( أيام )
الأثنين :
كان اللقاء زاخراً بالمكتشفات مثل مهرّج يتماثل للنوم دون أن يفعل،
كائنات تمسك النار من أطرافها، كمن يمسك أهداب شرشف السرير لكي يسوّي
الفراش لنوم آخر. ثمة من كان يتثاءب محاولاً رشوة المستقبل لئلا يتأخر.
قال أحدهم : لكن المستقبل يأتي على كل حال، الحلم والوقت كفيلان بذلك
، فلنجرّب نوماً ثانياً. استغرب شخص : لماذا إذن يتأخر بهذا الشكل،
إنني أجلس على جادة الطرقات طوال السنوات دون أن أشعر بحضور المستقبل،
ثمة خلل في التوقيت. قال الثالث : لا ، الخلل في المواصلات، فالمستقبل
يحتاج دائماً لمن ينقله إلى المحطة التالية، والمشكل أننا لم نزل في
المحطة السابقة دون أن نتأكد من العربة، هل جاءت وغادرت أم أنها لم
تأت بعد. التفتت الصبيّة ذات الرداء المزخرف : هذا شارعٌ مزدحم بالعربات،
هل تعرفون أي عربة بالضبط يتوجب علينا أن نستقلها؟ تبرع أحدهم بموعظة
الأعمى يكرز لكتيبة من العور : كان عليكم أن تقفوا في الرصيف على يمين
الطريق، فقد كفّت العربات عن التوقف في المحطات اليسرى، ثم إنكم لا
تكادون تلمحون العربة لسرعتها وبطء إدراككم، المحطات جميعها نقلت إلى
يمين الشوارع. استغرب المستغرب : لكن عهدنا بنظام السير يساراً، كيف
حدّث أن تغير ذلك دون إبلاغنا؟! صدرت قهقهة من شخص تبدو عليه علامات
الاستغراق في وهدة ما قبل النوم : من يعرف، ربما تحتم علينا أن نقف
في وسط الشارع لكي نجرب ما إذا كانت الحافلات قادرة على دهسنا بالفعل،
أم أن الأمر لا يعدو الترهيب والترغيب. صرخ بهم فتى متهور يفشل دائماً
في تصنع الرصانة : المستقبل لا يأتي وعلينا أن نذهب إليه. بُوغت البعض
بطرافة الصورة، هاهي البلاغة تتحكم في اللقاء. مستقبلٌ علينا أن نذهب
إليه ، لم لا، الفكرة جميلة ، والصورة أيضاً. نشبك أيدينا جميعاً،
ونشكّل حلقة كبيرة تسع الجماهير والحافلات ودواجن الحق العام وكتبة
قوائم الموتى ومتعهدي غسل الجثث والبكاء الذي يخدش العرس، ونزحف نحو
المستقبل، عندها لن يكون أمام المستقبل مفراً . ضربت المرأة بكفها
الطرية على الطاولة : لا أثق في من يقف بالمحطات، عليكم أن تشعروا
بالخجل لكل هذا الانتظار، ومن يرغب بقيادة رعاع الهيكل إلى المستقبل
عليه أن يرتدي ريشة الغراب وينساني، لدي طريقتي في الذهاب. التفت إليها
الجميع، يريدون أن يعرفوا طريقتها في الذهاب .. لكي يذهبوا. أثناء
ذلك أخذ النادل يوزع ورقة العناوين الخاطئة على الحضور، دائرة صغيرة
من الورق المقوى يضعها تحت أقداح الجعة التي يصفّها أمام الجميع. تنهض
المرأة باحثة في حقيبتها عن نظارة سوداء تضعها على عينيها وتنظر بتفاؤل
للمستقبل وراء زجاج النافذة، تدق بكعب حذائها الرشيق على قشرة الكرة
الأرضية وتترك المكان. ينسل الحضور واحداً وراء الآخر مغادرين، بعد
أن يرفع كل منهم قدحه ويتناول الورقة ذات العنوان الخاطئ، معلناً ثقته
الفائقة في أن الصواب ليس في العنوان لكن في الذهاب، ولا بأس إذا أخذت
العربة الخطأ، مادمت ذاهباً إلى المحطة الصائبة. كان اللقاء زاخراً
بالمكتشفات والمهرج في كوابيس اليقظة.
الثلاثاء :
أحب أن أستحضر أصدقاء الظل. أولئك الأصدقاء الذين يحافظون على حرية
الهامش حيث لا سطوة عليهم ولا تطالهم طبيعة الأقنعة. يحلو لي دوماً
أن أتأمل هؤلاء الأصدقاء وأصغي للهسيس الحميم الذي يمنحونه للروح وهي
منتعشة مثل وردة الصباح. لذلك عندما أقول أن الصديق القديم "عيسى
مطيويع " هو أحد العلامات النادرة غير الواضحة في حياة بعض من
يعرفه، سوف أعني أن عيسى مطيويع هذا قد شكّل بالنسبة لي لحظات ثقافية
غامضة، لم أزل أحتفظ بشيء من عبقها، في صورة الكتب المشحونة بملاحظاته
وهواجسه الأولى، مثل (حصاد الهشيم) للمازني، و(مرآة النفس ) للناقد
الأمريكي ليونل ترلنغ. وأذكر أن عيسى عندما كان يتألق محملقاً في لحظة
راهنة سوف يشطح بالشعر ليردد بيتاً للمعري إذا لم تخني الذاكرة، وهو
من شعر المعنى الذي يظل ماثلاً بين يديك وذاكرتك، كلما أردت أن تختزل
الوقت والمكان في الكلمات الأقل. يومها كنت أسمع منه الكلام كأنه يرسم
أمامي صورة الأزل. لقد كان هذا الصديق القديم يقول الكثير مما كان
يحفظه من المعري خصوصاً، وظني أنه عيسى كان مولعاً بفيلسوف المعرة
لأنه كان يخاطب العقل ويشحذ الذهن، مما يروق لصديقنا لأسباب عديدة
لا أستبعد أن يكون من بينها كون عيسى مدرساً للحساب آنذاك، ورياضياً
بارزاً في فريق الهلال لكرة القدم في ذلك الوقت، وقارئاً نهماً في
شئون الفكر والفلسفة، في الوقت الذي كانت حساسيته الاجتماعية والسياسية
عالية بحيث كان ينظر إلى راهن الحال بعين الصقر وبسالة المبارز. كان
ذلك في الستينات، يوم كنت أتعرف على أبجدية الكلام والكتابة، كان هو
يطلق ضحكته مثل ناقوس في ليل دامس، مردداً مع المعري :
(يسوسونَ الأمور بغير عقلٍ ويَـنْفُذُ أمرهم ويُقال
ساسَـة
وظني أن من يعرف عيسى مطيويع ويصادفه إلا ن سيسمع منه هذا البيت مجدداً،
لكي يتأكد لدينا اليقين بأن الشعر كان طوال الوقت هو الذي يرى أكثر
وضوحاً من الفكر والسياسة، ربما لأنه يصدر عن القلب، حيث الحقيقة العارية
.. وهي تخدش مشاعر وحياء القاطن والمسافر.
الأربعاء :
تستطيع أن تعطس أثناء انفجار السيمفونية الخامسة، وخصوصاً بين الدقة
والأخرى من دقات القدر . يمكنك أن تفعل ذلك بحرية ، دون أن تخشى غضب
بيتهوفن ، لأنه لن يسمعك أبداً.
الخميس :
لعلّك تعتاد الذهاب إلى السمك الطازج في هذا اليوم خصوصاً، لأن الأسماك
(مثل باقي الكائنات البحرية) تبدأ عطلتها الأسبوعية يوم الخميس ، مثلنا
تماماً، وفي العطلة يحلو للأسماك أن تبالغ في النزهة لدرجة أنها مستعدة
للخروج من البحر لترى العالم خارج الزرقة الغزيرة. وعندما يحلو لك
اصطحاب بعض الأسماك إلى البيت فسوف تشجع زيارة كائنات البحر لبيتك،
وكلما كانت السمكة طازجة وتتفلّت بين يديك وأنت تنقلها من قفة البائع
إلى جيب القميص، كلما أصبحت الزيارة مباركة مثل طفل يلثم وجهك بأحلامه
.
