( الأشياء كل لحظة في
خلق جديد )
صدر الدين الشيرازي
(1)
عندما نقرأ نصاً أدبياً(قصة أو قصيدة مثلاً) فنحن أمام تجربة ما،
تتمثل في فعل القراءة. وهذه التجربة تكاد تكون أكثر حساسية من التجربة
التي يكتنز بها النص ذاته.
الآن ليس ممكنا أن نقبل الوقوف أمام النص الأدبي نفس الموقف السلبي
الذي كرسته النظرة السابقة للقارئ، ليس من مصلحة النص الجديد أن يتوجه
إلى سلبية القارئ، (أو يفترض هذه السلبية) لأن مثل هذا الموقف سيعرض
النص إلى إحباطات مختلفة.
النص الجديد يستدعي قارئاً مغايراً، قارئاً لا يستقبل مستسلماً، ولكنه
يقف من النص في الموقع المتكافئ من حيث القدرة على الحوار.
والكاتب حين يكتب نصه متخيلاً قارئاً أقل منه كفاءة في مجالي المعرفة
وحق طرح الأسئلة، سوف يرشح تجربته لفشل محقق. النص الجديد لا يتجلى
في الحياة إلى عن طريق قارئ يمتلك فعالية.
وهذا بالضبط ما يمكن أن يشكل نوعاً من الإبداع المتصل مع إبداع الكتابة.
هذا القارئ، يتكون، كجمهور، ببطء، وفي ظروف غير مؤاتية، إنه نقيض الاستهلاك،
ويشق طريقه إلى معايشة التجربة الأدبية الجديدة بصعوبات عديدة، لكنه
سيظل يشكل عنصراً أساسياً وفعالاً في عملية الخلق الأدبي الجديد.
في مجتمع استهلاكي أشياء كثيرة تأتي سريعاً. لكنها تذهب سريعاً أيضاً.
القارئ الجديد يعرف الطريق جيداً، وهو ليس في عجلة من أمره. المستقبل
له.
(2)
القارئ الإيجابي إذن، هو الذي يمتلك استعداداً لأن يحاور النص، وأن
يتكافأ معه في المعايشة. يقدر أن يكشف العناصر المكونة لمناخه الموضوعي
والفني، ويكون في الوقت نفسه قادراً على خلق النص مع الكاتب، وإعادة
الخلق أيضاً.
القارئ هنا لا يستقبل(أو يقبل) ما يقترحه عليه الكاتب بل يتفاعل مع
النص.. خاصة إذا كان - هذا النص - لا يقدم موضوعاً أو فكرة أو معنى
واحداً، وإنما يقدم مناخاً إنسانياً يزخر بما يمكن أن تزخر به اللحظة
في حياة الإنسان، هذه اللحظة ليست أحادية الجانب، جامدة المفهوم، قصيرة(ضيقة)
الرؤية، حياة الإنسان ليست كذلك على الإطلاق، إنها عالم متشابك في
الانفعالات والهموم والقضايا. النص يقترح شكلاً من أشكال النظر إلى
هذه اللحظة في، صيغة مناخ أو حالة.
وكلما استطاع القارئ أن يكتشف ويكشف عن آفاق جديدة تغني تجربة النص،
كلما تيسر للنص أن ينمو في الواقع. ولعل تعدد المستويات الدلالية في
النص وتبلورها في تجربة القراءة، يتوقف دوماً على درجة النجاح التي
يحققها النص الأدبي على صعيد تجربته الفنية، فللشكل التعبيري دور،
يكاد يكون حاسماً، في تفجير الطاقة الإبداعية لدى القارئ.
إن الشكل الفني هو الذي يجعل القارئ مستجيباً لشهوة الاكتشاف واقتحام
تخوم الآفاق التي يشير إليها النص.
(3)
إن المعنى(المفترض) الذي يقترحه النص للوهلة الأولى، هو أحد الاحتمالات
الكثيرة التي يمكن أن يتفاعل معها القارئ. لكنه ليس المعني الوحيد
أمامنا. النص الجديد لا يقدم معنى معطى. لكنه يقدم دلالات وإيحاءات
ومجازات. وكلما استطاع القارئ أن يصل إلى بعد جديد في النص، استطاع
النص أن يحقق طموحاً ما. دون أن تتعارض مسألة تعدد مستويات المعنى
مع الموقف الجذري لرؤية النص إلى القضايا الرئيسية في الحياة. لأن
المناخ الذي يتحرك من خلاله النص ينبغي أن يكون كفيلاً بتحديد طبيعة
الرؤية التي يصدر عنها النص، وبالتالي التجربة الإبداعية ككل. حيث
تكون متصلة بمواقف مبدئية لا تغيب عن وعي الكاتب (ولا وعيه) لحظة الكتابة،
لأنها متبلورة في ممارسته الفنية، بعيداً عن الافتعال أو المباشرة.
(4)
القارئ هنا هو الذي يخلق النص ويحرض على إعادة خلقه، فليس النص مادة
محصنة ضد الشك والأسئلة. إنه اقتراح فحسب. وعلى القارئ أن يحاور هذا
الاقتراح، يتناقض معه، ويرفضه أيضاً.
وعندما يفشل النص في لحظة ما، لا يعني أن ذلك حكم بفشل الكاتب. إن
تجربة التعبير تنطوي على محاذير عديدة إذا هي افترضت مسبقاً بحتمية
نجاح معطياتها. إنها محاولة فحسب. وبالمقابل فإن القارئ هو الآخر ينبغي
أن يصدر عن وعي بضرورة مجابهة النص برغبة امتحان الكفاءة المزدوجة
: موهبة الكاتب وهو يكتب، وموهبة القارئ وهو يقرأ. فشل أحدهما ليس
فشلاً للتجربة، فالتجربة ليست النص. إنها هذه العلاقة المتألقة بين
خبرتين تمنحان الكتابة احتمالات حية وغنية.
الأحد 31 أغسطس 1986
|