في معرض الكتاب

( 1 )

في منتصف مارس الماضي نظمت ؛مؤسسة الأيام« ووزارة شئون مجلس الوزراء والإعلام في البحرين المعرض الدولي الثامن للكتاب. وقد اقترحت علينا .هذه التجربة بعضا من الأسئلة
فقد كانت هذه هي التجربة الأولى, في البحرين, التي تتولى مؤسسة خاصة
(تنظيم مثل هذا المعرض, في سياق ما يلهج به البعض مؤخرا عن (خصخصة الثقافة وهو تعبير لم يزل ينطوي على الغموض ذاته الذي يصحاب تداول مصطلحات تقتحم حياتنا دون استعداد (ثقافي), ومن غير ظروف ملائمة تتناسب مع الطبيعة الحقيقية للمجتمع. والحق أنني ما إن أسمع (عربيا ) تعبير (خصخصة الثقافة) حتى أضع قلبي على يدي. ولعل تجربة معرض الكتاب هذا قد أكدت لي المخاوف التي تستنفر لمثل هذه المصطلحات (ذات المحمول الملتبس), خصوصا عندما يطرحها البعض كأجوبة تقترح علينا الحلول الخرافية, من أجل تسويق المشاريع الأخرى. بوهم أن (الخصخصة) هي الحل الأمثل للمشكلات
التي تشكل (عبئا ) على الدولة (!!?). من هنا لا يخلو الترويج (للخصخصة) من .الدلالات

غير أن التجربة التي اختارت مؤسسة الأيام خوضها كانت من المغامرة بحيث أنها بذلت جهدا كبيرا لكي تثبت قدرتها على تنظيم معرض للكتاب يستفيد من التجارب المثيلة في البحرين. ومقارنة مع التجارب المحلية يمكننا القول أن المعرض الأخير قد حقق نجاحا التبس على المنظمين (وبالتالي على قطاع كبير من المأخوذين بسطوة الضخ الإعلامي) بصورة يتوجب التوقف عندها, لكي نتثبت .من المعنى الدقيق لما يمكن أن نسميه نجاحا في مثل هذا المشروع

فإذا قلنا أن الجانب التنظيمي كان معقولا, لابد لنا أن نرى في التنظيم أمرآ يتصل بالتفاصيل التي ستؤدي بالتالي إلى صالح الجمهور القارئ أكثر من الصب (المبالغ فيه) في استثمارات دور النشر وتج ار الكتب. فإذا كان الهدف الأول (مؤكدا على هذه الأولية) هو تسهيل توصيل الكتاب (بوصفه مدخلا مهما للثقافة) الى المجتمع, لابد من الإنتباه للعبة الأسعار التي كانت مفتوحة بحرية (تعوز الثقافة أكثر من التجارة) أتاحت للمشروع أن يبتز القارئ بصورة جعلت الفروق بين أثمان عدد كبير من المطبوعات ليست شبيهة بأثمانها في الأوقات (والمكتبات) العادية فحسب, بل أنك يمكن أن تصادف كتبا معروضة بأثمان مضطربة داخل المعرض من جهة, .وتضاهي غالبا أثمانها في المكتبة

(فالمفارقة تنكشف عندما نجد أن المتابعة (التي كانت تصل حد الفظاظة والفجاجة
في مراقبة الكتب في الأجنحة خلال المعرض, في حين أن أحدا من هؤلاء
المراقبين - لم تستوقفه الحرية التجارية المطلقة التي استغلها الكثيرون وهم
يرو جون, بأساليب محترفة (تضاهي القرصنة) متلاعبين بالقارئ فيما تعرض عليه قوائم الأسعار الأصلية (الغامضة) ثم تدور به في دوامة التخفيضات الوهمية لتبيع له الكتاب بسعر لا تعرف أصله من فصله.لكأن ثمة نية غير معلنة للإنتقام .من القارئ مقابل الحصار الذي تعر ض له الناشرون من لجان الرقابة

لذلك نقول أن الحملة الإعلامية التي حققتها مؤسسة الأيام كانت تصور نجاحا جماهيريا خلط الأوراق أمام القارئ, وغيب المسؤولية الأولى في غمرة هذا المهرجان. فمثلما كانت المؤسسة المنظمة جهة تجارية ترى أن حقها في الربح مشروع, فإن دور النشر هي الأخرى لم تأت لتتبرع بمالها للناس. وهذا ما يجعلنا ننب ه إلى أن مؤسسة الأيام, بوصفها في الأصل مشروعا ثقافيا , (كما يجري تأكيده دائما ) قد وقعت في مأزق المؤسسة التجارية عندما قبلت القيام بدور الشركات الخاصة التي يمكن استغلالها لتسويق مقولات (الخصخصة), كما يحدث لمؤسسات تلبي شروط (الجات), التي تعتبر واحدة من (توابع) النظام العالمي الجديد. وفي ظني أن هذا الدور ليس من أدوار مؤسسة ثقافية تستدعي الحذر فيما تذهب من مشاريع, خشية أن تفقد طبيعتها الأهلية. وهذه وجهة نظر تتوقع من .المؤسسة الثقافية موقفا نقديا وليس تجاريا

