبداعية في تجربة الإنسان عندما
يكون مبدعاً.
(إنهم يفضلون أن يبقى المرء كما هو. ولا يريدون لوجه المرء أن يتغير،
ولكن وجهي لن يمتثل بهم، فأنا أصر على استمرار التغير، تلك حاجة ضرورية).ولن
يتوقف (هسه) عن التغير إزاء أشياء الواقع طوال حياته وفنه.
في السياق الحميم للتجربة، سوف أجد نفسي في مجابهة هذه الحقيقة كل
يوم. فليس في الواقع ما يدعو للثقة بأن الآخرين يدركون الطبيعة المختلفة
للمبدع، وعليَّ أن أتشبث بقدرتي على الاحتفاظ بالمسافة الجهنمية بيني
وبين أشياء الواقع، خصوصاً تلك الأشياء المتجلية في سلطات مركبة، وتتفاقم
وتتعقد في مثل ظروفنا المتداعية والمتهالكة، معتقدة بأن الفن والثقافة
هما الهدف الأول للإكتساح والعسف، من خلال توظيفها، بامتهان فادح،
في مشاريع الواقع المشبوهة .
إن الهواء القليل النادر الذي تعمل هذه السلطات على مصادرته، سوف يترك
أجسادنا تزرقّ لفرط الاختناق. منذ سنوات، كتب لي شاعر صديق ذات رسالة،
في معرض تعبيره عن معاناته (لم يعد العالم يسعني، أكاد أن أختنق ،
أين الهواء؟!). فشعرت يومها أننا نوشك أن نفقد الحيز الضيق الذي يتيحه
لنا هامش الكتابة. واستنفرت أعضائي كاملة للمزيد من المجابهات، فقد
وضع ذلك الصديق أصابعه الجهنمية على الجراح ذاتها، التي كنت أسكت عليها
طوال الوقت، معتقداً بأنهم سوف يتركوننا في الهامش وكفى. كنت قانعاً
بذلك الهامش، وأباهي به على الآخرين. ولكن سرعان ما رأيتهم يستديرون
إلينا، وهم يشحذون آلاتهم القديمة بلغة مستحدثة، وكأنهم استكثروا علينا
ذلك الهامش.
وفيما صوت القلب يقدر دوماً على أخذنا إلى الأفق، وحيدين، مستوحدين،
وفي وحشة حنونة، سيظل علينا الثقة بأن العزاء هو في الغامض من أرواحنا،
بعيداً عن شهوة الامتثال التي تقود سلطات الواقع، وتغري البعض بوضع
الأدوات على قارعة الطريق لمواصلة الحياة. (كل ذلك ببساطة لأنه لا
يرى إمكانية توافق بين العالم كما هو أو كما يبدو، وبين صوت قلبه).
ليس لأحد أو جهة أن تقول للمبدع (يجب عليك)، وإلا فإنها ستفقد قدرتها
على إدراك هذه الطبيعة النارية التي لا تخبو في جذوة القلب. فالإنسان
لا يستطيع أن يكون ممتثلاً و مبدعاً في نفس الوقت. *
|