الشروط و الشرطة

في البلاد المتحضرة تباهي الدول بعدد المؤسسات الشعبية المستقلة عن الأجهزة الرسمية، العاملة في المجتمع، متميزةً عن، السلطات : رؤيةً و ممارسة. بل وتعمل الدول على إتاحة أكبر قدر ممكن من الحرية لحركة هذه المؤسسات. لكي تحقق نفسها باستقلالية، و دون أن تكون محكومة بما تراه الدولة أو تذهب إليه.

كل ذلك يحدث هناك، في المجتمعات الديمقراطية، لكن عندنا، نحن العرب، على العكس من هذا تماماً تبذل الدولة كل أساليبها لتجيّير المؤسسات الشعبية و ربطها بعجلة الأجهزة الرسمية، و إخضاعها لنفس الآلة التي تسيّر النظام حتى تفقد طبيعتها الأهلية، ومشكلتنا في البلاد العربية (حيث الديمقراطية حلماً لا تزال) إن بعض المؤسسات الأهلية تمثل متنفساً نادراً، و محفوفاً بالمحاذير، للعمل الاجتماعي المستقل الذي يعبر فيه الإنسان عن شخصيته و رؤاه. لذلك فان الاقتحام الرسمي لهذه المؤسسات يصبح مهزلةً لا يمكن احتمالها.

على صعيد المؤسسات الأدبية العربية يمكننا أن نرى الصورة بشكل فاضح كل يوم. و بشتى التجليات. فمن النادر أن نصادف اتحاداً أو جمعية أدبية في البلاد العربية - مهما زعمت الاستقلال - إلا و كانت ضحية السيطرة المزدوجة، الأجهزة الرسمية من جهة والأحزاب السياسية من جهة أخرى.، لذلك ففي المؤتمرات الأدبية العربية يتحول المشهد كما لو أننا في ميدان الصراع السياسي العربي بكل مهازله. وسوف يغيب، في خضم هذا، كل ما يتصل بالأدب و الأدباء. فقد اقتحم النظام العربي المؤسسة الأدبية لكي يجعل من الأديب تابعاً لمنظورات و أطروحات الدول، الأحزاب دون الاكتراث للشرط الأدبي، الذي يستدعي استقلالاً كاملاً للأديب عن كل الأجهزة، حيث ينبغي احترام الأديب و احترام حرية اختياره. ولكن النظام العربي لا يرى في الأديب إلا موظفاً في الآلة الرسمية. وقد رأينا كيف قبل قطاع كبير من الأدباء العرب هذا الدور، تحت ملابسات كثيرة، ليس من أبرزها ضرورات الأمان الشخصي و لقمة العيش، فالوجاهة الأدبية و الاجتماعية، من خلال الاعتراف الرسمي، تظل مغريةً للكثيرين أيضاً.

وعندما تتحول الاتحادات الأدبية في البلاد العربية إلى توابع رسمية، فإنها ستفشل في تحقيق دورها الحضاري الصادر من وعي نقدي للواقع، و المتصل بالتوق إلى مستقبلٍ يغاير الراهن، ولا يرتهن إليه. و سوف نرى بعد ذلك أن من يقاتل من أجل إخضاع التجمع الأدبي و السيطرة عليه في هذا البلد أو ذاك، لن يكتفي بذلك، بل سيواصل قتاله للسيطره على الاتحاد العام للأدباء العرب، لكي يوظفه لتحقيق مشاريعه و برامجه السياسية. وقد رأينا أن هذا الاتحاد ظل ميداناً للتلاعب السياسي وكسب المواقع بين الأنظمة والأحزاب العربية.

