(الآن). ليس تحديداً دقيقاً لما نعيشه، كما أن التحولات الفكرية والاجتماعية
لا تحدث صدفة أو مفاجأة. ولا حتى نتيجة مباشرة لصدمة ما، كالنصر والهزيمة،
تحدث التحولات لأن هناك استعداداً تاريخياً يكمن في تلافيف بنية المجتمع،
تراكمت بفعل السياق الحياتي، بحيث تجعله مهيئاً للنكوص (أو التقدم)،
والمجتمع العربي بقطاعات واسعة نحو (التراث) فإنه يستجيب لطبيعة ذهنية
تأسست منذ فجر تكونه الأول، وهي طبيعة لم تغادره (لم يغادرها) منذ
ذلك العصر، ولعل ذروة ذلك التكون يمكن أن تكون عصر التدوين.
(الآن) إذن. هي مرحلة تمتد حتى منتصف القرن الثاني الهجري، ظل المجتمع
العربي يعيش فترة التراث هذه طوال تاريخه، فالتدوين لم يقتصر على علم
الحديث، ولكنه شمل الفقه واللغة والتاريخ وكل ما يتصل بالثقافة العربية
الشفهية والمتناثرة، ليصبح لنا بعد ذلك هذا التراث مرجعاً وحيداً،
يستمد حصانته من الرأي الديني الذي سيطر على فعالياته ووجه منظوراته
(ويستمدها أيضاً من) السلطة السياسية التي تعتمده وتكرسه وتحميه من
(الآراء) الأخرى.
طوال هذا التاريخ ظل المجتمع العربي (والعقل العربي) يعيش ضمن ذلك
التراث، يستعيده، ويضعه قانوناً حاضراً لمواجهة المشكلات التي تستجد،
والذي كان يحدث فقط هو أن تفاوتاً في مقدار سطوة هذا التراث بين مرحلة
وأخرى، في ضوء نزعات التغيير والتجديد، ورغبة التجاوز التي يتعرض لها
الواقع العربي، بسبب نشاطات سياسية وفكرية، غالباً ما كانت تعرض للحصار
والمحاربة والإخفاق، منذ الحركات الفكرية والاجتماعية في القرون الهجرية
الأولى، حتى التاريخ المعاصر (سياسياً وفكرياً).
وعندما يتعرض المجتمع العربي إلى هزيمة أو خطر أو أزمة شاملة، يجرد
التراث أسلحته ليدفع الواقع للعودة، تحت حجة أننا ابتعدنا عن أصالتنا
وتقاليدنا وديننا.
(الآن)، ما يحدث فقط هو ذروة من الذروات، التي يتعرض لها المجتمع
العربي تحت وطأة التراث الكامن، الذي لم تتح للعقل العربي أن يحمل
بجوهره المضيء، في حرية تليق بالحضارة.
إن خطورة ما يحدث (الآن) تتمثل في (التماهي) الذي يتكرس يوماً بعد
يوم بين التراث والدين، حيث يخلط الكثيرون سهواً أو جهلاً أو سياسة
بين التراث والدين، حتى لتكاد منظوراتهم تمتهن الدين وتتعامل معه كمادة
تراثية، ونصوص قابلة لما لا يقاس من الاجتهاد والتحوير، بل انهم أحياناً
يبالغون في الخلط فيبدو لنا الدين نوعاً من الفلكلور.
مثل هذا الخلط بين الدين كنص قرآني، وبين التراث الديني كفكر إنساني..
موضوع من قبل بشر مثلنا، هو خلط مؤسس منذ (عصر التدوين).. لكن ما يحدث
(الآن) يشير إلى أن هذا الخلط أصبح عاملاً من عوامل الصدام اليومي
بين الانسان ونفسه، وهذا الصدام لم يكن بهذه الحدة فيما سبق، لكن المتغيرات
الحضارية، جعلت النزوع نحو الحياة الجديدة أكثر حضوراً، وإلحاحا، وخطورة.
ولهذا الخلط مظهر آخر. وهو الذي يتصل بالتشجيع المستمر من قبل المنظومات
لهذا الاتجاه، الذي سيبدو هنا استغلالاً واعياً للدين. في سبيل تثبيت
أوضاع وصيغ باسم (التراث).
وسوف ينطبق هذا الحكم في حقل الأدب أيضاً، حيث النص الشعري
(والنقدي) القديم سيقاس به النص الجديد، بل سيأخذ النص القديم صفة
القداسة التي تكاد تضاهي قداسة النص الديني، وستجد من يحارب ضد أية
محاولة للتجديد الشعري، دفاعاً عن القديم، كما لو أن هذا التغيير سوف
يمس قداسة ما. وهذا ما يفسر لنا الاتهامات التي توجه عادة من المحافظين،
وهي اتهامات توجه لإدانة المجددين في عقائدهم.
وإذا افترضنا جدلاً أن رجعة التراث الراهنة جاءت متصاعدة منذ منتصف
الستينات، حيث الهزائم الحديثة التي لم تتوقف، والتي تعرض لها الجسد
العربي، والعقل العربي، والنص العربي، علينا أن نكشف قبل ذلك أن هناك
من يريد التعامل مع معطيات الفكر الإنساني بكافة اجتهاداته (وهو تعامل
لا يخلو من خلل) على أنه السبب الأول والأخير لتلك الهزائم، لأنه شكل
مباشر من أشكال الانصراف عن الأصالة والتراث العربيين، وأضيف أمام
العقل العربي (مجدداً) طريقاً واحداً للخروج من المأزق وهو طريق العودة
إلى التراث لنكتشف أنهم لا يعنون في الحقيقة بهذا التراث سوى تفسيرهم
للدين، ثم لن يتركوا لنا بعد ذلك أن نرى الدين كما نراه ونعرفه، في
صورته الحقيقية، بل سيطرحون الإسلام (الذي من القرآن) جانباً.
ويروجون لأكثر الاجتهادات تخلفاً، ويضيفون إليها اجتهاداتهم القاصرة،
ويلغون من حساباتهم العقل الإنساني، ليحصروا الكلام في الدين عليهم
فقط.
فقد ابتلي المجتمع العربي، في هذه العودة (التراثية) بعدد هائل من
جهلة يتعاملون مع الأمور الدينية باستهانة خطيرة، دون أن تتاح الفرصة
الموضوعية حتى لمناقشتهم في تلك المبالغات الفلكلورية التي يروجون
لها، وهي التي تتناقض مع جوهر الدين وروحه الإنساني.*
|