(1)
النص محاولة للتمثل الجسدي، لتجسيد حالات لم تعد الحدود الشكلانية
المعروفة قادرة على استيعاب حركتها غير المنظمة و المنفلتة من كل أسر.
فالكتابة، الآن، ليست استجابة لرغبة اتصال مشروط، و إنما لرغبة استحواذية
في التحول، واكتساب ذات خاصة و كينونة طاغية.
لا يأتي الكاتب، اليوم، ليقول عن الحالة، لكن ليصير الحالة. بمعنى
انه يشتغل علي تحويل الخوف - مثلا - إلى جسد ينبثق من تلاحم المفردات،
و ينمو في عصب الصور و العلاقات. جسد جديد شامل لا يبدأ هنا و ينتهي
هناك. جسد مفتوح مثل عذراء تغري بالهتك المرة تلو الأخرى.
النص، من هذه الشرفة، هو انتقال الفعل الأيروسي إلى نضال متألق في
الأجساد الامتناهية، المتمثلة في القارئ. فالقراءة، إزاء (مع) هذا
النص، ليست بحثا عن المعنى، بل ابتكار لمناخ تستدرجنا إليه عناصر مشتركة،
للكاتب فضل مؤآلفتها بجمالية جديدة، يجري اكتشافها.
(2)
يأتي الكاتب من حدود الشكل، إلى حرية الأشكال، إلى لذة المجازفة و
نشوة الاكتشاف، ليشهر جمالية المغامرة. و بما أن الكاتب لا يصدر -
في النص - عن تصور (مثال) سابق يقلده أو ينسج على منواله، فان مسؤولية
الإقناع الفني تتوقف، عندئذ، على طاقة الابتكار و الإذهال. حيث ينبغي
على الأدوات والعناصر الجديدة أن تكون قادرة على انتحال الشكل الأجمل
و الأكثر إثارة للدهشة. هذا الفعل يتشكل في كل لحظة : وقت الكتابة،
و وقت القراءة، من حيث هو شكل غير قابل لأن يكون نموذجا للآخرين، و
لا حتى للكاتب الذي اكتشفه.
كل نص يصير مادة خام أو نقطة انطلاق لنصوص أخرى قيد الاحتمال، إذ (لا
قداسة لشكل، و لا نموذجية لنمط) الكتابة لم تعد شكلا مؤهلا للثبات،
إنها حالة. و الحالات لا تتشابه، ولا تتكرر. و هذه الفرضية تتضمن خطورة
اقتحام تجربة النص بأدوات قاصرة، و عناصر مرتبكة.
(3)
منذ سنـوات، بدأت الأنواع الأدبية تتداخل بدرجات اقتحامية، متفاوتة
الــوعي والتجربة، فارضة مؤآلفة فنية بين الحد و الآخر، حتى لكأننا
نلحظ كاتب القصة يضج بالمواصفات التي يتطلبها فن القص، متطلعا إلى
آفاق أبعد من تلك المواصفات، و يفتح في نصـه ثغرات تنشأ فيها القصيدة
بجماليات تداهم التجربة، و تفاجئ القارئ معا. و من جهة أخرى، ربما
رأينا الشاعر يجد في السرد و الحوار و التأمل الفلسفي عناصر تنطوي
على طاقة تعبير لا تقل شعرية عن جوهر الشعر.
و لعل الأمر بالنسبة للشاعر، سيبدو أكثر تشويقا، فالمسألة لم تعد،
بالنسبة له، محصورة في شرط النثر و الوزن، إنما تتجاوز ذلك لتصبح متصلة
بالمفهوم العام لأدبية الكتابة، وحدّها الإبداعي، كضرب من التعبير
اللغوي، الذي صار طموحه متمثلا في محاورة أشكال الحياة و مكوناتها
الحارة.
من هنا، جاء الكلام على النص، مشوبا بخلل الكاتب المتردد إزاء الأشكال،
(أو الخاضع لاشعوريا لها). و مرصودا لتحفظ القارئ أمام أي خروج عن
شكلانية النوع، ذلك القارئ الذي يسأل عن (نوع) هذا النص، أو يبحث عن
المعنى (القصدي) الذي يريد الكاتب قوله. و في هذا مصادرة مزدوجة ستفسد
التجربة، مادام الطرفان خاضعين لذلك الخلل.
ينشأ النص من تألق الشعر في الكتابة. و من تصاعد الأنواع جميعها، مثل
لهب المواقد، لتلتقي في أتون جامع، بحيث لا يعود الحوار إلا انزياح
لحالة السرد الشعرية، ليبدو المشهد كما لو أنه سياق قصصي يقصف سلطة
الراوي، و ينداح بلغة ثاقبة مثل تجليات راءٍ.
(4)
انه فضاء افتتــان.
الافتتان هنا في اتجاهين معا :
حالة الكاتب مفتونا بلحظة الكتابة، فيما يكتشف الآفاق اللامحدودة،
حيث تفجر طاقة الجمال في فعل اللغة، عندما يتم إطلاقها من إسار الشكل.
وحيث يشعر الكاتب بحرية الذاهب في سديم اللغة، و خطورة (ضخامة المسؤولية
في) الخلق، و إعادة الخلق في جحيم هذا السديم الدائم التألق مثل جنـة.
و افتتان الكاتب هنا ليس سوى تحقيق لحالة الامتزاج المتبلورة لطرفي
الموهبة و المعرفة معا.
و حالة القارئ مفتونا برعشة الملامسة الأولى لكتابةٍ لا تزعم الجدة،
لكن تذهب إليها بعناصر لا تخذل. تذهب مثلما العاشق يكتشف جسد حبيبته
للمرة الأولى. فيصاب بالسحر. *
|