وعندما نقف الآن أمام ما وصل إليه اتحاد العام للأدباء العرب نرى فيه نموذجاً صارخاً للمؤسسات العربية التي فقدت طبيعتها الأولى، وكفّ عن كونه ملتقى للأدب و الأدباء. ويوماً بعد يوم صارت سياسة الأنظمة تتفاقم في جسم هذا الاتحاد. ففي كل اجتماع أو مؤتمر، بدل أن تتألق فيه الحوارات الأدبية و تتحول إلى فعالية إبداعية و حضور حيّ للحياة الثقافية و الفكرية العربية، ينصرف البعض إلى ترتيب مواد البيان الختامي و البرقيات و رصف القرارات - المواقف السياسية. و إذا كانت تلك القرارات و البيانات يجري تداولها تحت الطاولة سابقاً ، فان البيان الختامي الآن أصبح جاهزاً على الطاولة قبل بداية الاجتماع. ذلك لأن كل قوى سياسية تسيطر على الاتحاد سوف تمارس العمل على طريقتها. و لعل الاتحاد العام في مؤتمره الأخير في كانون الأول / ديسمبر 90، بتونس ، قد تفرغ كلياً للعمل السياسي الرسمي، و لم يجهد المشاركون أنفسهم في وضع بيانهم الختامي، فقد كان كل شيء معداً سلفاً.

الآن، ينبغي الكفّ عن هذه اللعبة المبتذلة. لقد فاض بنا طوال هذه السنوات أن نرى جيلاً كاملاً يغيب (أو يُـغيّب) عن فعاليات الاتحاد بسبب هذه اللعبة ، حيث الوفود المشاركة سوف تأتي إلى المؤتمر عبر القنوات الرسمية التي لا ينفذ منها سوى من (وما) يروق للدولة أو الحزب، و بناء عليه سوف يحضر الموظفون و يغيب الأدباء.

لقد ربى الاتحاد العام للأدباء العرب، عبر سنوات طويلة، بهذا النوع من الآلية، قطاعاً هائلاً من المستفيدين الذي يعبثون في مشهد الأدب و الثقافة العربيين بدوافع مضادة للحضارة والحرية و الإبداع. إن الحجة الأزلية التي تمسكها جميع السلطات على الاتحادات الإقليمية و على الاتحاد العام خاصة، هي حجة الدعم المالي، و لذلك ففي كل مؤتمر، و غداة الانتخابات، تبدأ المزايدة، النظام أو الحزب الذي يدفع أكثر يستلم رئاسة الاتحاد و إدارته، ويجوز للمسيطر أن يملي شروطه، يفرض (شرطته). ولقد رأينا كيف أن نظاماً عربياً (وحزبه) كان مستعداً للدفع، ليس للاتحاد العام للأدباء العرب فقط، بل تعدى ذلك للدفع إلى الاتحادات و الروابط الأخرى، إلى حد رشوة الأدباء و الشعراء بالدولارات و السيارات. فان مشهد التفسخ الثقافي و الفكري الذي رأيناه في السنوات و الأشهر الأخيرة لا ينفصل أبداً عن ذلك السلوك الذي يبدأ بصراع صغير على رئاسة لجنة أو اتحاد أدباء، ليصل إلى التحكم بمصائر مؤسسات كاملة و تشويه أو تخريب تجارب أدبية في الساحة الأدبية. فالأمر - بالنسبة لهم - يتجاوز العمل الإداري إلى الهيمنة على كل ما يتصل بالعقل و الفكر والإبداع، في سبيل إخضاع كل ذلك للمشروع السياسي، قسراً أو طوعاً أو ترغيباً أو إرهابا. و لعلنا - الآن - قد رأينا نتائج سنوات العمل الدؤوب الذي اشتغلوا عليه في هذا المجال، كل جهة تبذل وسائلها لجعل الاتحاد الأدبي تابعاً لها، و الحقيقة أن جميع تلك الجهات لم تفشل أبداً. من حقنا أن نرى اتحاداً أدبياً حراً وجديداً، و مفتوحاً على الأفق الشاسع الذي يتجاوز الأنظمة و الأحزاب. و لا ينبغي أن نقبل خضوع اتحاد الأدباء للإرهاب المالي الذي تحاربنا به الأنظمة.. كلها بلا استثناء، علينا أن نستعيد اتحاد الأدباء العرب مستقلاً ، فقيراً، متواضع الإمكانات المالية، شعبياً، يضم أدباء فقط، نريده اتحاداً يعيد للأدب العربي صورته الجريئة، و يمنح الاتحادات والروابط الفرعية قدرة استعادة الثقة في النفس، للخروج على هيمنة النظام من هنا والحزب من هناك.@

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى