(1)
بهذا الشكل أقترح أن نرى إلى تجربة (مي محمد الخليفة) في كتابها (من
سواد الكوفة إلى البحرين) عن القرامطة، وأخشى أننا، إذا لم نضع استعادة
تجربة القرامطة (من الوجهة الإنسانية) في سياق استجوابي (يضاهي المحاكمة
الحضارية) إزاء الواقع الراهن، سوف لن نرى في هذا الكتاب أكثر من سردٍ
باردٍ لتاريخٍ يتأجج فيه الجمر تحت رماد الحقب. لذلك ستكون قراءتي
بمثابة انطباع يرى إلى الكتاب من هذه الشرفة. فلست هنا بصدد عرضٍ مدرسي
لمادة الكتاب، لا لأن عرض مثل هذا الكتاب هو إخلال به ولابد من قراءته،
ولكن لأني أعتقد بأن أهمية الكتاب تكمن في طريقة إنشاءه كبناء يكاد
أن يكون شكله التأليفي جزءاً جوهرياً من تكوين الموضوع ورؤية المضمون
في الوقت نفسه. لذلك أحب أن أحيل القارئ على الكتاب دائماً.
وعندما يكون نصف الكتاب مقدمةً لنصفه الآخر، فهذا يعني أن ثمة بنية
في التأليف تريد أن تقترح علينا منظوراً خاصاً لموضوع الكتاب. وأظن
أن مي الخليفة (فيما تصوغ كتابها هذا) أرادت الإشارة (في مقدمتها)
إلى ما يتجاوز التقديم، ليصبح ضرباً من أرضية النص التاريخي في أكثر
من جانب، حيث عمدت، في سرد التقديم، إلى إعادة تركيب (لئلا أقول بناء)
المشهد التاريخي الذي سبق حركة القرامطة وأدى إليها، كما لو أنها تريد
وضع القارئ أمام مسئولية اتخاذ الموقف النقدي منذ اللحظة الأولى، ليس
فقط إزاء عناصر وملابسات التاريخ الإسلامي منذ لحظة السقيفة حتى الخلفاء
العباسيين، ولكن خصوصاً في طبيعة تعامله مع أطروحات وممارسات الحركة
القرمطية فيما بعد. الأمر الذي لا يتعارض (كما أحب أن أفترض) مع التعاطف
الصريح مع الفكرة القرمطية، وهو تعاطف لا تخفيه المؤلفة منذ لحظة إهداء
الكتاب حتى ملاحق الكتاب. وإذا كان هذا حقها الذاتي، فان أحداً لن
يكون مجبراً، من الناحية الموضوعية، على الإعجاب بإعجاب المؤلفة بالقرامطة،
فليس من بين مهمات الكتاب تحشيد المعجبين بفكرة القرامطة، ولكنه يسعى،
كما شعرت شخصياً، إلى شحذ المخيلة النقدية في الأجيال الجديدة فيما
تقرأ التاريخ في أية حقبة كان. وليس لأقل من هذا الهدف الجميل يسعى
المرء.
(2)
ليست مصادفة أن تأخذ المقدمة ما يضاهي نصف حجم الكتاب تقريباً. ففي
ظني أن أهمية الاستعادة التاريخية لظاهرة راديكالية مبكرة في التاريخ
الإسلامي مثل حركة القرامطة، لا تكمن في الأحداث والأطروحات القرمطية،
ولكنها تتجوهر في التحولات السياسية والاجتماعية (وخصوصاً الدينية)
التي طرأت على المجتمع الإسلامي في القرون الثلاثة التي تلت وفاة النبي،
وهذا بالضبط ما يفسر لنا الاهتمام الوثائقي (الموغل في التفاصيل) الذي
سردت فيه المؤلفة ما كانت معظم العروض التاريخية تتفادى التوقف عنده،
أو أنها كانت تشير إليه بخفة في معظم الأحيان. هذا التاريخ الذي استمر
حقبة من التاريخ (كثيفة الأحداث) تضاهي القرن. (وهو زمن يفوق عمر الاتحاد
السوفيتي المعاصر، حيث مجرد أيامه العشرة الأولى قد هزت العالم، كما
قال أحدهم). ومن المثير حقاً أن تاريخ الدولة القرمطية في تلك الفترة
يسقطها المؤرخون كما لو أنها لم تكن. لذا فأن كتاب مي الخليفة عن القرامطة
من غير هذه المقدمة (طويلة البال دقيقة التوثيق) لن تكون له الأهمية
التي تم إنجازها. وإذا كان طول المقدمة قد أثار حفيظة البعض، فذلك
لأنها كانت بمثابة التأمل المزدوج لغير زمن من تاريخنا المعاصر. فقد
كان الكتاب (في مقدمته وفي مجمله) كمن يقرأ الحاضر من شرفة الماضي،
ولذلك فان التحولات التي أثارتها حادثة السقيفة سوف تؤسس للانتقال
الفجّ من الدين إلى الدولة، في آلية أسّستْ لضرب من العنف لم يتوقف
حتى هذه اللحظة، يتبادل فيه اللاعبون الأدوار برشاقة سلطة (الجمع والمنع)
مدججة بالمفهوم الإقطاعي للعدل والحرية والثروات الوطنية بوصفها خراج
السواد الذي (مهما اتسعت رقعته) لابد له أن يعود إلى بيت الدولة التي
لم تتجاوز (طوال التاريخ العربي) جيب الحاكم. ومنذ لحظة البداية تلك
سوف يترتب التوظيف السياسي للدين بوصفه مطية سلطة أزلية تستمد مشروعها
ومشروعيتها من دينٍ يتعرض لتفسير الحاكم على المحكوم.
(3)
ويزداد كتاب مي الخليفة نضارة كلما نجح في اختزال الفجوة التاريخية
بين الماضي والراهن، على كل الأصعدة، لنتأكد مع المؤلفة أن الخلل البنيوي
الذي تعرّض له المجتمع العربي لا يزال مستمراً بسبب من النظرة الدونية
التي بدأت تتوارثها السلطة العربية للإنسان وتصوغ القوانين على أساسها،
هذه السلطة التي لم تختلف، في كل الحقب العربية، إلا في الدرجة، أما
نوعياً فهي ذاتها منذ البذرة الأولى للصراع الاقتصادي السياسي الذي
أسس للدولة العربية بمفهومها الديني في متتالية قمعية يشرحها الكتاب
بأسلوب رشيق وشائق. فنرى كيف كان الصراع السياسي يعصف بالبشر دون اكتراث
بأبسط المفاهيم الإنسانية التي جاء الإسلام يبشر بها العالم، فيستمر
الظلم والظلمات ذاتهما في واقع يتكرس ويطحن الأحلام. وهو المشهد الذي
خرجت منه وخرجت عليه الحركة القرمطية، هذه الحركة التي سعت لوضع الدين
في منجاة من سطوة السلطات السياسية، تفادياً لشهوة المتاجرة به ومحاربة
الإنسان به، بل والتضحية بالدين ذاته في معظم الأحيان، خصوصاً في اللحظة
التي يتعارض فيه الدين مع مصالحهم وسلطانهم. وسوف تكمن مساءلة التجربة
القرمطية للواقع التاريخي (السياسي والاقتصادي) في غير زمان، عندما
يزعم القرامطة أن الأنبياء والسلاطين قد أنزلوا الجماهير إلى مستوى
العبودية الاجتماعية والشقاء المادي، معلنين أنهم يريدون إرجاع العدل
الاجتماعي وإنشاء الرفاه المادي إلى أرض الناس.
ودون الإفراط في الثقة بأن القرامطة قد أنجزوا ذلك المشروع هنا أو
هناك من جغرافية التاريخ والإنسان، لابد لنا من القول أن الباحثة قد
أحسنت عرض مختلف المشاريع القرمطية على صعيد الفكر السياسي والاقتصادي
والفلسفي والفقه الديني، وتابعت ممارسة تلك المشاريع في أكثر من حقل،
ولم تغفل عن بعض الاجتهادات التي أخفقت لسبب من الأسباب، من دون التقليل
من عنف واتساع المجابهات العنيفة التي تعرضت لها التجربة، مما يجعل
المهمة التنفيذية غاية في الصعوبة. لكن عندما نقرأ ما كتبه بعض المؤرخين
المحايدين (وبعضهم كان قرمطياً أو ينزع إلى ذلك، مما يجعل وصفهم بالحياد
غير محايد أحياناً) نتأكد بأن أخطاء التجربة كانت تصدر من أشخاص وجماعات
تتحرك للعمل في ظروف غير مؤاتية على الإطلاق، فالشخص يخطئ لأنه يعمل.
والقرامطة كانوا يعملون في مجتمع بدأ باكراً في النشوء على كره العمل
النقدي بالمعنى الحضاري للعمران.
(4)
يتميز كتاب (القرامطة) لمي الخليفة بما يمكن وصفه بحساسة البحث في
الحركة القرمطية كظاهرة سيسولوجية سياسية غير مسبوقة ولا متبوعة في
التاريخ العربي. ظاهرة استطاعت، رغم التنكيل المتعدد الأشكال الذي
تعرضت له، أن تظل متصلة الوشائج بكل ما يختلج من شهوة الحرية في الكائن
المسلم كلما تعرض للعسف أو تفاقمت المحن تكاسرت المظالم وتكاثفت عليه
الظلمات. فما يستثير الخيال دائماً، ويدفعنا للشك المقيم في روايات
التاريخ العربي (في مصادره الرسمية خصوصاً) أن العسف الذي تعرضت له
الحركة القرمطية لم يقتصر على التنكيل المادي المباشر الموغل في العنف
الذي مارسه النظام العربي ضد الثورة القرمطية ورجالاتها ودعاتها وجمهورها
أفراداً وجماعات، بل أن العسف الأعظم سوف تتعرض له الحقيقة التاريخية
منذ القرن الخامس الهجري حتى عصرنا الراهن. وهذا ما سيجعل المؤلفة
ترى إلى الوثيقة التاريخية، بوصفها سؤالاً قديماً يستمد جديته من جدته
وهو يقف في مجابهة الواقع الراهن. فالمؤلفة لا تحسب نص الوثيقة زينةَ
تتهامش مع النص وتمنحه مظهراً علمياً، ولكنها شهادة حية قادرة على
محاورة الطرح الأسطوري الذي ظل طوال الوقت يدفع بالحركة القرمطية إلى
حدود الأوهام التي تؤثث المشهد بالمزيد من التشويه، وهذا ما سوف توليه
المؤلفة قدراً واضحاً من التوضيح لبعض المفاهيم والحوادث التي تكرست
سلبياً بفعل نوايا مسبقة للنيل من الفكرة القرمطية، وتحويلها من كونها
الحوار الأول والعميق مع الدين باعتباره فعل محبة وعدل، إلى ظاهرة
انحرافية خارجة على الدين وجاهلة له، في حين أن من بين ما اشتهر به
القرامطة احترامهم للعلماء والفلاسفة والمفكرين. وقد اعتنت المؤلفة
بسرد جيد للجهد الفلسفي والفقهي الذي يوازي الاجتهاد السياسي والاقتصادي
للقرامطة. جهد يسعى إلى تأسيس تأويل انسانوي للنص القرآني يقوم على
تحكيم العقل والقلب. أكثر من هذا، فان القرامطة أبدوا تقديراً مميزاً
للفلاسفة والعلماء، وحرصوا على التحاور معهم واقناعهم بالمشروع القرمطي.
فليس من غير دلالة كون الحلاج، بشخصيته الغامضة، سيزداد وضوحاً وواقعية
كلما جرى تفسيره بوصفه قرمطياً حيناً وأحد دعاة القرامطة حيناً آخر.
وسوف تتحمس المؤلفة مع الاجتهاد الذي خلص إليه محي الدين اللاذقاني
بكون الحلاج (من خلال تقميش بعض المقاربات) هو حسين الأهوازي شخصياً،
ودليله على ذلك (إضافة إلى العناصر التاريخية المشتركة بين الحلاج
والفكرة القرمطية كموقف اجتماعي) كون الحلاج قد تنقل في رقعة عريضة
من الدولة الإسلامية جغرافياً، كما تعرض لعدد من التحولات على مستوى
الشخص الاجتماعي، وعرف بعدد مختلف من الأسماء، سيحسبها اللاذقاني بمثابة
الأسماء الحركية تتماهى حيناً وتفضح حيناً آخر. كما أوشك المتنبي أن
يكون قرمطياً حسب بعض منظورات التاريخ الأدبي. أكثر من هذا ثمة ما
سيضع الأمر في حدود القلق المقيم عندما يطلق أبو حنيفة، حسب مصادر
المؤلفة، تلك الفتوى التي تجوّز القتال بجانب القرامطة، مما يشي بأن
ما ذهبت إليه اجتهادات التأويل القرمطي للنص الإسلامي لا تنقض الدين
ولا تبتعد عنه، ولكنها تصدر من الجوهر الإنساني فيه، مما اطمئن له
الإمام أبو حنيفة.
|