(1)
لا أتذكر بالضبط الكاتب الذي قال, أوائل هذا القرن, بأن العالم قريتي
وهو قال تلك الكلمة صدورا من جموح المخيلة التي يتميز بها المبدع,
لكي يتصل بأبعد الكائنات في الكرة الأرضية, معبرا عنها وذاهبا إليها.
وتلك المخيلة الشعرية, إذا كانت قد أسعفت ذلك الأديب, فإنها ستبدو
الآن, في نهاية القرن, في مواجهة أكثر وسائل الإتصال (شعرية) , حيث
يتجلى لنا قدرة العلم الذي لا يختلف .عن الشعر إلا في النوع على تحقيق
أكثر الأحلام توغلا في المستحيل
. لذلك , يمكنني الآن القول مجددا , بأن العالم غرفتي
فأنا من خلال شاشة الكمبيوتر الشخصي, في غرفتي الصغيرة, في بلدتي
الأصغر في العالم, يمكنني أن أتصل (ليس بالمخيلة فقط) بأبعد الكائنات
في .. / ليس في الكرة الأرضية فحسب, ولكن في حدود المجرة التي تتجاوز
حدود الأرض. لكي أتابع ما يجري للمركبة الصغيرة التي ذهبت إلى سطح
المريخ للتعرف على الوضع هناك وتصفه لنا, تمهيدا للسفر إليه. باعتبار
أن الحجز على الرحلات التجارية الذاهية إلى القمر قد بدأت الآن, استعدادا
للإقلاع بداية القرن الوشيك, كل ذلك يحدث الآن عن طريق الأنترنت
إن مجرد فكرة قدرتنا على الإتصال بكل من يجلس أمام جهاز كمبيوتره
الشخصي في أية غرفة صغيرة, في أي منطقة من العالم, هي فكرة تتصل بالشعر
كثيرا , الأمر الذي يؤكد لي بأن العلم هو ضرب من الشعر بطريقة أو بأخرى.
و إذا كان أمام الإنسان في ما مضى أن ينتظر أياما طويلة من أجل إستلام
جواب رسالته من شخص في أقاصي الأرض, فإنني تمكنت في ليلة واحدة أن
أزور عددا من مواقع شعراء في مناطق مختلفة من العالم
وأتبادل معهم المعلومات, وأقرأ طرفا من أشعارهم بعد الترجمة الآلية
السريعة أكثر من هذا, فإن نوعا من البهجة شعرت بها وأنا أتأمل في موقع
مواطن عربي يعيش في باريس منذ سنوات طويلة, عندما لاحظت أنه (وهو المتخصص
في حقل علمي) قد وضع في موقعه نصوصا لشعراء عرب مثل نزار قباني ومحمود
درويش وفدوى طوقان. الأمر الذي ضاعف عندي الشعور بأن النزوع اللاشعوري
لدى الإنسان, وهو يتعرف إلى (الأنترنت), يتجه دائما نحو فيض الشعر
فيما يتعامل مع هذا الأفق اللانهائي
(2)
من جهة أخرى , فإن الكم الهائل من المعلومات (في شتى الحقول) التي
تتوفر لديك من خلال هذا الفضاء المفتوح, يجعلك أمام واحدة من أجمل
معطيات العلم الشعرية فعندما طلبت (مثلا ) معلومات عن الفنان الهولندي
(فان جوخ), توفر بين يدي (خلال أربع ثوان بالضبط) ما يزيد عن ثلاثة
وثلاثين ألف صفحة. من طرف متصفح واحد فقط. ويمكننا القياس على هذا,
باقي الحقول التي سوف يتضاعف عندها عدد الصفحات التي ستكون على استعداد
لتزويدك (والتعاون معك أيضا ) بما يساعدك ويسعدك. وبهذا يتحقق لك نوع
من الإحساس بأن ثمة كائنات إنسانية هي على استعداد دائما لتجاوز وحدتها
وحدودها لكي تتصل بك بالشكل الذي يروق لك ويحقق حضورها معك في العالم
(3)
أتعرف على عالم (الأنترنت) يوما بعد يوم, وأكتشف الآفاق التي يفتحها,
متجاوزا الكثير من الأوهام التي كرستها السلطات (بشتى صورها) طوال
السنين, وأعود متأملا ما يستقر (باطمئنان فادح) على أرض الواقع العربي
من إنغلاق وكوابح ينتابني نوع من الشعور بعبث ما يحدث
ففي حين تطرح الحضارة أمام الإنسان الوسائل اللانهائية للإتصال, نرى
أجهزة الرقابة العربية وهي تمعن في إثبات درجة من التخلف والغباء لا
توصف, ليس بسبب عجزها عن السيطرة على حركة الحياة من حولها فحسب, ولكن
(وهذا هو الأخطر) بسبب كونها لا تريد أن تدرك المتغيرات الجذرية التي
يتطلبها الإنسان في هذا العالم وبالتالي حاجة هذا الإنسان, الذي يتصرف
كما لو أن (العالم غرفته), إلى الشعور بالأمان وهو يتصل بالمعلومات
المتاحة أمامه بمالايقاس. فليس كافيا أن يكون لدينا حرية وضع جهاز
الكمبيوتر في الغرفة وفتحه على العالم, لابد لنا من الشعور والثقة
بأن هذه الغرفة ليست مرصودة, وأن جهازنا ليس مراقبا من أجهزة السلطة,
في محاولة لمنعنا من الذهاب إلى أبعد من الحدود (والمتوهمة) من قبل
السلطة. فمن العبث (لئلا أقول من العار الحضاري) أن تتذ رع السلطات
