(1)
تذرع الرواق الناعس بين القمر وكوكب الأرض. كائنة تزور كوكبنا الحزين
بأخبارها والكتاب في دفئه الحميم. استوقفتها ذات ليل، لكي أتأكد من
وجودها معنا في هذه المجرة، فنهرتني الملائكة (ماذا دهاك، تكاد تخلع
ذراعي). أوشكت على الاعتذار عن خشونة غير مقصودة. لكنها كانت قد انعطفت
باستدارة حادة لتعبر الممر وتختفي متلاشية مثل طيف يعبر غيمة عابرة،
ثمة كوكب غير مرئي كان في انتظارها. بحثت عن أقرب مقعد، ورميت بجسدي
أتأمل ما يحدث لي مع هذا الكائن بزرقته الفاتنة. هل هي بشر مثلنا.
لا يكاد الجواب متاحاً . جميع الدلائل تضلل رغبتي في اكتشاف كنه ما
تنطوي عليه هذه المخلوقة. كتاب واحد يلتصق بجسدها، حتى ليصبح من المتعذر
التمييز بين سائر أعضاء جسدها وهذا الجرم الصغير الملتصق بدفء الإبط.
أخلاط جّمةٌ تلتقي في جسد لا هو من أثير وليس للحواس سلطة عليه. لكنني
كنت أريد أن أعرف. من يقدر أن يعرف. ليس فضولاً، لكن من المؤكد بأن
ثمة رغبة خفية تجتاحني لمعرفة ذلك الكتاب. هل هو كتابها أم كتابي.
كتاب الإبط. بياض صارَ لي طريقاً للفراديس، أقرأ فيه اللغة فتصير نصاً
أكثر فتنة.
(2)
فتحتْ باب الحلم واقتحمت عتمتي صافقة الباب خلفها. "هذا ليس كتاباً.
يتوجب عليك أن تحسن ملامسة الشخص لكي تعرف كيف تقرأ كتابه". انتبهت.
هذا ليس حلماً. الأحلام لا تكون صائتة بهذا الشكل. (لماذا لا تقولين
شيئاً مفهوماً في اليقظة؟). سمعت ما يشبه الصوت (في اليقظة لا يكون
الكلام قادراً على خلق الجسور بين الأرواح. أنت روح ضائعة، تريد أن
تعرف عليك أن تشرع حواسك كلها وأنت في النوم. الأحلام وحدها تسعفك).
أمسكت معصمها رغبة في التيقن بأن هذا ليس حلماً. هرب معصمها من يدي
مثل ثلجة تذوب في جحيم . أخذتْ موقعاً على صخرة قريبة، وراحت تفتح
في العشب الطري طريقاً بأصابع قدميها العاريتين. انتبهت. (أين كتابك).
افتر ثغرها عن شبه ابتسامة. كمن عثرت على حصاة توقعتها بين العشب.
(في الحلم لا حاجة لي بالكتاب، اليقظة وحدها تستدعي التحصّن. هنا أنا
قوية لمجابهتك). تحاربني في اليقظة بكتاب غامض وفي الحلم تجلس واضحة
لتبادل التماهي مع الحواس. (في المنعطف الأخير من المبني كنت أرقبك
وأنت تجتازين الصفوف ذاهبة نحو غرفتك. ماذا كنت تقولين للحارس الخميس
الماضي). انحنت تلامس الحصاة الصغيرة، ثم ترفعها وتطبق عليها بكفيها
برفق. شعرت ببرودة الحصاة بين راحتيها، فانتابتني رعشة خفيّة. (لم
يكن حارساً، كنت أخاطب شخصاً يتنكر في هيئة شخص آخر أتذكره بين حين
وآخر. يروق لي أحياناً أن أرى أشخاصاً غير مرئيين لسواك). سأعرف تواً
بأنني لست في الحلم. اعترضتْ ظني (أبداً، هذا حلم، أنك فقط لا تدرك
ما أنت فيه. قلت لك أنت ضائع. وعليك أن تؤمن بذلك لكي تساعد نفسك على
الخروج من يقظة لا رجاة فيها).
صادفني صديق ذات ضياع، وضبطني متلبساً بأحلامي. كان ينظر في عيني كمن
يخترقني بأحداقه. (هل أنت موجود معنا على هذا الكوكب) أوشكت أن أقول
له عن الكوكب الغريب الذي يزور مجرتنا، لكنني خشيت أن لا يفهم. لكنه
باغتني مثل نيزك (قل لي، من التي تضع النجوم في عينيك ؟) فتيقنت أنه
كان يرى زرقة السماء في واضحة الليل.
(3)
أحسست بمرور شخص بجانبي . الهواء الخفيف الذي تحرك بجانبي أشعرني
بذلك. كنت أرغب في الالتفات لكي أتبين ذلك الشخص، لكنني لم أكن بحاجة
لذلك. لقد كانت هي بكتابها الغامض. وضع صاحبي يده على كتفي (عليك أن
تراجع طبيباً، حرارتك لم تنخفض منذ أسبوع). انتبهت. لا أتذكر أنني
شكوت لأحد من الحمى التي ترهق جسدي في الأيام الأخيرة.
توضع الكتب عادة في المكتبة، وتوضع أيضاً بجانب السرير لإغراء النوم.
وغالباً يغير المرء كتبه بعد الانتهاء من قراءتها. لكن هذا كتاب يلتصق
بجسدها منذ رأيتها. وعندما سألت أحدهم عما إذا كان يعرف شيئاً عن ماهية
ذلك الكتاب الذي لا يفارقها، حدّق في وجهي برهة، ثم أطلق ضحكة غريبة
(أي كتاب، إنها قطة لطيفة محظوظة بذلك الدفء). عرق جسدي بغتة. لا يمكن
أن أكون متوهماً إلى هذا الحد. لحقت بها كمن يتبع شبحاً. وقبل أن تصل
باب الغرفة وضعت جسدي في طريقها (يجب أن تصغي لي قليلاً. لماذا أرى
كتاباً تحت إبطك لا يراه أحد سواي". صَرّت بذراعها على الكتاب
لتحميه من نظراتي، فنزّ عطرٌ غامض غمر حواسي المتحفزة. (يا مجنون،
هذا ليس كتاباً. إنه دفتر يوميات في هيئة قنديل، أحب أن أضع النار
على جسدي). إذن هذا ليس حلماً، إنها تعترف بأنني ليس ضحية لخداع النظر.
اعترضتْ ظني (تنازل عن غرورك قليلاً. غادر هذه اليقظة التي تنال منك.
لا نجاة لك بغير الأحلام. أنت لن ترى غير ما أريدك أن تراه). فتحت
الباب وذابت.
(4)
وضعت الدفتر، مفتوحاً مثل جناحي طائر، على وجهي. وهتفت بي مثل طيف
يتسرب إلى الحواس (اقرأ إن كنت تحسن قراءة النيران). دفعتْ بالسرير
الوثير لينزلق بي نحو بحيرة زرقاء. (كل ما تقرأه قبل الماء فهو لك).
وفيما هي منحنية تدفع بالسرير، لمحتُ إبطها يظللني وينزّ ذلك العطر
المسّكر. انتبهت. لقد كان إبطها مفتوحاً، فارغاً، شاسعاً مثل أفق من
الذهب، والكتاب يغطي وجهي. وكنت أقرأ : (لماذا يجازف هذا المجنون بالوقوف
في طريقي. انتخبته من أحلامي لكي أدخل معه في أحلامه. لم أصادف شخصاً
مغروراً مثله. وضعت له الجمر في وسادة الليل، فأشعل الحريق في نهاراتي.
كاد أن يخلع لي ذراعي بالأسئلة. أظنه سيفكك جسدي عضواً عضواً في سهرة
واحدة. أذهب إليه فيسألني : ماذا تريدين مني؟ كيف يطرح رجل سؤالاً
كهذا على امرأة تعترض طريقه. سمعته ذات حلم يقول : ثمة امرأة تعبث
بقلبي. سمعت دمه يتغرغر في أوردة قلبه مثل كلمات تبحث عن المعنى. هذا
شخص مولع بالفقد، سيفقد المرأة التي يحب يوماً بعد يوم، لفرط غروره).
شعرت ببرودة تتسرب في أوصالي فيما السرير ينغمر في ماء البحيرة. بدأ
السرير يغوص في الأزرق ويغمر جسدي كاملاً، والكتاب يرتفع عن وجهي ليظل
طافياً على سطح البحيرة. وباب الماء ينصفق فوقي. كان الدفء هناك يشبه
إبطاً فقد كتابه تواً .*
|