(4) المحلية إمكانية للعالمية وليست شرطاً
إن الأدب لا يكون قادراً على التطور والثراء التعبيري إلا إذا كان
متصلاً بتجارب أدبية أخرى، في دائرة أكثر اتساعاً، وكان أيضاً منفتحاً
برؤياه الفنية والفكرية على آفاق أرحب، بمعنى أنه قادر على الانطلاق
من مخيلته من خلال رؤية إنسانية وكونية شاملة تساعده على الاتصال بالتجارب
الأخرى، إنسانيا وفنياً.
من هنا نحن لا نستطيع الكلام عن (أدب خليجي) بالمعنى الفني والإبداعي،
إلا بوضعه في سياقه العربي، وبالتالي العالمي، أما إذا أردنا الكلام
عنه بالمعنى الجغرافي، الإقليمي لهذا المفهوم، فسوف نضطر لأن نجعل
هذا الأدب (الخليجي) هو حكم القيمة لذاته، أي أنه لا يرقى لأن يوضع
في سياق الأدب العربي (مثلاً)، مادامت شروط القيمة مرتبطة بأفقها المحلي،
وبعناصرها البيئية والجغرافية، مع قدر قليل من العناصر الفنية المحلية
المحدودة، وبهذا نكون قد حصرنا تجربتنا في الحدود التي قد تتصل بالجغرافيا
والفلكلور، ولكنها قطعاً لن تكون نابعة من الفن والإبداع الإنسانيين،
ولن تقدر هذه التجارب علي تجاوز ذاتها، مادامت تخضع لوطأة هذه الشروط،
ولعل تجارب عالمية وعربية كثيرة تؤكد بأن المحلية ليست شرطاً، ولكنها
إمكانية فحسب.
* إن (مائة عام من العزلة) لا يمكن لأحداثها أن تتحرك (واقعياً) إلا
في نفس البيئة التي صاغها ماركيز ولكنه (رمزياً) ستحتمل الحضور في
أماكن كثيرة في العالم، وهي لم تستمد أفقها الإنساني إلا بسبب درجة
وعي الكاتب لمحاذير الارتهان للبيئة المحلية. لذلك فهو عندما كتب بيئته
كان قادراً على الاتصال بخلاصة التجربة الفنية والإبداعية، ليس في
عموم أميركا اللاتينية فقط، ولكن في الرواية العالمية أيضاً، مما جعل
روايته قادرة على تأكيد ما يسمى الواقعية الخيالية كمنظور نقدي استحدثته
التجربة.
وربما وعي التجربة العالمية هو الذي جعل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)
للطيب صالح عملاً إبداعيا متجاوزاً لكل من آليات الرواية السودانية
مقتحماً الرواية العربية بجدارة، لأن شرط القيمة الفني، لم يكن بالنسبة
له مقارباً بيئياً ولا جغرافياً، لكنه شرط إبداعي يختصر التجربة العربية
في مجال الرواية ويخترقها في آن.
وهذا ما يؤهل العمل لأن يتبلور فنياً، دون أن يتخلى عن محليته لكن
- أيضاَ - دون أن يقع في شرائك متطلبات طارئة لأية مشاريع سياسية أو
إعلامية تدفع به إلى الفلكلور.
* ويمكننا أن نقيس على ذلك تجارب عديدة في مناطق أخرى في البلاد العربية
فعندما يقدر الكاتب على تحقيق اتصاله الرؤيوي بالواقع العربي الشامل،
فإن هذا سيسهم في توجيه طاقته نحو التطور، وعندما يتجاوز المفاهيم
المحلية الضيقة سوف يمنح قضيته الاجتماعية عناصر فنية متألقة، وهذا
ما نعنيه تماماً حين نتوجس خطورة التقوقع في حدود الشرط المحلي في
العمل الأدبي، والذي تؤدي إليه الدعوة المبالغ فيها (والرائجة في السنوات
الأخيرة) نحو صياغة هوية خليجية للأدب في هذه المنطقة.
شخصياً، لا أستطيع أن أشعر بحريتي عندما أكون مجبراً على التعامل
مع نص شعري (أو قصصي) في ضوء البحث عن عناصر هويته الخليجية، لأن هذا
السلوك سوف يجعلني أقطع العلاقات التكوينية التي تربط هذا النص كتجربة
إنسانية بعموم التجربة العربية كفعالية تاريخية وإبداعية.
وربما وقعت في إلغاء فاجع لمحتملات الطاقة التعبيرية لهذا النص إذا
أنا خضعت للنظر إليه من خلال الأفق الضيق، المرتهن بسمات الهوية الخليجية
الموهومة.
* نقترح أن نتوقف عن تكريس مفهوم خلجنة الأدب، أو البحث في تأسيس
منظورات متهالكة في هذا المجال لأن الأدب لن يتمكن في هذه المنطقة
من التطور والارتقاء إلا إذا اتصل بالآفاق العربية والإنسانية، بمعزل
عن أوهام المحلية، وإذا نحن لم نتدارك هذا الانجراف فسوف نجد أنفسنا
أمام أدب إقليمي قاصر ومسخ.
لقد دفع بنا المجتمع الاستهلاكي والقيم الاستهلاكية أيضاً إلى شفير
أوهام أصبحت تهدد بتخريب الفعاليات الثقافية والأدبية التي تبحث عن
مساراتها الفنية الجديدة.
ونعتقد أنه من الضروري أن تخضع للنقاش كافة المصطلحات التي روّجت
لها الصحافة على الصعيد الثقافي صادرة من مفاهيم ومشاريع لا ينبغي
أن تتدخل في العمل الإبداعي، فإن مراجعات كثيرة علينا أن نمارسها عبر
أوسع دائرة ممكنة من الحوار، لنتأكد أن ما نتداوله من قيم ومنظورات
قادرة حقاً على مجابهة المستقبل أم لا ؟! *
|