إذن, فإن مثل ذلك النجاح (الإعلامي) للمعرض الثامن قياسا للمعارض السابقة بشكل خاص, ليس في صالح التجربة, فليس من باب الموضوعية إعتبار تجاربنا في المعارض المحلية قياسا يقارن به. وشهادة العديد من الدور المشاركة بأن الإقبال كان جيدا سوف يقصد به الجانب التجاري فحسب, هذا الجانب الذي يظل بعيدا (وهو مضادا أيضا ) لمصلحة القارئ, وهي الهدف الأول كما قلنا. لذلك .نقول أن هذا النجاح لا يعول عليه في سياق المشروع الثقافي

من جهة أخرى فإن التشجيع العملي الذي يمكن أن يوفر مساحة كافية لمساعدة القارئ, هو تشجيع يتصل بالدعم الجوهري الذي لابد للدولة أن توفره للناشرين, متمثلا بأقل ما يمكن من كلفة الأجنحة, بل ومجانيتها كما يحدث في حالات عربية مختلفة. وهذا ما يأخذنا مباشرة لخطورة مفهوم (الخصخصة) سابق الذكر. فعندما تتخلى الجهات الرسمية عن مسؤليتها في تولي تنظيم معارض الكتب وتسليمها للمؤسسات الخاصة (لا أعرف خاصة لمن?) فإن في ذلك إطلاق لحرية التجارة من جهة وإحكام لحدود (لئلا نقول محاصرة) الحريات الأخرى, وهي هنا حرية القارئ للوصول إلى الكتاب وبالتالي الثقافة. ولكي لا نلقي اللوم (كله) على المؤسسات الخاصة (وهي التجارية) التي تتسابق لتنظيم مثل هذه المشروعات, لابد من التأني في معرفة الحكمة (الإقتصادية والإجتماعية, وبالتالي الحضارية) في هذا التخلي المرتجل عن المسؤليات البنيوية الذي تمارسه الدولة وترو ج له .بحجج مختلفة, إن كانت مفهومة فهي غير مقبولة

على هذا, كيف إذن نعتبر المعرض الثامن ناجحا بالمعنى الجوهري لطبيعة دور معارض الكتب في حياتنا الثقافية. ألا ينبغي أن نكون منصفين أمام المجتمع عندما نخلط الحديث في سياق (عنف) الآلة الإعلامية التي أثبتت (وحدها) النجاح هذه المرة? ألا يتوجب علينا الإشارة دائما إلى الوهم الذي يريد البعض ترويجه بالخلط بين الثقافة والإعلام? وإذا كانت ثمة حدود بين الإعلام والثقافة (دون أن يكونا
. متناقضين دائما ) لماذا نحقق الإعلام ونكرسه بديلا عن الثقافة

في ظني أن تجربة معرض الكتاب الثامن قد اقترحت علينا فضيحة مزدوجة لابد لنا من الإعتراف باستحالة تفاديها. فضيحة مقولة (الخصخصة) التي تكرس (في العمق) تخلي الدولة عن مهماتها الإجتماعية/ الحضارية, وفضيحة الخلط الشنيع بين الإعلام والثقافة في محاولة لإقناع العالم بالآلة الإعلامية ومهرجانيتها .باعتبارها ثقافة

(2)

إذا تجاوزنا منظور الفئة المحدودة من متابعي الكتاب, والتي لم تصادف كثيرآ من الجديد في العناوين, فإن الأمر الأهم يظل مرتبطا بالجمهور العام الذي تشكل له معارض الكتب مناسبة موسمية لإقتناء ما فاته طوال السنوات الفاصلة بين المعرض والآخر, خصوصا إذا وضعنا في الإعتبار أن قطاعا كبيرآ من ذلك الجمهور قد انقطع عن عادة ارتياد المكتبات في حياته اليومية, لتظل مناسبة المعرض هي البديل المؤجل دائما . من هذا المنظور كان بإمكاننا ملاحظة الإقبال الكبير على الشراء منذ اليوم الأول هذه المرة. فثمة عطش للمعرفة كان يجب توظيفه كرافع حضاري في بنية تنمية المجتمع, وليس استغلاله في توسيع دائرة .تجارة الإستهلاك

,ولعل طبيعة التحدي التي رافقت تجربة مؤسسة الأيام في تنظيم معرض هذا العام ,ساهم في اكتساب فريق العمل الذي اشتغل على الإعداد والتنظيم خبرة مضاعفة تجعله مستعدا لتجاوز المشكلات التي لابد أن ترافق مشروعا ضخما من هذا النوع. كما أن اعتماد مؤسسة الأيام على الشباب البحريني المستعد دوما لتحقيق .ذاته بصورة جيدة, هي تجربة تحسب لمؤسسة الأيام

