... هكذا تسهر لبنى أمين على أشجارنا القديمة.
تغري الخشب بحزمة الألوان النشيطة فيتماثل منتبهاً للحياة تدب في مفاصله،
متثائباً، مثل تراث يخرج من كثافة الكابوس إلى لطافة الحلم. وكلما
كان الخشب موغلاً في الزمن، جاءت يقظته أكثر فتنة : يتيح لنا أن نتخيل
خشباً جديداً ذاهباً في زينة العرس.
منذ معرضها الأول، اقترحت علينا لبنى : أن ثمة حياة في هذا الكائن
القديم، وانه ليس ميتاً ولكنه نائم يتوجب إيقاظه. وبإمكاننا أن نصغي
إليه بعد صقله ببعض الألوان الصادرة من روحنا.
بدأت التجربة، عندما اكتشفت المسافة الجهنمية (وهي العلاقة الفردوسية
أيضاً) بين أسرار الخشب الغامض وفضائح اللون الجريئة، تسنى لها الإمعان
في استثارة هذا الحوار المكبوت لكي يبدأ البوح، مندلقاً مثل بكاء تسعة
أطفال يولدون دفعة واحدة، فيما ترتعش الأبواب والنوافذ استجابة لرغبة
التعبير عن المحبوس بوسائط مشحونة بدلالات الحجب والمنع والمصادرات،
ثمة مفارقة في الأمر، حيث كان هذا الخشب أما باباً سميكاً في دار أو
نافذة شامخة على جدار. كيف يمكن أن يتحول الحارس إلى فعل حوار؟
ماذا تريد لبنى الأمين أن تقول لنا في كل هذا الولع باستعادة الأقفال
لتصير مفاتيح للمخيلة، وكأن الألوان ليست سوى زيت القناديل التي تتلاعب
بشعلتها الزرقاء أرواح تتصاعد من تلافيف الخشب مثل أصداء قديمة تزعم
قدرتها على قراءة مستقبل وشيك.
يبدو لي أن الاقتراح الذي تقدمه لنا هذه التجربة يتمثل في إعادة الثقة
للمنسيات الحميمة من عناصر البيوت التي احتضنت طفولتنا، فمن الولع
المبكر لدي الفنانة بالموتيفات التاريخية في شخصية الدار البحرينية
القديمة، انبثقت لحظة التقاطع الأليف بين التراث والفن في التجربة،
كما لو أنها اكتشفت أن ثمة حياة عتيقة انتظرت (مثل نبيذ قديم) من يسكبها
في بلور الأقداح، ففي الخشب القديم أبواب ونوافذ تفهم كلام الألوان
والأشكال الجديدة. وتتيح لنا إطلالة على أفق متاح ومستحيل في آن.
من هذه الشرفة إذن، يجوز لنا أن نرى إلى هذه التجربة، بوصفها محاولة
لإنعاش الذاكرة بإطلاق حريات المخيلة التي ترى أشياء الكون بحساسية
بصرية تشتغل على ملامسة المنسيات، مثل شخص يعود لاستعادة أطفاله المتروكين
في البيت، غير أن لبنى تؤكد بأن ولعها بالتعرف على جغرافية اللون لا
يقل عن ولعها بدراسة تاريخ الخشب. فهي تحاول أن تقرأ لنا السيرة الشخصية
لخشب البيت (في شتى تجلياته) بوصفه صورة، في حين اعتدنا أن نقرأ ذلك
بوصفه نصاً.@
( نص كلمة كاتلوج معرض الفنانة البحرينية لبنى أمين
في صالة عشتار بدمشق)
|