شعراء العرب في العالم

(1)

نوري الجراح، شاعر ترك (شامه) منذ أكثر من عشر سنوات، و ذهب إلى أكثر من غربة، ومربط خيله الآن العاصمة البريطانية، مثل عشرات مثله من الشعراء والأدباء العرب.
ونوري الجراح من شباب الشعر العربي المشاكس، و ربما كان من أبرزهم في هذا المجال، ليس في لغته الشعرية الرشيقة بالذات، و لكن عنصر المشاكسة عنده تتمثل في اختراقاته الصحافية التي يبتكرها بين وقت و آخر ضمن نشاطه في الصحافة الثقافية المهاجرة.
ولعل آخر مشاكساته الدعوة الباهرة التي أطلقها في جريدة "القدس" اللندنية، حيث دعى إلى تكوين (مهجرية شعرية عربية في المهجر). و فيما هو يشرح الظروف و الملابسات التي يعيشها الشاعر العربي المقيم خارج البلاد العربية، وضمن معرفته الواسعة بعدد كبير من هؤلاء الشعراء المنتشرين عبر القارات، لم نشعر بأية مصادفة في أن يكون معظم هؤلاء الشعراء من جيل جديد (طريقة تعبير غالباً و عمراً في النادر)، فان الواقع العربي لم يوفر طريقة لديه ليدفع الشاعر إلى الفرار من الموت.. أو الموت.
و لذلك فان العدد الكبير من الشعراء في المهاجر الأجنبية أصبح ظاهرة مثيرة، وتدعو إلى تأملها وتدارك مضاعفاتها على الروح الإنساني و التجربة الشعرية العربية في آن واحد.
ولعل المثير في هذا المشهد أن من يسكن غربة ونفي في الوطن لم يعد ينظر إلى مشهد من يسكن غربة ونفي خارج الوطن كمفارقة كبيرة عنه، لأنه يعتبر الأمر اختلافاً في الدرجة و ليست في النوع.
و لقد استجاب بالفعل غير شاعر مقيم في أوروبا، مشاركين في مناقشة الفكرة التي أطلقها نوري الجراح. يبدو لي أن هذه الدعوة تنطوي على فتنة تغري بالمشاركة ( لكي لا أقول.. بالمشاكسة )، فربما تجلت في هكذا مشروع ضروب من الفضح ( ينبغي أن يذهب إلى أقصاه ) لواقع تداعت إليه المؤسسات الأدبية العربية نحو انحطاط يتفاقم و يكابر.
لكن دعونا قبل ذلك نقول تصوراً ما.

(2)

يا نوري الجراح... لماذا "مهجرية شعرية... " ؟!
لماذا لا يكون هذا الأفق مفتوحاً للشعراء العرب في العالم ؟!
فيا عزيزي، أنت تعرف أن عدداً كبيراً (يضاهي الموجودين في المهاجر) من الشعراء العرب يعيشون غربة و حصاراً و نفياً في دورهم و بلدانهم، و يعانون تجربة لا تقل عن رفاقهم في خارج الوطن.
أكثر من هذا، فان وجود شاعر عربي في بلد أجنبي لم يعد فارقاً كبيراً يميزه (سلباً أو إيجاباً) عن مثيله في البلاد العربية، ففي عصر الاتصالات الهائلة هذا لم يعد مفهوم " المهجر " فاعلاً بالدرجة ذاتها التي كان المهاجرون الأوائل يتميزون بها، فالمناخ الثقافي في أي بلد أجنبي ليس بعيداً عن الشاعر العربي (الجديد خاصة) في بلده. إضافة إلى حقيقة استمرار الهواجس والمعاناة الحضارية والاشكالات الفكرية و الفنية ذاتها التي يدور عليها الكلام لدى هدا الجيل من الشعراء في الداخل و الخارج. فالصحافة العربية في العواصم الأجنبية صارت تحقق مناخاً ثقافياً واحداً لا يمكن الاستهانة بتأثيره، مقارنة بالصحيفة أو الاثنتين اللتين كانتا تصدران في مهاجر الثلاثينات والأربعينات، حيث لم يكن أحد من العرب، في الداخل، يتوصل بهما إلا بالكاد. الأمر الذي كان يجعل الشعراء، في الجانبين، مقطوعين عن عالم كل منهما، حتى أن مجرد المراسلة المتباعدة بين شعراء و كتاب الداخل مع تلك الفعاليات الصحافية و الأدبية في المهجر، كانت ضرباً من الترف.
إما الآن. أنظر كم نحن نسمع خفقات خالد المعالي و رفاقه في كولون الألمانية،
ونتحاور مع " صوت " جمال جمعة و رفاقه في الدنمارك، و نكاد نرى دبيب سركون بولص في جنته الجهنمية في الأقاصي الأمريكية، و يستطيع فاضل عزاوي أن يزعم أننا نتبادل معه أنخاباً مسائية، و نصاب بالفخر لأن عبداللطيف اللعبي يشتغل مثل ناسك لتوصيل الإبداع العربي - الفلسطيني خاصة - إلى القارئ العالمي.... هذا لكي لا أحصي قصائد سعدي يوسف و عائشة أرناؤوط و أرواح سليم بركات الهندسية.
أنت تعرف هذا جيداً يا نوري.
كيف تريدنا أن نتوهم بأن حدود الجغرافيا قادرة حتى الآن على قطعنا عن هذا الكيان الذي سهرنا الدم كله من أجل ابتكاره ؟

