هيام الوعظ

لماذا كل هذا الهيام بالتعليم والوعظ بواسطة الشعر ؟ لماذا ينبغي علينا دوماً أن نتوقع من القصيدة كلمة أخلاقية أو درساً في التاريخ أو توجيها سياسياً؟
هذه المسألة ستظل تشكل إفسادا مستمراً للتجربة الشعرية العربية ما لم يتم التعامل معها بأقصى درجات الوضوح النقدي والصراحة الأدبية.
ليس الشعر وسيلة للإعلام، إنه فن، فحسب، والقيمة (الإعلامية) التي ارتبطت بالشعر العربي منذ تاريخه (الجاهلي) لابد من اكتشاف بطلانها في العصر الحاضر، لقد ورثنا نظرتنا الغائية للشعر منذ أن كان الشاعر العربي القديم جهاز إعلام للقبيلة يمدحها ويهجو لها، ويشحذ لها حماسها، ويخبر الآخرين عن أخبارها، ويشرح مشروعها للقاصي، والداني، وهذا ما يرشح ذلك الشاعر لأن ينهض بمهمات غالباً ما تكون خارج مهماته الإبداعية، وهذا بالضبط ما جعلنا نتعثر بركام كبير من الشعر العربي الذي يفشل دوماً في الحضور الإبداعي مقابل قصائد كثيرة أخرى استطاعت النجاة من سطوة فعل الإعلام حيث كان الشاعر في تلك القصائد وحيداً وحراً من (الوظيفة).
وقتها لم يكون لدى القبيلة وسيلة إعلام غير الشاعر، وقد استمر ذلك في العصور اللاحقة، وتعرض المجتمع العربي إلى تطورات حضارية ملموسة، وتوفرت للإنسان العربي آليات عملية دخلت في صميم حياته، ومن بينها تلك الأشكال والأدوات الإعلامية التي لم تكف عن التطور بوتيرة غاية في السرعة، ولكن كعادة البناء التاريخي للعقل العربي ظلت درجة التغيير في الواقع متفاوتة إلى حد التناقض.
فعندما تدخل أدوات الحضارة إلى حياة الإنسان العربي، من المتوقع أن تبقى طريقة تفكيره مرتبطة بالماضي حيث ذهنية التراث هي المتحكمة بقوانينها في أشكال النظر وأنماط التفكير، ليبدو لنا سلوكاً هجيناً، في أحسن الأحوال، وهكذا يبدو المجتمع العربي يرفل في معطيات الحضارة الحديثة فيما هو أسير قوانين النظر الموغلة في الماضي، وعلى صعيد الشعر ستبدو قوانين الماضي هي المتحكمة في القارئ والناقد عند مواجهة النص الشعري الحديث.
ومن أبرز قوانين النظر القديمة في مجال الشعر المسألة الإعلامية في الشعر. وسوف تحضر هذه المسألة في أشكال نقدية مختلفة. فبالرغم من التطورات الهائلة في وسائل الاتصال والإعلام، إلا أنه لا يزال هناك من يتعامل مع القصيدة باعتبارها (صوت القبيلة)، وان بأشكال جديدة. فالذين يريدون الترويج لحكم أخلاقية، أو نشر أفكار سياسية، أو مواقف اجتماعية من خلال القصيدة، كل هؤلاء سوف يقعون في فشل سريع وهزلي أيضاً، فإنني أستطيع أن أتصور كيف تستطيع القصيدة أن تسابق أجهزة الصحافة والإذاعة والتلفزيون عندما تزعم أنها تريد أن تعظ القارئ أو توجه إليه فكرة ما، وما هو حجم الدائرة التي ستصل إليها القصيدة، قياساً للدائرة التي ستجتاحها أجهزة الإعلام الحديثة؟!
* أن تعبر فنياً عن طريق القصيدة مسألة تختلف كثيراً عن رغبتك في التعليم والوعظ، فأنت تستطيع أن تنشر مواعظك بأشكال عديدة ستكن حتماً أكثر فعالية وجدوى من القصيدة، لكنك إذا استخدمت القصيدة لهذه المهمة، سوف تخسر الاثنين : قضيتك وقصيدتك، لأن الوسائل الإعلامية الأخرى سوف تسبقك وتتركك تلهث متمرغاً في تخلفك.
من هنا يمكن أن نفهم دعوة الذين يطالبون الشعر أن يكون(مفهوماً) و(واضحاً) و(موضوعياً)، تماماً مثل نشرة الأخبار وخطبة السياسي، وموعظة الداعية.
فالمطالبة بالوضوح في القصيدة، لا يعطي أهمية لشرط الفن الشعري، بقدر ما يبجل رغبة الوعظ، حيث كل شيء ينبغي أن يوظف في سبيل المشروع الأخلاقي أو السياسي أو الاجتماعي، ومثلما تتكرس أحهزة إعلام الدولة والحزب والمنظومة الاجتماعية لخدمة منظوماتها، ينبغي أن يدخل الشعر هذه المهمة بكل استسلام. تماماً ملثما كان الشاعر القديم يقوم بدور جهاز إعلام القبيلة. بالرغم من أن محطة تلفزيون واحدة كفيلة باكتساح آلاف القصائد التي يمكن أن تكتب بهدف الترويج لفكرة سياسية أو موقف اجتماعي.
الشاعر الآن سيبدو ضعيفاً جداً إذا هو حاول منافسة أجهزة الإعلام الواسعة الانتشار، سريعة الاتصال، والهيام السائد بتعليم القارئ عن طريق الشعر سوف يخرب تجارب شعرية كثيرة، ويفسد علاقتها القارئ أيضاً. فالقارئ الذي يشاهد ويسمع أجهزة الإعلام الحديثة يومياً، لا يتوقع من القصيدة أن تفترض سذاجته وتقدم له موعظة في السياسة والأخلاق. وإذا نحن فهمنا أن يكون الشاعر( وسيلة إعلام ) في مجتمع متخلف، لم تتوفر فيه أجهزة الاتصال أو الإعلام، كيف يمكننا استيعاب أن يستمر الشاعر كذلك في مجتمع حيث يكتظ بكل ما هو جديد ومبتكر من وسائل الاتصال والتعبير والإعلام ؟!
الشاعر في القصيدة يقدم تعبيراً فنياً، وليس تفكيراً منطقياً.*

الأحد 18 يناير 1987

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى