المحاورة

(في مملكة الفكر،
انعدام الحذر هو الطريقة)
غاستون باشلار

(1)

بسبب من الطبيعة الاستقبالية التي يتميز بها مجتمعنا، باعتباره مجتمعاً استهلاكياً بالدرجة الأولى، نجد أنفسنا غالباً معرضين لحالة من الانبهار بإنتاج المجتمعات (المتقدمة) على كافة الأصعدة، سواء أكان هذا الإنتاج اختراعاً علمياً أو إسهاما فكرياً وفلسفياً. ونحن نتعامل معه كفعالية متقدمة أنتجها إنسان غير عادي. وبالتالي يأتي تعاملنا مع هذا النتاج متخلفاً هو الآخر. إننا، مثلاً، نستخدم جهاز الفيديو لكن بعد أن يصيبه عطل ما، نعجز عن اكتشاف سبب العطل، دعك من إمكانية إصلاحه. ليس هذا فحسب، بل إننا ربما لسبب (حضاري؟) أيضاً، سنكون في عجلة من أمرنا، بحيث نسارع إلى شراء جهاز جديد آخر، ومثل هذا السلوك يصدر عن لا وعي تاريخي / ثقافي، بأن الشيء الحي إذا تعطل فهذا يعني أنه (حياته) قد توقفت ولا يمكن إعادتها (استعادتها)، تماماً مثل الحصان أو أي حيوان آخر. ولابد من شراء (أداة) أخرى. إن فلسفة الآلة لم تدخل في بناء حياتنا اليومية بعد، برغم السنين الطويلة التي أتاحت قدراً كبيراً من الاتصال بالعلم الحديث والدراسة المتقدمة. ربما لأن مسألة العلم ذاته تحول في مجتمع الوفرة إلى نوع من أنواع الترف. فبالإضافة إلى رغبة القوى العالمية المنتجة في أن يظل مجتمعنا مستهلكاً، فإن أقصى ما تسمح به المنظومات الفكرية التقليدية والسلطوية المهيمنة (إذا سمحت) للإنسان العربي هو أن (يعلم) لا أن (يعمل). وهذا ما يمنح ترسباتنا الموروثة والسلبية فرصاً أكبر للتحكم في سلوكنا إزاء المعطيات الحضارية.

(2)

وعلى صعيد الثقافة والفكر فإن الأمر سيبدو أكثر تعقيداً وخطورة فإن (استقبالنا) لمعطيات الفكر الآخر يكاد يكون منشطراً إلى موقفين متناقضين حد الهلاك.
* الأول : يرى أن أية فكرة أو نظرية أو فلسفة يبتكرها الإنسان الآخر، غير العربي (وربما غير المسلم خاصة) هي نتاج عدو، لا يمكن أن يصلح لنا بأي قدر كان، وينبغي أن نمنح حضوره في حياتنا، بل ربما بذلنا أموالنا وجهدنا ووقتنا لمحاربته أيضاً، بدل أن نمنح أنفسنا فرصة مناسبة لاكتشاف هذا الفكر، ومعرفة ماذا يريد أن يقول هذا الجهد الإنساني للحياة. وهذا الموقف سوف يفوّت على الثقافة العربية دوماً (إذا هو استطاع حقاً) فرصة الاتصال بفعاليات إنسانية من شأنها أن تفني تجربتنا، حتى وان كنا على خلاف من حيث النظر للأمور. والادعاء بأن تلك أفكار تهدد مجتمعنا، فذلك ملام يشير إلى خلل محتمل في البنية الفكرية لدى الذين يخشون التعامل مع الأفكار.
* الموقف الثاني : سوف يذهب إلى الطرف النقيض، فهو غالباً ما يقع ضحية ذلك الانبهار الناتج عن الاستعداد المتخلف تجاه الفكر الآخر. استعداد يجعله يؤممن بأن كل ما ينتجه الإنسان في المجتمعات (المتقدمة) من الضروري أن يستقبله باطمئنان، ويذهب بعض هذا الموقف إلى حد (اقتناء) هذه الأفكار والفلسفات بصورة مطلقة. ويباشر في تلبسها وتطبيقها في حياته دون أن يتخذ موقفاً حوارياً نقديا منها : ومثل هذا السلوك ربما تناقض مع طبيعة الأفكار نفسها. ففي المجتمع الحضاري يرتبط كل شيء بالعقل، وأية فعالية إنسانية لابد أن تتصل بقدرة العقل على التحليل والنظر والحوار والاكتشاف والتجربة والاقتناع و الاقتناع. وعديد من تلك الفلسفات والأفكار ينبغي أن تكون قد اجتازت مالا يقاس من الحوار والجدل بين اجتهادات كثيرة مختلفة، قبل أن تصل إلى صيغتها التي وصلت بها إلينا. وحتى الآن تظل هي أيضاً قابلة موضوعياً، إلى أية اجتهادات عقلانية يمكن أن تطرح يوماً بعد يوم.