وسوف يكون الوقت قد فات حين تكتشف الأسماك أنها تقوم بنزهتها الأخيرة
.
الجمعة :
لم أزل نائماً ، ففي الليلة الماضية كان الكابوس لذيذاً لدرجة أنني
خشيت أن ينتهي باكراً، فأتحت له قسطاً من النهار لئلا يظن بي الظنون.
وها أنا لم أزل في الكابوس المكيف الهواء.
السبت :
من كتاب
(تنشيط الذاكرة لنسيان القاهرة)
(... وسلامي لعصام وعباس وأحمد وكل زمايلك الولاد والبنات، سلم لي
على جابر وعم محمد وجميع بوابي عمارات شارع مصدّق، وكمساري أتوبيس
21 اللي كان دايماً يعمل لنا مشكلة على الفكّة، وبعدين يدفع من جيبه،
وكان تملّي يقول أنه أول مرة يشوف ناس يركبوا الأتوبيس شُكُكْ . وما
تنساش بياع الجرايد على ناصية القصر العيني، اللي كان يعرف مواعيد
عمليات كل دكتور في المستشفى، وتبقى تقول لبتاع كشري نوسة الوحش إنه
وحش وبلاش يزوّد الدَّقَة اللي يضيّع بيها طعم طبيخه البايض، وحياتك
يا محمد ما تنساش كمان لما تشوف الشحات اللي كان واقف في حوداية جنينة
الأسماك من خمس وعشرين سنة، وكنا ندّي له جنيه كامل علشان يجيب عروسة
المولد لبنته العيانة، تبقى تقوله نهارك لبن. وكمان يا محمد سلم لي
على (مصطفى أبومش هنا) اللي ركب معايه التاكس لما كنت رايح (مستشفى
مورو) في الدقي سنة ،68 وحكى لي عن ابنه اللي راح اليمن يحارب ومن
يومتها مارجعش ، ولفّ عليه الكعب الداير علشان يرجعوا له ظناه ومحدش
راضي يسمع. وياريت تِـدِّي الواد الأسمراني شَخْطَ الله المكوجي 125
قرش الباقية له من يونيو 67 لما كان يقول : مش راح آخد منكم فلوس إلا
لما تخلص الحرب ونموّت اليهود كليتهم وتاخدوني معاكم أصلي في القدس.
أنا فاكر إن المكوجي كان في حته صغيرة في شارع السبكي جنب الرابطة
على طول، يمكن عم محمد يفتكر الدكانة الصغيرة عاليمين وانت داخل. وكمان
عايزك تفوت على ست سيدة أم نبوي اللي كانت تجيب العيش كل يوم الصبح
وتظل تطبخ لنا كل حاجة، وأنا اللي ما كنتش أقدر آكل عشان كنت لسه عامل
عملية وممنوع من الأكل، وكانت هي تعيّط، قال إيه علشان ما باكلش طبيخها
الفلَّلي ! أعمل لها إيه المجنونة دي، ابقى قول لها يا محمد إن طبيخها
لذيذ بس لو ما كانتش تنسى تقمّع البامية قبل ما تحطّها. وخلّي بالك
يامحمد، أمك موصياك الصبح لازم تحط المية البيضة على النار قبل ما
اتخش الحمّام علشان تاخد الشاي بالحليب قبل الدرس، عمّك أبو الفرج
الأصبهاني كان يعمل كده دايمآً، ويمكن علشان كده ماجابش سيرة في كتابه
عن طرفة بن العبد، الله لا يكسّبه. اكتب انت عنه بقى، وابقى سلّم لي
على الترمواي، واسلم لوالدك اللي فاضل شوية ويوقع ما يجيبش لا ملك
ولا كتابة. *
|