(1)
* أن تلتقي صديقاً اقتسم معك القيد والقصيدة. فان هذا يجعلك مأخوذاً
بالعبء الذي يخلقك يوماً بعد يوم. أن تلمس بيديك وقلبك حرارة جسد عبرت
عليه مختبرات العسف واشتعالات الكتابة، وتشعر به متحولاً وشامخاً.
فإن هذا يجعل الدفء يتدفق في أوصالك التي يحاصرها البرد وترصدها الاحتضارات.
هكذا، كلما جاءني طائر من صديق يباهي بوجع الكلمة وكلمة الوجع، ازداد
يقيناً بأن الكتابة ليست نزهة المحارب، ولكنها شهوته وعذابه في آن.
فالذين عبروا ويعبرون ممرات القيد والقصيدة، sمتشبثين بفروسية الأمل
وبسالة الحلم، يمنحون أعضائي ملكة التألق ومحتمل الازدهار. هكذا، كلما
جاءني طائر.
(2)
وهكذا، في كل عذاب يتصل بالوطن والكلمة، يحضر (الأخضر بن يوسف) هذا
الشريد الذي نحب. يحضر مهلهل الأطراف، مجنون الجوانح، مهتاجاً كأنه
في العشق.. في تاج العشق. فنشفق معه عليه، على أنفسنا، ونريده أن يعرف
بأنه ليس وحده، إننا معه بشكل ما. نتسقط شظاياه مثل كمأة خلفها مطر
غزير واحتضنتها تربة مهتوكة. ونشفق مثل أرض ثاكلة فقدت أجمل أحبابها.
مرة قال، هذا الأخضر بن يوسف،(لماذا نبني بيتاً ونسجن فيه.. آه ما
أقسى الحياة). وقتها كان الهيكل يتداعى على أصحابه : من بناه بسذاجة،
من بناه بحسن نية، من بناه بريبة الملدوغ، من بناه باحتمال المؤامرة،
من بناه باستسلام السبايا، من بناه برغبة الحياة. وكلهم بناة تعرضوا
لانهيار أسطوري. وكان سؤال الأخضر بن يوسف نبوءة تتحقق مثل سكين في
الكتف.
لكن أن أنت الآن. نتذكرك في كل منعطف وملتقى وحوار، فلا ينعطف نحوك
الوقت، ولا نلتقي بك في الأعراس الجنائزية، ولا نتمناك في مزار. ويوم
جحيم الجنوب وضعناك في قائمة الأسئلة الحميمة.
نريدك أن تعرف أنك لست وحدك. ربما لأن الوحدة تقتلنا، ربما لأن الأكتاف
(المصابة بالسكاكين) كلما تبادلت الأنخاب في سهرة المحبة ازدادت تألقاً
ومقدرة على الترنح.. يا أخضر. أينما كنت، اقبل أكتافنا.. ولا تغفر.
* * *
(آه يا أم، هذا العذاب لم يعذب به أحد )
( اونغاريتي )
الأحد 24 أغسطس 1986
|