(3)

وسوف يكون الأمر أكثر دقة إذا أخذت الفلسفات العالمية طريقها إلى حياتنا، في مناخ اجتماعي ورث غياب طبيعة الحوار والنقد وحرياتهما. وإذا راح البعض يتعامل مع تلك الاجتهادات العلمية والفلسفية بمعزل عن النظر النقدي الذي تتطلبه طبيعة العمل الفكري.
ليست تلك الأفكار محصنة ضد النقد. فمادام منتجه بشر مثلنا، فمن المتوقع دوماً أن نكون قادرين على محاورتها ونقدها وتطوير منظوراتها في ضوء طاقاتنا الذاتية. فليس ممكنا استقبال أي عمل فكري والنظر إليه كمسلمات.
وليست هناك مواقف نهائية في مجال العلم والفلسفة، كما هو الحال في طبيعة الحياة المتغيرة، إن موقف الاستقبال السلبي تجاه تلك الفلسفات يجسد موقف العبد أمام فكر السيد، ذلك السلوك الذي ظل الاستعمار الأجنبي يكرسه في المجتمعات المتخلفة من خلال هيمنته التاريخية. وهذا ما نخشى أننا لم نزل نقع تحت سطوته، بسبب استعدادنا التاريخي لتلقي الفكر. فمثلما كنا طوال تاريخنا نتلقى (النصوص) دون أن يكون لنا حق محاورتها ومساءلتها والشك فيها ونقضها. نجد أنفسنا الآن عرضة لتلقي النصوص الحديثة والخضوع لاطروحاتها باستسلام.

(4)

بهذين الموقفين سوف نقع دوماً ضحية التخلف المركب. أحدهما يرجع إلى الوراء، والآخر يذهب إلى (الأمام) هارباً عن طبيعة لخطته التاريخية والموضوعية، وسوف نخسر كل الاحتمالات التي تم شأنها أن تغني تجربتنا الفكرية والإنسانية.
إن معطيات الفكر الإنساني لا تطلب منا استسلاماً لها. بل إنها لا تقوم على مثل هذا الاستسلام في جوهرها الجدلي. فجميع ما ينتجه الإنسان هو في خدمة الإنسان، ورهن قدراته العقلية، دون المبالغة في تقدير المسألة.
وينبغي التأكيد هنا، إلا أننا لا نشير إلى اتخاذ موقف وسط بين كافة الاجتهادات الفكرية والفلسفية والتوفيق بين هذه المواقف. ليس هذا وارد في رؤيتنا. إضافة إلى أنه لا يشكل حساً علمياً في هذا المجال. إن ما نميل إليه هو ذلك الموقف الحضاري من الأشياء. أي محاورة كافة المعطيات الإنسانية واكتشاف آفاقها والاستعداد دوماً لنقدها وبلورتها في ضوء رؤية موضوعية تصدر عن حاجاتنا المعاصرة.
أمام الحقيقة، ليس هناك مجال للموقف الوسط، الحقيقة دوماً واضحة وحاسمة وثورية أيضاً. ونحن عندما نميل إلى ممارسة الدور النقدي في مواجهة الفكر الإنساني، لا نعني سوى الاتصال بجوهر تلك الحقيقة الأزلي : تشغيل العقل، وهذا أحد شروط الحداثة.
وفي مجتمع يتطلع للنمو من جهة، وتحاصره شروط الاستهلاك من جهة أخرى، سيكون أمام العقل مهمات غاية في الخطورة. ولعل حرية العمل الفكري واحدة من أهم وأخطر العناصر التي لابد من توفرها في مجتمعنا. فربما يكون هذا هو الشرط الديمقراطي للتنمية الإنسانية.*

الأحد 17 أغسطس 1986

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى