( 3 ) حتى لا يصبح الأدب مجرد فلكلور أو.. ديكور!
يمكن أن تحضر عناصر البيئة في التجربة الأدبية، ويمكن أن تسهم في
صياغة ملامح ببعض النصوص الأدبية، فعبقرية المكان، على حد تعبير بعض
النقاد يمكنها أن تهيئ أدوات فنية قابلة للتبلور أمام الإبداع بشتى
أشكاله. فان يتأثر المبدع بالبيئة التي يعيشها فتلك مسألة موضوعية
وذاتية من شأنها أن تساهم في إثراء بعض التجارب. لكن مثل هذا الاحتمال
لا ينبغي أن يصبح شرطاً أمام المبدع لحظة الخلق. أو يكون عاملاً رئيسياً
في تحديد نوعية النص وطبيعة انتمائه جغرافيا وتاريخياً واجتماعياً،
وتقييم النص، بالتالي، على هذا الأساس. وهذا بالضبط ما يمثل الخطورة
التي نشير إليها، فالذين يؤكدون على هوية (الأدب الخليجي) المميزة
يسعون إلى فرض هذه القيمة في تعاملهم مع التجارب الأدبية، ويعتبرون
عناصر البيئة شرطاً نقدياً من خلاله يجري تقييم العمل الأدبي. هنا
يكمن الفرق بين ما نعنيه بإمكانية أن تصير عناصر البيئة أدوات تغني
التجربة، وبين ما يعنيه البعض (بوجوب) توفر هذه العناصر في كل عمل
يصدر عن أدباء هذه المنطقة، لكي يحصل على هويته وملامحه (الخليجية).
من المحتمل أن ينساق الكاتب لتلبية هذا الشرط، ولكنه سيفقد عفويته
الإبداعية، وسوف ينتج لنا معادلات ذهنية تستجيب لما يتطلبه الرأي السائد
المرتبط بتلك الشروط والمواصفات. وافتقاد عفوية الإبداع وصدقه، هو
ما يفضح خواء المشروع الأدبي وخضوعه للمشروع السياسي. ففي حين يمثل
المشروع السياسي حدثاً طارئاً قابلاً لكثير من المتغيرات يظل المشروع
الأدبي هو المرشح للبقاء بمستوياته المختلفة والمتنوعة التي تنطلق
من البيئة لآفاق غير محدودة وغير مرتبطة بزمان ومكان محددين.
* إن غياب الرؤية الحضارية للأدب يؤدي غالباً إلى محاذير يصبح الأديب
ضحيتها الأولى، وسوف نعتقد أيضاً أن الحماس الطاغي لعملية خلجنة الأشياء
هو أحد أشكال التغييب الخطير لجوهر الأدب وطبيعته التعبيرية والنقدية،
فالتأكيد على انعكاس البيئة كشرط من شروط المقدرة الأدبية، هو اتجاه
نحو تغييب العناصر الجوهرية الأخرى، وخاصة العنصر الاجتماعي، والبحث
الدائم عن الطبيعة الجغرافية والمظاهر الفلكلورية، يعد إزاحة منظمة
للبعد الاجتماعي بمعناه العلمي، وليس الفلكلوري. وهذا ما يتيح المجال
لرواج أكثر النتاجات ضعفاً ومحدودية، ما دامت تتوفر على إشارات للبحر
والصحراء والنخيل. فحشر النص (أو العمل الفني) بهذه المظاهر لن يتطلب
موهبة إبداعية، وما دامت القيم النقدية السائدة صارت تتصل بالإعلام
والاستهلاك فإن المنظومات المهيمنة سترى في تلك الأعمال (البيئية)
نماذج مثالية للتعبير عن الانتماء والهوية الخليجية. وسوف يتحقق بذلك
استبعاد الأدب الحقيقي عن الساحة، وهو الأدب الصادر عن رؤية نقدية
للواقع. حيث لا مجال لتبرير الواقع ولكن مساءلته. وحيث لا يكون الأدب
مستعداً لأن يصبح أداة إعلامية، أو قطع ديكور تزين الواقع وتمتثل لمتطلباته،
وتصير توابع ملحقة بمشاريعه.
* ولعل نظرة متأملة إلى المواد الرائجة أدبياً وفنياً ستعطينا دلائل
كثيرة على الوضع الفاجع الذي وصلت إليه معطيات المشروع السياسي والمجتمع
الاستهلاكي في آن. ونخشى أن الأمور على صعيد الفنون التشكيلية ستبدو
أكثر ارتباكاً. فسوف نكتشف سريعاً التأثير السيئ للمنظورات الداعية
للمحلية والخلجنة والبيئة، إلى درجة أننا سنصادف أعداداً كبيرة من
لوحات فنانينا وقد تحولت إلى ملصقات سياحية وإعلامية زاخرة برسوم جامدة
وبليدة للبحر والنخيل، ووفي الفترة الأخيرة رأينا سرعة الاستجابة تدفع
الفنانين الذين قضوا حياتهم في بيئة البحر والنخيل إلى حشر لوحاتهم
بمظاهر البيئة الصحراوية والبدو والخيام، تلبية لمستجدات المشروع السياسي
من جهة، وامتثالاً لمغريات السوق الاستهلاكية التي حولت الفن التشكيلي
إلى ترف يمكن أن يقتنيه من يمتلك المال.. بشروط فحسب من جهة أخرى،
بل أننا سنرى الذين ذهبوا إلى أوروبا وأميركا لدراسة الفن التشكيلي،
ورجعوا أول الأمر يطرحون تجاربهم الفنية بأحد الطرق والأساليب من تجريد
وتكعيب وسريالية، فإذا بهم سرعان ما يتراجعون عن كل تلك التجارب، ويعودون
إلى رسم لوحات تقليدية تنسخ الطبيعة، أو تحاكي الإعلام. كما لو أنهم
استعادوا (وعيهم) بعد طول ضياع. وراحوا يفتعلون تجاربهم بمعزل عن عفوية
التعبير وصدق الرؤية الفنية.
وعندما نقول بعفوية التعبير عن البيئة، فإننا نعرف أن تجارب أدبية
عديدة في المنطقة قد حققت تعبيراً متقدماً عن أبرز مظاهر البيئة الاجتماعية
والجغرافية، بدرجة عالية من العفوية، دون أن يغيب عنها الهاجس الاجتماعي،
ودون أن تتنازل عنه. بل أنها لم تكن تصدر كتلبية لرغبة استهلاكية في
إنتاج أدب خليجي.
* فعلى سبيل المثال، عندما كتب محمد الفايز (مذكرات بحار) وكتب علي
عبدالله خليفة (أنين الصواري)، لم يصدرا عن رغبة الاستهلاك، ولا امتثالاً
لهيمنة مشروع يجنح إلى إقليمية ما، بل عبرا عن تجربة اجتماعية بأدوات
فنية كانت جديدة آنذاك، وبرؤية تاريخية لتلك التجربة.
أما الآن فتستطيع أن تحصي مالا يقاس من الأعمال التي وظفت تلك التجربة
تحت وطأة الخلجنة الراهنة، وبقدر قليل جداً من الموهبة. بل إننا نعرف
إلى أي حد استغلت أعمال الفايز وعلي خليفة في مشاريع استهلاكية، استهدفت
أولاً أن تحول هذه التجربة الإنسانية إلى مادة فلكلورية، يتم التعامل
معها بشكل إعلامي بعد تجريدها من مفاهيمها التاريخية، وتهميش مكبوتاتها
الاجتماعية. واستهدفت ثانياً أن يشكل هذا التعامل تكريساً لنموذج من
نماذج الاستفادة بعناصر البيئة، ودفع التجارب الأخرى لأن تنتج أعمالاً
تنسخ هذا المظهر إذا هي أرادت أن تحظى باعتراف المنظومات المهيمنة
والرأي السائد، الذي أصبح، فعل أجهزة الإعلام، ينظر إلى التاريخ والتراث
والمجتمع بعين فلكلورية ليس غير.
* من جهة أخرى، يمكن أن نكتشف مظهراً جديداً من مظاهر العفوية في
التعبير الأدبي، فالأديب المبدع ليس بحاجة لدوافع إعلامية، أو إثباتات
رسمية لتأكيد هويته، فالانتماء مسألة أكبر بكثير من مجرد استخدام عناصر
البيئة في النص، نحن نستطيع أن نكتشف حقيقة هذا الانتماء العفوي (مثلاً)
في نصوص سليمان الفليح الشعرية، هذا البدوي الذي لم يزل، والذي نثق
بموهبته، دون أن تجد المنظومات في كل ما يكتبه سمة من سمات الانتماء.
وهي مفارقة جديرة لا نعرف كيف يفسرها لنا المشروع السياسي، والقيم
الاستهلاكية السائدة ؟! من جانب آخر، نجد أن البيئة البحرية ليست مقتصرة
على كتاب هذه المنطقة، ففي البلاد العربية بحور كثيرة، وبيئات جعلت
كتاباً كثيرين يبدعون النصوص التي لو استبدلنا أسماء المناطق الواردة
فيها لما تيسر لنا معرفة ما إذا كانت أحداثها قد وقعت على سواحل سوريا
- كما في (ياطر) حنا مينه - أو أنها وقعت في (خور فكان).
* ليس هذا فحسب، بل أن رواية (عمال البحر) لفكتور هيجو جعلتني أكتشف
تماثلات لا تحصى بين بيئة الرواية وبيئة الخليج، ليس في تقاليد الناس
وعادات البحر فقط، بل في تفاصيل العلاقات وأدوات العمل، مما يؤكد أن
البيئة الجغرافية وحدها ليست هي التي تعطي النص الأدبي خصوصيته، ولكنها
الرؤية التاريخية الصادرة عن طاقة الإبداع.
|