مداخلة طرحت في المختبر الأدبي التابع
لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية
بجامعة البحرين. 1993
أعتقد أن مشكلتنا في الحركة الأدبية، بعد ما يقارب العشرين سنة على
تجربة الأصوات المعروفة في البحرين تتمثل في هاجس البحث عن أصوات جديدة،
والتساؤل عن إمكانية وجود أسباب غير مدركة من منظور الجيل السابق أدت
إلى ما يشبه الفجوة أو الغياب للأصوات الجديدة.
لقد بدأنا نهتم بالأدب ويتولد عندنا هاجس الكتابة والانتقال الثقافي
في غياب المؤسسة الجامعية، وغياب الصحافة التي لم تحضر إلا في وقت
متأخر. لم تكن هناك تجمعات أدبية (كالأسرة مثلاً)، كما لم يتكرس تقليد
لعقد الندوات الأدبية والثقافية في الأندية التي كانت في تلك الفترة
معنية بالثقافة، أي أن النشاط الثقافي الذي يحفز هذه المواهب الجديدة
ويؤطرها كان غائباً ؛ من هنا كان الاعتماد معولاً على الذاتية بالدرجة
الأولى، وعبر مبادرات نحققها للالتقاء في البيوت ومناقشة النتاجات،
كما عبر جهود محدودة في دائرة قلقة كثيراً، وهذا في مجمله ربما يشكل
مفارقة أولى مع التجارب اللاحقة.
من جهة ثانية فإن كل المواهب التي غدت معروفة الآن لم تنل حظاً من
التعليم الجامعي باستثناء أفراد قلائل توافرت لم الفرصة فيما بعد.
وذلك يعود إلى عدم وجود جامعة محلية حينها، من جانب، وعدم ملاءمة الظروف
الشخصية للأدباء من جانب آخر. هكذا أصبح الاهتمام بتطوير الذات رهيناً
بمبادرات الأديب نفسه، وقابلية موهبته للتطور والنماء، خصوصاً مع غياب
الناقد واضح الأدوات الذي يمكن أن يتناول النتاجات المطروحة ويحاورها.
مع مضي سياق الحركة الأدبية وعبر تحولات المجتمع، شعرنا فعلاً بغياب
جيل آخر واضح الملامح (مع استثناء محاولات بسيطة). وها نحن الآن نتعرف
على جيل مختلف، يكتب النقد، والقصة ويكتب في محيط جامعي تتهيأ فيه
عناصر ثقافية وأكاديمية كثيرة وإيجابية جداً، ولكن يبدو أن طبيعة المجتمع
وطبيعة توفر وسائل النشر إضافة إلى رغبة بعض الشباب في النشر وسرعة
الشهرة وطباعة الإصدارات مثل جانباً من الجوانب التي ساهمت إلى حد
ما في تعثر بعض المواهب، خصوصاً مع ما يعتري طبيعة الاحتضان وتشجيع
المواهب من ملابسات، إذ أن فهم بعض المواهب لهذا الاحتضان يبدو متفاوتاً
في تقديري، ومعولاً كثيراً على تشجيع الآخرين وفق مفهوم وحيد هو الإعجاب
بما يكتب ! ولو تعرض لأي ملاحظة سلبية لاعتقد بأن ذلك شكل من أشكال
الكبح لأن قناعته لا تخرج بالتشجيع عن انحصاره في الإعجاب أو المديح
الكامل !!
في مستوى آخر، يطرح تلبس الكاتب للروح التعليمية المفترضة في الطالب
الجامعي، وعدم تمييزه للحدود الفاصلة بين تشجيع المواهب وتصليب ذاتية
الكاتب محذوراً آخر على هذه التجارب. إذ لا ينبغي النظر المطلق إلى
أن ما يقوله الأستاذ في الجامعة هو نفسه ما تحتاجه الموهبة الأدبية
لتحقق مشروعها. فقد يكون الكثير مما يطرح مفيداً له باعتباره طالباً
في الجامعة دون أن يعني ذلك ضرورة الإفادة باعتبار الكاتب موهبة أدبية.
وهذا الخلط يفسد كثيراً تطور وتبلور الموهبة. خصوصاً أن الأستاذ هو
الآخر عرضة للوقوع في هذا المحذور عندما يعتقد أن طريقة الاحتضان وتشجيع
الموهبة لا تختلف كثيراً عن تعامل الأستاذ مع طلابه. هي إشكالية توقع
الموهبة في التعامل مع توجيه الأستاذ باعتبار أستاذيته وأن كل ما يقوله
إنما هو جزء من الدرس النقدي الأكاديمي.
أعتقد بأن الطالب الموهوب أدبياً - شاعراً، ناقداً أو قصاصاً - ذو
طبيعة مختلفة عن طبيعة الطالب الذي يقوم بالتلقي فحسب، وإذا غابت هذه
العناصر عن رؤية الأستاذ الجامعي فإن هذا الموهوب سيكرس طبائع نفسية
قابلة للتلف والعطب، لأنه يقع في إشكالية التعامل مع الأستاذ من جانب،
والنقاد من جانب آخر وطبيعته بعفويتها وحيرتها من جانب ثالث، الدرس
النقدي الجامعي في هذه الحالة يكبح ذات الموهبة.
الصحافة أيضاً تكاد تلعب دوراً سلبياً في قبولها نشر كل ما يقدم لها.
ومع طرح شيء من المقارنة التي لا محيد عنها كونها تلقي ضوءاً على طبيعة
التجربة الآنية، أقول كانت كتابتنا للقصيدة أو القصة مصحوبة بفترة
طويلة من القلق والتردد الذي كثيراً ما يؤدي إلى حجب التجربة وعدم
القناعة بها بدلاً من الذهاب بها إلى النشر. وحتى عندما كنا نحمل أي
تجربة للنشر فإن مساءلة كبيرة تكون بالانتظار. (أتذكر مناقشات محمود
المردي لتجاربنا ورفضه لنشر بعضها، كما أتذكر بعض التعليقات الصحفية
القاسية جداً على التجارب المحجوبة عن النشر، وأذكر أيضاً حذر القائمين
على الصفحات الأدبية من نشر كل شيء وأي شيء).
لقد تغيرت الأمور تماماً الآن، الصحيفة متأزمة وتريد أي شيء للنشر،
وهذا من جانب آخر يلبي رغبة الشخص بأن ينشر له كل شيء، لا من باب التشجيع
والتنويه بإمكانية تحول هذه الكتابة إلى مشروع حقيقي (لم تبلغه بعد)،
وإنما يتم النشر الذي سرعان ما يتحول مرسله بعد محاولة أو اثنتين إلى
(شاعر) أو (قصاص) !!
قد ينطلق هذا السلوك من عفوية أو لا مبالاة أو حسن نية تتحلى بها الصحيفة
أو محررها الأدبي، غير أن صاحب التجربة لا يتفهم هذا التعامل في كل
الأحيان بحجمه الطبيعي والواعي، وإنما يتصرف على أساس أن أي تجربة
جديدة يكتبها مستقبلاً تحكم الصحيفة - كل الصحف - بإجبارية النشر لأنه
قد تعمد شاعراً !!! وأي ملاحظة تطرح على نص من نصوصه تدخل في حيز الغلط
! لأن الجريدة الفلانية تسبق اسمه في كل مرة بلقب الشاعر الفلاني أو
القاص الفلاني ! وهذا يتراكم مولداً حالة عطب في بنية الموهبة قابلة
في أي لحظة من الاصطدام بنقد حقيقي أو رأي صريح في التجربة أن تتدمر
وتتوقف عن الكتابة.
يتبقى سؤال حول مسئولية الجيل السابق وحدودها في التعامل مع هذه الموهبة.
أنا لا أميل إلى الاحتضان بالمعنى المدرسي الذي تكرسه مسألة الأستاذية.
أعتقد بأن نفس تجربة الجيل السابق التي تشير إلى الاعتماد علي الذات
بالدرجة الأولى هي المطلوبة آنياً - وربما بتشديد أكثر من السابق -
نظراً لأن المحاذير التي تحيط بالجيل الحالي تفوق المحاذير التي واجهت
الجيل السابق، فطبيعة المجتمع تهيئ للقيم الاستهلاكية التي تستهوي
إلى مزالقها، فواحد يريد الانتشار وآخر يريد الشهرة.. وهكذا. وبقدر
ما يكون الفرد واعياً لدوره الفكري والاجتماعي يشعر بأن الكتابة مسألة
ذاتية مائة بالمائة ودون أي جدال، ولا يمكن أن يؤثر فيها الآخر سلباً
أو إيجابا إذا لم يكن لديها استعداد لذلك.
أي موهوب يمكن أن يلتقي مع أي كاتب من الكتاب والأدباء في البحرين
وبرحابة صدر يمكن أن يتم الحوار ولكن مع التأكيد على أن الاحتضان لا
يمكن أن يكون احتضاناً أكاديمياً أو مدرسياً بمعنى تجميع هذه المواهب
وإلقاء الدروس والنصائح في آذانها، إذ أنني أعتقد أن كل الأدباء بلا
استثناء هم أصلاً في حاجة إلى النصيحة. ولا يمكن أن نتوقع تحول الأديب
إلى واعظ. فالتشجيع مختلف تماماً حين يتعلق الأمر بمجال الإبداع. على
جميع المواهب ألا تسقط في انتظار التنظير لما تقوم بكتابته في مرحلة
باكرة. الدخول في التنظير للموهبة في مراحلها الأولى عملية خطيرة،
وان تكون التجارب أولية ثم تسدي إليها آراء التثمين الفني سلباً أو
إيجاباً فإن في ذلك شكلاً من أشكال الجناية على هذه التجارب.
على هذه التجارب أن تثبت نفسها ذاتياً، وتثبت بأنها حتى لو حوربت
فإنها قادرة على فرض الحضور (وقد حدث مثل ذلك مع تجارب سابقة). هذه
مسائل تشكل لي على الأقل هاجساً كبيراً لأنني معني، مثل غيري، بأصوات
جديدة ينبغي أن تبرز على الساحة الأدبية وتقنع بأنها تتوافر على الجدية
والوعي بدورها.@
|