(1)
تستطيع فقط أن لا تعجب بفان غوخ، ويمكنك أيضاً أن تعتقد برداءة لوحته
زهرة عباد الشمس إذا بالغت في الادعاء، لكن من المؤكد أنك لن تقدر
على نفيه أو تجاهله أو تفاديه ، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالإبداع
، فهذه المسألة ليست في متناول أخصائي الهندسة الوراثية في حقل الزراعة.
(2)
كل هذا الذهب الفاتن الذي خرج تواً من المصاهر السماوية، كل هذا الألق
والتوهج الذي لا تعرف مصدرهما، لكنك فقط تشعر بهما يلفحان وجهك. ذهب
جاء تواً من النيزك البعيد، معدن غريب ويكاد يجبر عينيك على الخجل،
فليس سهلاً التحديق في عين الشمس وهي تعلن نشيدها الأثير في حضرة الطبيعة،
مثل حقل يقدم شكره المهيب للمطر.
(3)
عندما فرغ فان غوخ من تناول شطيرته المحشوة بالجبنة المتعفنة، وضع
سبابته في فتات الجبن المشغول بندوب خضراء تميل إلى الزرقة، تذكر التاريخ
الصغير للجبن عندما كان يتميز بصفرة باهرة. وضع إصبعه المغموسة بلازورد
قديم في فمه ومصها بقوة. ثمة لون آخر يتوجب علينا استعادته. ففي هذه
الحقول ما لانهاية من الأصفر الأثير. شمس مثل هذه لابد أن تنتقل إلى
أشياء العالم وكائناته. لا أحد يحسن مكالمة اللون مثل رسام على الشفير
الأعظم بين عبث الحياة وعبقرية الجنون.
(4)
هل في الزجاجة النصف فارغة مسافة من عقل يمكن الاستعانة بها لكي يؤرجح
الفنان أصابعه لمرة واحدة كلما انتهى من إفطار ضامر مثل هذا. لم يكن
يسأل، كان يعرف. منح الزجاجة فراغاً كاملاً ثم وضعها على طرف الطاولة
بجانب كسرة الخبز ومصمص شفتيه بلذة المنتصر على خصم نصف ثمل وشبه نائم.
وخرج محرراً قميصه حتى السرة، بحيث يتسنى للضوء أن يتخلل جسده فاتحاً
الطريق لهواء طازج انتظر باكراً في ردهة أمام الكوخ.
(5)
في الليلة الفائتة، قرأ رسالة وصلته من أخيه : (لا تترك النوافذ مفتوحة
في الليل، تأكد من رتاج الباب قبل نومك) . غمغم مثل ذئب عجوز : ماذا
يفيد إغلاق الأبواب وحياتي مشرعة للفضاء ؟ وضع الرسالة على سطح الطاولة
وسكب عليها سائل كثيف أحمر اللون كان يركض في عروقه قبل قليل، ثم نهض
يبحث عن قطعة قماش يربط بها إبهامه الندية. يحلو له أن يضع بصمات صادقة
على الأشياء التي لا يتفق معها. رسالة مثل هذه كفيلة باستثارة شهوة
النقائض في روحه الشقية التي تشفّ عن كوامن مجبولة من شغف يندلع كلما
مسّته المعرفة. خالجه شيء من التساؤل : لماذا يستحوذ الليل عليه عندما
يتعلق الأمر بالقراءة ؟
(6)
التفت جوجان إليه، مـستنجداً بالأساطير من أن تسعفه بطاقة أن لا يضاعف
ألم صديقه :
أعرف. الإحساس بالوحدة، إنه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن أن نفعل
لها شيئاً. أنظرْ إلينا، لقد جئتك من المكان البعيد بوهم أن يؤنس أحدنا
وحشة الآخر، كنتُ خارجاً من السجن، وقبلها كنت في مستشفى أكثر عنفاً
من السجن. رحلت إلى أماكن كثيرة قبل ذلك، وربما ذهبت إلى بلدان أخرى،
وسيبقى شعور الوحدة هو الحقيقة الوحيدة في حياتي. أنت أيضاً عليك أن
تقبل هذه الحقيقة. ليس ثمة روح أخرى يمكن أن تتصل بك أو تتصل بها.
ربما عندما تتخلى عن هذا الوهم يمكنك أن تشعر بالأمان مع نفسك. وحين
أذهب الآن فإنني لا أذهب عنك بالذات، ولا أذهب عن أحد على الإطلاق،
إنني أذهب فحسب. مثلما يوم جئت هنا، فإنني لم أكن قادماً إليك، كنت
أذهب إلى مكان آخر فقط. والآن سوف أذهب إلى مكان آخر كذلك. يا صديقي
عليك أن تعرف إننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً لأنفسنا. ولا ينبغي أن
نتوهم بأن أحداً في العالم يمكن أن يفعل شيئاً لنا. إننا وحيدين، وحيدين
جداً، أنا و أنت، كل منا وحيد وحده. أحب وأنا أغادر هذا المكان أن
تصدق شيئاً أقوله لك، إنني وحيد أكثر مما تعتقد، وأخشى أنني وحيد أكثر
منك، ينبغي أن لا يغضبك هذا. عليك فقط أن تضع النقطة الأخيرة في هذا
السطر. وتبدأ السطر الجديد، تبدأه وحيداً أيضاً، وحيداً ولكن حراً
من الأوهام. إنني وهم بالنسبة لك. الآخرون جميعهم مجرد أوهام علينا
أن نتفادى الوقوع في حبائلها. كنت أقترح دوماً على نفسي أن أترك مسافة
واضحة بيني وبين الآخرين، مهما كانوا قريبين مني أو أقرباء لي، مسافة
واضحة تتيح لي حرية الذهاب إلى مكان آخر عندما أشعر بضرورة ذلك أو
أتأكد من رغبتي فيه. لقد فعلت ذلك حتى مع زوجتي. وربما بالذات كان
على أن أفعل ذلك معها. فبعد أن شعرت باستحالتها في حياتي، أجلستها
على طرف سريرها، تماماً مثلما تجلس أنت الآن، وقلت لها عليك أن تتدبري
أمرك. ثم تركتها وذهبت إلى الرسم بكليتي. يا صديقي يجب أن تكون محظوظاً
أكثر مني في هذه اللحظة، فأنت حر من قيود كثيرة، إنك في مكان تحبه
حتى الآن. وبالقياس لي أنت أكثر حرية، لأنني أغادر الآن لا أعرف تماماً
إلى أين تأخذني الطريق التالية. هل يمكن أن تجد عذاباً أكثر من هذا.
المحبة لا تكفي في حالاتنا. إنني أحبك، لكنني لا أطيق أن أضيف وحشة
وحدتي إلى وحشة أخرى. وحيدون يا صديقي، وحيدون جداً).@
|