العربية (بشتى الحجج الأخلاقية والسياسية) وأن يتصرف النظام العربي
مع الآخرين كما لو أنهم كائنات قاصرة تحتاج دوما لمن يفكر بالنيابة
عنها
(4)
ما يثير عندي هذه الهواجس , هو ما أرقبه يحدث في ممارسات الرقابات
العربية في حقول مختلف. فماذا يعني منع تداول أخبار محلية أو عالمية,
في الوقت الذي يمكن أن تصلني بطريقة أخرى لا تطالها يد الرقيب? أليس
في هذا نوع من التخلف العقلي غير المعلن وعندما أرى الرقابة في منطقة
تمنع نشر كتاب هنا وتجيزه رقابة في بلد مجاور, أحاول أن أعرف دلالة
(حضارية) واحدة, تميز هذا البلد عن الثاني فلا أجد, خصوصا إذا لاحظنا
أن بعض هذه الإجراءات من شأنها أن تجعل هذا الكتاب الممنوع أكثر انتشارا
بعد منعه, وأكثر من هذا فإن ثمة أكثر من وسيلة جديدة خارقة يمكن أن
يلجأ إليها الكاتب لنشر كتابه
بل أن بعض ممارسات الرقابة تدفع الإنسان إلى الشعور بالخجل لكونه ينتمي
إلى عالم يزعم التحديث وحريات التعبير. ويغيب عن بال أجهزة الرقابة
إنهم , بمثل هذه الممارسات, يؤكدون بأن الأوهام التي يسعون لترويجها
لا تصمد أمام حقيقة واحدة من حقائق العلم والحضارة التي باتت متاحة
أمام الجميع بلا قيود, بلا .أوهام, وفي عالم مفتوح
(5)
أكثر من هذا, أستغرب من السلطات التي تبذل ملايين الدولارات للصرف
على أجهزة مضادة لفرض الرقابة على فضاء شاسع مثل (الأنترنت). أستغرب,
لأنهم بهذا السلوك إنما يعيدون مجددا مفارقة الذهاب إلى الحضارة بشروط
التخلف, وهذا ما لا يستقيم مع إنجازات الإنسانية. تماما مثلما كان
الأسلاف الذين عندما عمدوا إلى ترجمة الفلسفة اليونانية عملوا على
تغييب جوهرها الفكري القائم على الجدل والحوار والشك وتعدد الآلهة.
وهذا ما يجعل تعاملنا مع الفعل الحضاري غالبا ما يصدر عن وهم الإنتقاء,
حيث نأخذ ما لا يمس بنيتنا الذهنية القائمة على الإستقبال واليقين
المنجز والحقائق التي لا يأتيها الباطل
(6)
ليس سهلا على الإنسان أن يكتشف ما يقترحه الأنترنت (بوصفه نظام مفتوح
على الأفق) , دون أن يصاب بصدمة المفارقة التي يجتهد النظام العربي
في تفاديها أو تقنينها وتحصين المواطن العربي ضدها. فكلما تقدم العلم
خطوات, نلاحظ أن سلطاتنا العربية تتخلف خطوات مضاعفة, مستعينة بأكثر
الأساليب بؤسا . ويكفي أن تتخيلوا رقابة عربية تفرض حدودا على نص أغنية
بسبب كلمة هنا أو تعبير هناك, في حين أن بوسع الشخص أن يتصل بأكثر
النصوص تطرفا في العالم. أليس في هذا السلوك إمعان في احتقار عقلية
المواطن وتبسيطه إلى درجة الحيوان. ففي هذا العالم بات من العيب أن
نفرض على الإنسان وصاية تطال خياراته في ما يقرأ ويستمع ويشاهد ويفكر,
والتعامل معه كما لو أنه كائن يقصرعن إدراك ما يحتاج وما .يفيده وما
يضره
لقد بالغت أجهزة الرقابة العربية في عدم احترام عقل الإنسان, وعدم
الخجل من سلوك أصبح خارج التاريخ. فبعد كل وسائل الإتصال الحديثة التي
تتحقق كل يوم, كان على هذه الأجهزة أن تكف عن أكثر الأدوار تخلفا .
فمن المضحك أن تفكر هذه .الأجهزة بالوقوف في وجه التطور الطبيعي للحياة
(7)
لكننا إذا تأملنا المشهد بصفته طريقة حياة, سنلاحظ أن ما يحدث في هذا
المجال هو ضرب من الفضيحة غير المعلنة لمجمل المنظومات العربية. فضيحة
تعر ي الواقع الحقيقي لحياتنا العربية. فهذه العقلية الرقابية هي قرين
بنيوي لطبيعة المصادرة الدائمة للحريات, حيث الدولة هي المعنية بشروط
المنع والمنح, كما لو أن الإنسان لا يزال بحاجة لمن يسمح له بالتنفس
والحلم. إن شعورا بالخيبة سوف تطال الإنسان العربي عندما يرقب سبل
الحرية تتنوع, فيما يقع هو تحت وطأة أنظمة .تصرف الثروات في ابتكار
وسائل حجب هذه الحرية
ثمة تعليق ظريف سمعته من صديق (في معرض الكلام عن رقابة الأنترنت والمحطات
الفضائية العالمية), يقول : إنهم لا يعطوننا الحرية, ولا يسمحون لنا
بمجرد .التفر ج عليها
(8)
يمكننا تقدير المسافة الحضارية بين فكرة الرقابة وما يقترحه علينا
فضاء الأنترنت, بما يعادل ثلاثة قرون ضوئية, ليس بمقدور وسيلة معروفة
أن تختزلها في صالح العودة إلى الوراء ويبقى على الرقيب العربي إذن
أن يشر ف غرفتي
|