(1)
في لحظة المنعطفات الحادة في التاريخ الإنساني، تتعرض المجتمعات لما
يشبه الزلزال الكوني الذي يؤدي إلى خلخلة في المنظومات المستقرة من
القيم والمفاهيم، وربما شكلت مثل هذه اللحظات تحولا جذريا ونوعيا خطيرا
وحاسما في البنية الاجتماعية. ومن المتوقع أن يكون البعض أما مستوعباً
لهذه التحولات ومتفهماً لحدوثها (دون أن يكون قادراً على قبولها أو
الانسجام معها)، فيما يكون البعض الآخر مستعداً للانسجام معها وقبول
معطياتها الجديدة (بغض النظر عن سلبها أو ايجابها في حياته) كما لو
أنها تحدث خارج كيانه.
ومن بين أهم الأسباب التي يكون فيها المجتمع معرضاً لمثل هذه التحولات
هي الحروب و الثورات الجذرية )في مختلف الحقول) أو الهزائم و الانهيارات
الهائلة التي تمسّ البناء الاقتصادي والاجتماعي في الحياة.
(2)
في الثلاثين سنة الأخيرة تعرض المجتمع العربي لما يشبه الزلزال الكوني
نتيجة لتتالي الحروب و الهزائم التي أدت بدورها إلى الانهيارات الاقتصادية
(بالرغم من الطفرات الاقتصادية الظاهرية والتراكم الفج للثروة المهدورة)،
ونتيجة لهذه الانهيارات تعرضت البنى الأخلاقية و القيم والمفاهيم إلى
ما لا يحصى من التفسخ المركب، بحيث يمكن للمرء (بقليل من المقارنة)
اكتشاف النقائض في القيم و الأخلاق بين ما يتحكم في العلاقات الإنسانية
و الاجتماعية الراهنة قياساً لنفس القيم و الأخلاق والمفاهيم قبل عقد
ممن الزمن.
ولقد لحظنا ما يتعرض له الإنسان في المجتمع العربي من تجريد من حساسيته
الأخلاقية السابقة، وتحوله إلى ما يشبه الآلة الجامدة وهو يلهث وراء
لقمة العيش النادرة وباهظة الثمن (أخلاقيا ونفسيا)، هذا الأمر الذي
سيمسّ في العمق السلوك اليومي الذي سوف لن يكترث بتلك الحساسية السابقة
في التعاطي مع الآخرين و مع أشياء المجتمع والحياة.
(3)
و بإحساس الحسرة و الخسارة الفادحة كنا نرقب ما يحدث في المجتمع العربي،
فيما نفقد القدرة على التحكم في ما يحدث أو العمل على تفادي هذه الانهيارات
الهائلة. وكنا نعتقد (في كل مرة) أنها نهاية الانهيارات، وأن ثمة تدارك
وشيك يمكن أن تتاح لنا فيه استدعاء طاقة الحضارة الكامنة في الإنسان
بشكل عام.
وكان من الطبيعي أن يكون الإنسان العام في المجتمع أكثر عرضة من سواه
لنتائج تلك الانهيارات من عطب روحي وتدهور ثقافي. غير أن الفداحة ستتضاعف
لدينا حين نرى أن العطب سيطال القطاع المرشح (تاريخيا) لأخذ زمام المبادرة
في التصدي لتلك الانهيارات والعمل على معالجة الخسائر الحضارية و الأعطاب
الروحية التي تهدد المجتمع أو هي تكاد تفتك به.
(4)
مثل هذه الهواجس هي من بين أخطر ما يصدمنا يوما بعد يوم في السنوات
الأخيرة. فثمة تفسخ ثقافي تتعرض له قطاعات كبيرة ممن المثقفين العرب
(بالمعنى العام لمفهوم المثقف).
هذا التفسخ من شأنه أن يجعلنا مهيئين للرجوع السريع نحو التخلف، إذا
لم يكن نحو القرون البدائية (بالقياس مع اللحظة الحضارية الراهنة في
العالم) فإننا سنكون من مواطني الحضيض في عصور الانحطاط بامتياز. فإذا
كانت الحضارة هي السلوك الإنساني بالدرجة الأولى وليست المفاهيم معلقة
في الهواء، فان ثمة سلوكيات يتبرع بها فئة في الواقع العربي، ترشحنا
للاستعداد من أجل نهش لحم بعضنا البعض بعد سنوات قليلة.
ففي غمرة مهرجانات التحولات السياسية و الاقتصادية التي يلهث خلفها
(على مبعدة) أصحاب الجمع و المنع العرب، وهي تحولات تعبر ظواهر السطح
قياساً لما نتهيأ له من انعطافات لا تعرف الرحمة بالبشر ولا الشعوب.
أقول في غمرة هذه المهرجانات، ثمة ما يمكن وصفه بالخلل الأخلاقي والثقافي
في أوساط قطاع من العاملين في الحقل الثقافي والسياسي، بحيث أخذ هؤلاء
في ممارسة السلوك الخطير في تداول بعض المفاهيم الصادرة عن قيم اقل
ما يمكن وصفها بالوحشية وانعدام الحس الحضاري، مما يشي به لغة باتت
تتداول بعض المصطلحات الغريبة على ما أنجزته البشرية في القرنين الأخيرين
خصوصاً. أقول هذا الانطباع نتيجة لصدمة تعرضت لها في الشهر الأخير
بسبب من ثلاث حوادث متفاوتة الحجم والأهمية لكنها تصوغ في نهاية التحليل
دلالة واحدة تتصل بما تقدم الحديث عنه.
وما يجمع هذه الحوادث الثلاث هو الحس العنصري الغريب فيها.
(5 )
الحادثة الأولى : أحد (الكتبة) في جريدة محلية كتب مقالاً، في الملحق
الثقافي، اعتبر فيه المشاركة في هيئة تحرير مجلة أدبية عربية يصدرها
شعراء وأدباء عرب أكراد، تعاوناً مع أقليات عرقية ويستدعي الاستغراب
والشجب. وقد أثار هذا المقال البذئ شعوراً بالاشمئزاز لدي الأدباء
في البحرين لغرابة طرحه في السياق الحضاري التي تتميز به التجربة الثقافية
في البحرين، وكدنا لولا رحابة وتفهم الأصدقاء في تلك المجلة أن نعلن
اعتذارنا الأدبي لهم عما أثاره هذا المفهوم البائس الذي يشي بعنصرية
مقيتة ليست من بين برامج مشروعنا الثقافي على أية حال.
الحادثة الثاني: صادفت (بطريق الصدفة المحضة في بلد عربي) مسودة عريضة،
تفتقت عنها قريحة بعضهم، تدعو السلطات في تلك البلد إلى حرمان جميع
الوافدين بكل جنسياتهم، من حق العمل ولقمة العيش بحجة أن هؤلاء الوافدين
يزاحمون المواطن في نصيبه المشروع في العمل وباقي الامتيازات. والأغرب
أن مسودة العريضة تنضح بقدر لا بأس به من فجاجة التعبيرات العنصرية
التي تذكرنا بلغة متعصبي العنصرية في أسوأ نماذجها. وكنت أوشكت على
الانفجار في حامل العريضة، خصوصاً وأنه من بين أبرز المناضلين الذين
خدموا الحركة العمالية العربية صادراً من تجربته التقدمية في العمل
السياسي. أي أنه من القطاع المرشح أكثر من غيره لمعالجة العطب الروحي
الذي يتعرض له المجتمع.
الحادثة الثالثة : وهي ما صدمتنا به الأخبار في الأسبوع الماضي بكلام
المدعي العام الكويتي عن الدم العراقي بوصفه عاراً. ولعل في هذا الطرح
المؤسف ما يمسّ قطاعاً كبيراً ليس في الخليج فحسب ولكن في المنطقة
ككل. والصادم في هذا الطرح هو النظرة العنصرية التي لا تليق بالإنسان
وهو يعيش في نهايات القرن العشرين. أكثر من هذا فان طرحاً كهذا يشعرنا
بالخلل الفادح الذي وصلت إليه بعض الفئات من أصحاب الرأي والثقافة
في المجتمع العربي. فعلى الصعيد السياسي، ليس من الحكمة الكلام بمثل
هذا القول في حين يسعى الكثيرون في الحياة العربية لمعالجة الكوارث
الكبرى التي نتخبط في براثنها منذ أغسطس العربي بشتى تجلياته. وعلى
الصعيد الحضاري، ليس مقبولاً الزعم بأننا من مواطني القرن العشرين
فيما نحن نتبجح بالقيم العنصرية التي هرول بها هتلر جاراً معه العالم
نحو الهاوية، هتلر الذي جاء إلى الحكم في ألمانيا (ويا للمأساة) بطريق
الانتخاب الديمقراطي.
(6)
أسوق هذه الحوادث الثلاث المنفصلة والمتفاوتة الحجم والأهمية وذات
الدلالة الواضحة، لكي أسأل ما إذا كان ثمة مناخ في الواقع العربي بات
يسمح (ثقافياً وحضارياً) للبعض أن يجهر بالنزوع العنصري الفج دون أن
تخالجه مشاعر الحرج أو القلق، ودون أن يشعر بأن من أبسط شروط الثقافة
في هذا العصر هو شرط الحب والرحابة التي تسع الإنسانية بلا استثناء.
ولعل ما يثير القلق المضاعف بأن مثل هذه السلوكيات باتت تصدر عن أوساط
الفكر والثقافة، ألا يشكل هذا تهديداً مباشراً لطرائق التفكير المفتوحة
على العطب الكامل في حضيض المجتمع وهو يتعرض للآلة الإعلامية الجهنمية
التي تدفعه إلى الجنون الكامل لفرط الجهل الذي يجري تعميمه.
ترى، هل يستعد المجتمع العربي للمزيد من التدهور والانحطاط الثقافي
والأخلاقي، لكي تكون المفاهيم والقيم معكوسة وتناقض الحس الإنساني،
وهل نحن حقاً نستحق العيش في انتظار القرن القادم فيما نفتك بأبسط
شروح حقوق الإنسان في عالم قدم كل تاريخ التضحيات البشرية من أجل التقدم
والعدل والحرية والجمال؟@
|