أما فكرة نشرة (الوراقون) اليومية التي كانت تصدر طوال أيام المعرض فإن في
(إمكانها أن تكون أكثر فعالية (ورزانة) لو أنهم وضعوا لها تصورا (ثقافيا
( واضحا بعيدا عن الترويج الإعلامي, فالنشرة كانت تابعا لمفهوم (الخصخصة
.أكثر من صدورها عن الوعي الثقافي

(3)

بقيت الإشارة إلى ملاحظات تتجاوز حدود جهة التنظيم وتتصل بالأجهزة الرسمية. من بين أهمها مسألة الرقابة. فالمفهوم الذي كانت تصدر عنه الرقابة (رؤية وأسلوبا ) كان بائسا حد الإحراج. وهي مسألة ما زال الواقع العربي يطفح بها, ويجعل مثل هذه المشاريع متعثرة وشبه مستحيلة. ولو أن الأجهزة الرسمية تقف مطولا أمام هذه المسألة بحسم حضاري واضح وبجرأة تليق بالثقافة, لكنا حصلنا على معارض كتب معبرة حقا عن المعنى الجوهري لعلاقة الإنسان بالكتاب وما تحتاجه الثقافة من الفضاء الرحب. فمن المؤكد أن مسألة الرقابة على الكتب مازالت تشوه معارض الكتب العربية. وفي التجربة الأخيرة كانت شكوى الناشرين تلفت النظر بصورة مؤسفة. ودون أن نكون معجبين بكل عناوين وموضوعات وأفكار الكتب المطروحة, لابد لنا من النظر إلى الرقابة بحذر شديد, باعتبار مبدأ الرقابة يظل غير مقبول حضاريا . وننتظر اليوم الذي تدرك فيه المؤسسات جميعها أن الكلام عن الرقابة في هذا العصر هو ضرب من المزحة الثقيلة, لكون وسائل الإتصال من شأنها أن توفر كل مواد المعرفة والمعلومات بسهولة تجعل عمل الرقابة استخفافا فادحا بذهنية الإنسان وحقوقه وحرياته. فأية مشاريع تتصل بالثقافة (خصوصا ) لا يستطيع أحد الزعم بجديتها من غير أن يتوفر لها ما تحتاجه من الحريات, وهي حريات جوهرية لا يمكن تفاديها على .الإطلاق

نقول هذا ونحن نرقب ما يحدث عبر الشبكات اللامحدودة من وسائل الإتصال التي يمكن أن تجعل من الممنوع (مهما كان تافها ) مادة للابتزاز مرتين, مرة من جهل الرقيب ومرة من حقل التسليع المهين. وإلى ذلك كله, يجب أن نضع جميع معطيات العقل والمخيلة الإنسانية, بشتى اجتهاداتها, على مستوى واحد من حق التعبير والإنتقال. فلست ممن يعتقد بأن ثمة انسانا أو جهة (أيا كانت) مؤهلة أن تحدد لي (منعا أو فسحا ) الكتاب الذي أقرأه. أقول ذلك, متمنيا أن أرى تجربتنا في تنظيم المعارض أكثر جمالا وتحضرا , وهي تتجاوز هذه المسألة بصيغة تمنح البحرين صورتها الثقافية البهية التي لا يريد أحد فقدها, وهي (سمعة تاريخية) تبدو الآن فلكلورا تتغنى به وسائل الإعلام في كل مناسبة. وأكاد أقول أيضا أننا لم .نعد نرغب في رؤية معارض كتب في المستقبل تخضع لهذا النوع من الرقابة

(4)

لكن الكلام عن معرض الكتاب لا يكون مكتملا دون الإشارة إلى الفعاليات التي رافقت المعرض, بتنظيم مشترك بين مؤسسة الأيام والجهات الثقافية الرسمية متمثلة في إدارة الثقافة بوزارة شئون مجلس الوزراء والإعلام. فقد كان ؛ملتقى طرفة بن العبد« واحدا من أبرز الفعاليات التي مي زت هذا المعرض. ومآخذنا (التي سيلحق الكلام فيها) على هذا الملتقى لا يقلل من الإضافة النوعية التي تحاول الجهات المنظمة وضعها في سياق التقليد الثقافي في البحرين, وهي .محاولة نشهد لها , ونشهد عليها أيضا

ولكي لا تجري الأمور كما لو أنها تقليد آلي لما يحدث في مشاريع مثيلة في بلاد عربية أخرى, لابد أن نؤكد على أهمية تفادي ظاهرة الإرتجال والخفة التي ترافق مثل هذه المشاريع في بلاد عربية أخرى, إلى الحد الذي باتت تلك الفعاليات لا تغري ولا تستوقف الكثيرين بسبب عدم الجدية الذي يشوب النظر والإعداد والتنظيم والنتائج. ولذلك أتمنى أن يجري النظر إلى هذه التجربة بالصراحة التي تتطلبها جدية الأمر وأهميته, وحرصنا على أن نكون جديرين بالمشروع الثقافي .دون أن نخضع لشهوة (الخصخصة) وأوهام الدعاية ومزالق الإعلام

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى