|
(2) ماذا تقول أوهام الجغرافيا ؟!
- كما أشرنا في مكان سابق، بأن الكلام الذي يجري عن (أدب خليجي)
سوف يشعرنا دوماً بأن المشروع السياسي يريد أن يوظف الأدب كوسيلة
إعلامية من جهة، ومعرضة لمحاذير تاريخية - اجتماعية من جهة أخرى،
وهذا ما يتناقض مع طبيعة الثقافة والأدب عموماً.
وعندما طرحنا سؤالنا حول إمكانية وجود (أدب خليجي) بملامحه المختلفة
وهويته المتميزة عن الأدب العربي، كنا نتوجه نحو كشف أحد الأوهام
التي لهجت بها (ثقافة) النفط، صادرة عن تورم اقتصادي حسبه البعض
صحة وعافية، وهم يمكن اعتباره بعض معطيات الظرف الراهن، حيث يحاول
البعض جعل الأدب (سبباً) لتحقق نجاح مشاريع التكامل في حين أن الأدب،
باعتباره إبداعاً، لا يرتبط بالمشروع السياسي، ولا يستجيب له بهذه
الميكانيكية.
لكن يبدو أن هناك من سوف يسرع إلى الزعم بأن هذا ممكن، ومطلوب أيضاً،
وربما صور هؤلاء عن وهم جغرافي أكثر منه احتمال تاريخي اجتماعي لطبيعة
هذه المنطقة.
لكننا عندما نواجه التجربة الأدبية بعناصرها الواقعية، سنشعر بالارتباك،
وربما اتسم عملنا بالتلفيق على الصعيد النظري، وبالتناقض على صعيد
الواقع.
- ويمكنني الإشارة إلى مثال نظري قريب (إذا سمح لي أصدقاء حميمون)
حيث التبس علينا الأمر خلال ندوة نظمتها (الوطن) قبل بعض الوقت،
وشارك فيها بعض أدباء ومثقفون من المنطقة، فبعد أن كان موضوع الندوة
هو الحداثة في أدب هذه المنطقة، بقينا معظم وقت الندوة نحاول جميعاً
تحديد ما إذا كان مناسباً القول : الأدب الخليجي، أو الأدب العربي
في الخليج. وبدورنا في مواجهة معضلة تنظيرية لا يحسدنا عليها أحد.
حتى أن بعض المشاركين في الحوار استكثر أن يأخذ مثل هذا الموضوع
كل وقتنا. فقد كان النقاش نموذجاً لما يمكن أن تواجهه أية محاولة
مرتكبة من هذا النوع. ومع تحفظ جميع المشاركين تقريباً على مسار
ذلك النقاش، إلا أننا (جميعاً أيضاً) كنا نكشف (بدرجات مختلفة من
القصد) عن خلل في التعامل مع قضايانا، وعن خلل كذلك في الكيفية التي
نتداول بها عدداً من المصطلحات الفكرية والأدبية، التي يراد لها
أن تتكرس من خلال طبيعة استقبالية لم نتمكن من النجاة منها حتى الآن.
ولا أعرف لماذا أسقط كل ذلك القسم من النقاش عندما نشرت الندوة،
ربما تفادياً لحشر قضية (جانبية) في الموضوع الرئيسي للقاء، أو ربما
أيضاً رغبة منظمي الندوة في عدم إظهار ارتباكنا الشديد ونحن نواجه
واحدة من القضايا التي يعتبرها بعضنا من المسلمات التي (لا تقبل
الجدل)، في حين أن عدداً من الأدباء والمثقفين وجدوا في ذلك صعوبة
حقيقة، بسبب عدم دقة المصطلح، وعدم واقعية المنظور.
وكان بودي لو أن ذلك النقاش قد نشر كاملاً لكي يشاركنا القارئ جانباً
من فضائحنا النظرية. فمثل هذه القضايا سيتوقف عليها البناء النفسي
والاجتماعي لإنسان هذه المنطقة مستقبلاً. وما دمنا نعزل القارئ عن
معرفة تصوراتنا، فإننا سوف نواجه ارتباكاً مضاعفاً يصل حد الخطيئة،
يوماً بعد يوم. خاصة وأن مثل هذه المصطلحات باتت سائدة تتداولها
وترددها الصحافة العربية كما لو كانت حقيقة علمية مطلقة، لا يأتيها
الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
على القارئ أن يعرف معنا (إذا كنا نعرف) كيف ولماذا يجوز (أو لا
يجوز) القول بأدب خليجي وثقافة خليجية. وإلا فإننا سنندفع دوماً
إلى تداول مصطلحات غامضة، مضللة، وغير دقيقة علمياً، بالرغم من أن
البعض يؤمن بأنها حقائق مكتملة.
- وعلى صعيد التجربة الواقعية، سنجد أن الذين يؤكدون على (الأدب
الخليجي) بملامحه الخاصة، يصدرون عن الشرط الجغرافي الذي يعتقدون
أنه يجعل منطقة الخلية غنية بعناصر بيئية يمكنها أن تسهم في صياغة
أدب متميز، وتمنحه الخصوصية. وأخشى أننا قد توهمنا هذه العناصر،
في بدايات تجاربنا الأدبية معتقدين أنها حاسمة في جعل أدبنا نتاجاً
مختلفاً في سياق الأدب العربي. ولعل تلك العناصر البيئية التي يعول
عليها الكثيرون، تتمثل في مظاهر رئيسية مثل البحر والغوص والنخيل
والصحراء. ومع تفاوت اتصال هذه العناصر بالتجربة البشرية في هذه
المنطقة، كفعل اقتصادي واجتماعي ورؤية حضارية، إلا أن حضور هذه المظاهر،
منعكسة في شكل أدوات فنية وتعبيرية في النص الأدبي، لا نجزم أنها
تستطيع أن تمنح القصيدة أو القصة هوية خاصة تتميز بها عن مثيلاتها
العربيات. ثم أن حضور هذه العناصر في النص الأدبي لا يمكن اعتباره
شرطاً إبداعيا من الوجهة الفنية، وإلا فإننا سوف نعتبر أكداس الكتابات
المشحونة بكل ما يتصل بالغوص والصحراء والنخيل أدباً جديراً. وهذه
كتابات استطاعت في السنوات الأخيرة أن تكتسح الأسواق وأجهزة الإعلام،
ليس لأنها لا تتكلم عن شيء غير تلك العناصر، ولكن بالدرجة الأولى
- لأنها حققت الاستجابة الإعلامية التي يتطلبها المشروع السياسي،
والذي يرمي إلى الأدب كوسيلة إعلام مباشرة تستجيب للقرار الإداري.
وقد تحولت عناصر البيئة في معظم هذه الكتابات إلى مظهر فلكلوري يدخل
على النص كمادة كولاج.
- نقول أيضاً، أننا لا نستطيع أن نقبل تلك العناصر البيئية كشرط
إبداعي أو نقدي يمنح النص هويته الإقليمية، لأن ذلك سيدفعنا إلى
إلغاء نتاجات أدبية مهمة في التجربة الأدبية العربية لمجرد أنا لم
تتوفر على إشارة لعناصر البيئة. وليس مستبعداً أن يؤدي مثل هذا المنظور
قريباً إلى عدم الاكتراث بأعمال أدبية مهمة. فلا أعرف - على سبيل
المثال - كيف سيتم التعامل مع كل أدب إبراهيم العريض، الذي لن نجد
فيه أية إشارة تنم عن كونه ينتسب إلى هذه المنطقة، وهو الذي استطاع،
في مرحلته التاريخية، أن يحاور التجربة الشعرية والأدبية العربية
ويحقق تواصلاً عالمياً أيضاً.
وفي المقابل، هل نستطيع أن نعتبر رواية (نجران تحت الصفر) التي كتبها
الفلسطيني يحيى يخلف، والتي تدور أحداثها في عمق الجزيرة العربية،
أدباً خليجياً، ومن أية زاوية ؟!
وهل يمكن الاكتفاء بالقول أن أعمال عبدالرحمن منيف في مجملها أدباً
خليجياً، لمجرد أنه في (مده الملح) أعاد صياغة الجغرافية البشرية
للمنطقة بصورة مبدعة، وأنه لولا كونه سعودياً لما استطاع أن ينجز
ذلك ؟!
وأخشى أن من يقرأ رواية (ألف عام من الحنين) للجزائري رشيد بوجدرة،
سيصاب بالدهشة من قدرة الكاتب على خلق أجواء روايته برموز وعناصر
لا يمكن إلا أن تكون منتمية لمنطقة الخليج والجزيرة العربية. فهل
يمكننا اعتباره كاتباً خليجياً ؟!
- إن المسألة غاية في التعقيد، ولا يمكننا قبولها كمقولات عامة،
أو مسلمات نهائية. الأدب لا يقبل أن يعامل بهذه البساطة، والقول
الآن بأدب خليجي سوف يتسم بالتعقيد يوماً بعد يوم، لأن الوتيرة الحضارية
للمجتمع العربي تجعل من الصعوبة الكلام عن تمايز في نص يكتب في الأردن
مثلاً عن آخر مكتوب في سوريا أو لبنان، أو النص المغربي عن الجزائري
والرؤية أو التونسي، فيما عدا درجة الإبداع والرؤية التي يمكن أن
تحدث حتى داخل البلد الواحد : بقي أن نقول أن خطورة تكريس الهويات
المختلفة لما يكتب في هذه المنطقة تكمن في أنها سوف تدفع الانجراف
الإقليمي إلى أقصاه، وهذا ما يفسر تلك المحاولات والاجتهادات التي
ذهبت إلى ما هو أبعد من (أدب خليجي). فهناك من أخذ ينظر لوحدات أدبية
أصغر من ذلك بكثير، كأن يقول بأدب بحريني أو أدب كويتي أو قطري أو
إماراتي، ونخشى أن يطلع علينا من يرى في رأس الخيمة أدباً متميزاً
ومختلفاً عن أدب الشارقة أو أم القيوين. ولا يجب أن نستهين بمثل
هذه المحاولات، لأنها من الخطورة بحيث ستؤسس لطبيعة نفسية قائمة
على التفتت والميل إلى المزيد من التجزؤ السياسي والاجتماعي. فكل
تلك التنظيرات الأدبية ليست إلا استجابات يراد لها دوماً أن تتمثل
للمشاريع التي لا تخفي ميلها إلى المزيد من الشتات. دون الإحساس
بالمصير الحضاري الفاجع الذي ينتظرنا في مستقبل الأيام.
- من هذه الشرفة نعتقد بأن قلقنا مشروع وله مبرراته الموضوعية،
ليس فقط لعدم واقعية القول (بأدب خليجي) ولكن لأن السكوت على تلك
الاجتهادات والاستسلام لها يشكل خضوعاً مزدوجاً من قبل الأديب والمثقف.
- فهو من جهة، خضوع لشروط تؤدي إلى تحويل الأدب إلى مادة إعلامية،
وهذه مصادرة لطاقة إبداعية تكف عن طبيعتها الإنسانية إن هي تنازلت
عن حرياتها الرؤيوية والتعبيرية والنقدية.
- وهو من جهة أخرى، خضوع للانهيار الشامل الذي أسست له المنظومات
العربية، سياسياً وفكرياً، والتي تدفع الواقع لمزيد من التدهور،
بتجريد التجارب العربية (بشتى تجلياتها) من مكتسباتها المحدودة،
وبتفريغ المعاني الحضارية من قيمها إلى حد النقيض، وتصوير الفشل
كما لو كان نجاحاً والهزيمة شكلاً من النصر.
لكن ينبغي على الأدب أن يظل دوماً في إقليم الكلام الآخر الذي لا
تقوله تلك المنظومات الكلام الذي ينبغي أن يقال قبل فوات الأوان.
إذا لم يفت بعد !!.
|
|
|
|
|
|