ليس أمام هذا الجيل الشعري الجديد من الأدباء العرب، المتأججة أحداقهم
نحو الأفق، إلا أن يعيدوا النظر في الأسئلة التي اقترحتها عليهم التجربة
الأدبية حتى سبعينيات هذا القرن. أو على الأقل أن يطرحوا أسئلتهم على
تلك الأسئلة. هذا هو قدر الجيل الراهن / القادم. فقد انطوت تلك الأسئلة
على اضطراب شديد، فرضته الطبيعة السياسية. والاجتماعية العربية التي
نشأت فيها أطروحات الحركة الأدبية السابقة. فها هو الجيل يتلقى حظه
الأكثر اضطراباً بما لا يقاس. والتوقف أمام الأسئلة السابقة، لا ينبغي
أن يفهم منه تقليلاً من شأن أصحاب تلك الأسئلة، بالعكس. ففي مثل هذا
العمل نوع من الاحتفاء الموضوعي بتجربة ليس لأحد أن يستهين بمعطياتها
نظراً وعملاً.
إن إعادة النظر، هو فعل حوار، يتجاوز الخضوع والقبول من جهة، ويتصل
بخصوصية الزمان ولحظة التاريخ من جهة أخرى. إعادة النظر هذه عليها
أن تتحقق لئلا يصل الجيل الجديد إلى ذات الأفق الذي تبشر به نهايات
تجارب منتصف القرن العشرين.. حتى الآن.. وهي نهايات لن يكون نكوص نازك
الملائكة واصطدام يوسف الخال بجدار اللغة، وعموديات أكثر من شاعر..
والهيام بسلطة المؤسسات (لكي لا نذكر الشعراء).. إلا صورة مختزلة ومباشرة
منها.
ولكي لا يفهم كلامنا بالسائد المتداول من التعبيرات، فإنني لا أرى
في هذا الواقع أزمة ما. على العكس، فكل ما يجري هو مظهر من مظاهر التحول
الطبيعي.. التحول الذي يشي بصحة في الجسد.. فالجسد الذي لا يموت لا
يعرف الحياة.. لا أميل إلى تسمية الأزمة. أحب أن أسمي ذلك موسم الولادة..
وإذا تمكن هذا الجيل الشعري الجديد من طرح أسئلته الخاصة، في مواجهة
الأسئلة السابقة، سوف يتيسر له أن يثبت جدارته بعبء الكتابة، فأهمية
كل جيل، ودليل مصداقيته يكمنان في قدرته على ابتكار أسئلته، وليس في
اجترار أسئلة سواه ممن سبقه.
وبلا شك أن في تجربة الجيل السابق الكثير من القضايا التي تظل بحاجة
للمسائلة والحوار والمراجعة، والنقض أيضاً.. فمثلما كان التراث القديم
جميلاً كلما صار تحت وطأة أسئلة الحداثة، لابد أن التراث الحديث سيبدو
أكثر جمالاً عندما نمعن فيه تنكيلاً بأسئلة لا هوادة فيها، أسئلة تشك
بأن كل شيء على ما يرام، عندما يتعلق الأمر بالكتابة.
ولعل الخطوة الكبيرة التي علينا أن نتجاوزها. هي خطوة اعتقاد البعض
بأن السابقين قد أعطونا أجوبة لأسئلة ناجزة، وما علينا إلا قبولها
كمسلمات.
فالجيل الذي يفعل ذلك هو جيل بلا ألسنة ولا صوت له.. علينا أن نتفادى
كل المآزق التي ذهب إليها السابقون.. وهي مآزق توهمها الكثيرون أنها
منجزات.. أو أجوبة مكتملة.
ليس في كل ما يكتبه الإنسان ما يسوغ قداسة ما. وليس هناك من هو محصن
ضد النقد والنقض.. بهذه الروح على الجيل الراهن / القادم أن يبادر
في تشغيل موهبته وإبداعه. لكن من المؤكد أن هذه الموهبة ليس لها أن
تحسن الشغل إلا إذا تسلحت بالمعرفة. خاصة إذا أردنا أن نكون مخلصين
لنبوءة جبران خليل جبران عندما قال ذات مساء مفعم بالألق، في بداية
القرن : (أقول لكم أنه لا ينقضي هذا الجيل، إلا ويقوم لكم من أبنائكم
وأحفادكم جلادون).
سيكون جيلاً جميلاً من الجلادين، هذا الذي يشحذ نصال موهبته الآن على
شفرة المعرفة. ينبغي أن نعاقب الموت بأسئلة الحياة.*
|