(3)

و أيضاً.
فان الظروف و الملابسات المتفاوتة التي اضطرت بعض الشعراء على ترك بلدانهم العربية ( على قسوة بعضها ) لا تشكل هجرة دائمة ( أو طويلة المدى، أو ثابتة ) وبقرار اختياري، كما كان الأمر بالنسبة للمهاجرين الأوائل.
الآن، ليست هناك هجرة ثابتة، و معظم ساكني المهجر المعاصر ما زالوا على اتصال شبه يومي (بحياتهم) في دارهم العربية. وهذا يعني في التحليل الأخير أنهم (عرضة) للعودة إلى بلادهم (أو أية بلد عربي آخر على الأقل) في أي وقت. كل هذا يجعلنا نشعر حقاً بأن هذا الجيل من الشعراء بات يشكل جسداً عربياً موزعاً في خريطة العالم، لكنه متصل بشكل أو بآخر بروح واحد، غير ثابت، و غير مستقر، و أخشى أن يكون في هذا استعداد (لا ينبغي أن نستهين به، أو نستبعده) لأن يحدث انزياح متبادل في المواقع (لأسباب لا يستطيع الانسان العربي، بوصفه مواطناً تعصف به أمزجة الأنظمة، أن يتحكم بها ) كأن يضطر شعراء عرب إلى مغادرة موطنهم نحو غربة جديدة، في نفس الوقت الذي تستهوي لبعض المهاجرين عودة إلى الخريطة العربية.
هذا الحراك الدائم من شأنه أن يضاعف العلاقة العميقة بين شعراء هذا الجيل داخل و خارج الوطن. و لذلك فإنني أعتقد بأن مشروع التجمع الشعري الذي تقترحه يا عزيزي نوري لا ينبغي له أن يقتصر على شعراء يسكنون غربة المنفى، لئلا يكون هذا سبباً يمنح عدداً كبيراً من شعراء غربة الوطن إحساساً بالفقد. فليس سهلاً أن يفقد الشاعر شعوره الحميم بزميل له في اللحظة ذاتها التي يجوز أن يعتقد بضرورة التماسك و تفادي التشظي الذي أصبح يجتاح كل تفاصيل حياتنا العربية. ففي واقع كهذا أعتقد بأن الشعراء العرب خاصة جديرين بابتكار ضرب خارق من الروح المتماسك النقيض للحالة العربية التي تروج للشتات وتكرسه و تحميه.
إن مشروعاً فاتناً كالذي تقترحه يا نوري يمكنه أن يكون لقاءً مغايراً لكل أشكال التجمعات الأدبية العربية التي صارت كيانات أكثر رسمية من السلطات ذاتها. وكلما صار هذا اللقاء مفتوحاً على الأفق تيسر له أن يحقق كشفاً يليق بواقع المؤسسات العربية تلك. وعندما ينجو هذا المشروع من كل علاقة بالسلطات العربية (بشتى تجلياتها) فان جيلاً شعرياً يمكنه، بعناصر رؤيوية حرة. أن يقترح على الواقع الثقافي العربي أسلوبا جديداً من التجمعات. أسلوب لا يرى في اللقاءات و الندوات ترفاً مادياً يصل إلى حد الرحلة السياحية و الفنادق الفاخرة، لكنها ضرورة روحية وحاجة ثقافية و حضارية تتطلبها طبيعة الحصارات المسلطة على الشاعر العربي. و لذلك فإنني أرى إلى هذا المشروع بالذات كنجاة محتملة من العسف الثقافي الذي تمارسه الملتقيات و المؤتمرات العربية. و أتصور بأن جعل هذا المشروع فضاء مفتوحاً للشعراء العرب (الجدد خاصة ) داخل و خارج البلاد العربية من شأنه أن يحقق خطوة أكثر جمالاً عندما لا يقتصر على ساكني غربة المنفى.
شخصياً، سوف أعتبر هذا المشروع نافذة متاحة للتغلب على حالات الحصار والغربة و العزلة التي تفرضها الظروف المحيطة، خاصة و إنني لم أتوقف عن الإحساس، طوال الوقت، باتصال حميم بأبعد التجارب الشعرية العربية الجديدة في أقصى المدن.

(4)

لماذا يا نوري الجراح لا تقترح علينا أن يكون التجمع باسم (شعراء العرب في العالم ) عنواناً بعيداً عن أية تسمية بيروقراطية و مؤسساتية مستهلكة مثل : تجمع، جمعية، رابطة، اتحاد.. إلى آخره
(شعراء العرب في العالم) بحيث يبدو الأمر وصفاً لحالة "شعرية " حقيقية، وليست تقنيناً لمؤسسة مناقبية مفترضة تقوم على تراث عقيم من تجارب مماثلة في الواقع العربي.
بقي أن نتخيل بأن يكون مقر هذا اللقاء في إحدى العواصم الأوروبية. و يكون مستوعباً شتى الاتجاهات و الاجتهادات، فكراً وفناً. ويعتني بالدرجة الأولى بتأكيد حرية الشاعر إزاء كتابته.
و يمكننا أن نتصور أيضاً لجنة تحضيرية يجري تكوينها لوضع تصوراتها لتفاصيل الخطوط الرئيسية التي تقترحها على الاجتماع التأسيسي فيما يتصل بتحقيق الاستقلال التام عن كافة السلطات (عربية كانت أو أجنبية).
و في تقديري أننا أمام خيار جدير بعالم يتفتح أمامنا ويقترح علينا، و ربما للمرة الأولى، أن نجرب، لمرة واحدة على الأقل، أن نؤمن بلقاء أدبي إبداعي لا تتحكم به الأوهام السياسية، ولا تفسده الاختلافات الأيديولوجية التي عصفت بنا بما فيه الكفاية. ونتفق على أفق إبداعي يزداد رحابة و جمالاً مع الوقت و التجربة، وليس شعاراً سياسياً زائلاً.
و لعل الشرط الذي أشعر بضرورته هو الاتفاق المبدئي على عدم الخضوع لأي نظام عربي أو مؤسسة رسمية عربية. لكي نتيح لهذا اللقاء الحرية الكاملة لأن يحافظ على رؤيته المستقلة لمفهوم حرية الشاعر التي تتجاوز الشعار السياسي دون أن تصادر حرية اختياره فناً وفكراً.
ولابد من التأكيد بأن مثل هذا الموقف من الأنظمة العربية لا نشير إليه باعتباره موقفاً سياسياً و لكنه موقف حضاري من جميع السلطات السياسية في البلاد العربية، هذا إذا أردنا حقاً أن نميز هذا اللقاء عما سبقه.
"شعراء العرب في العالم " يا نوري الجراح فكرة ستجد في الداخل العربي تجاوباً حميماً من أرواح و تجارب شعرية كثيرة تعاني الغربة و العزلة.. و لعلكم تعرفون أكثر هذه الأرواح و التجارب إسماً إسماً من محمدية المغرب إلى قرية "سرور" في عـُمان.
يا نوري الجراح
دعوتك الجميلة.. لم تزل جميلة، وما عليك إلا أن تفتحها لعدد أكبر من الأرواح الشريدة الغريبة.
يا نوري الجراح، شكراً لك لأنك تشاكس واقعنا الثقافي بكل هذه الفتوة والبسالة.
ليس سهلاً تحقيق مشروع من هذا القبيل.. في ظروف كالتي نعيش.
نعرف ذلك.
لكن من قال أن قدرنا اختيار المشاريع السهلة في هذا العالم ؟!
يا نوري الجراح..
يا نوري. *

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى