(1)
"الحرب ممتعة ولذيذة لمن لم يشترك فيها "
(2)
الأيديولوجيا عندنا لا تشترك في الحرب. إنها تقول عن الحرب، تطرح
حولها النظريات، تحرّض عليها ( و أحياناً ترفضها ) لكنها لا تعرفها.
وما علينا إلا أن نتأمل منظرينا لنشهدهم يعبرون الحقب و يضّحون بأكثر
من جيل في حروب و مذابح، ظلوا يرون فيها حلولاً يتوجب علينا أن نبجّـلها،
وكنا كلما آمنا بأملٍ وشيك، طلع علينا أصحاب الأيديولوجيا بالقول بأن
ثمة حرب ينبغي علينا أن نذهب إليها، فنذهب إلى الدماء الكثيرة، فيما
يذهبون إلى الكلام الكثير. فلا نرى النصر لكننا نخسر المزيد من الأحلام
، و يضيق الأفق.. دون أن نرى في الأفق شمساً عربية. فيذهب القتلى إلى
سرير الأرض و يبقى أصحاب الأيديولوجيا ينظّرون في الحرب و السلام .
(3)
إنها أيديولوجيا.
و الأيديولوجيا (عند العرب) كلامٌ على الشيء، و كلام حوله. لذلك لم
يصدف في تاريخنا المعاصر أن أصاب أصحاب الأيديولوجيا نصراً (لا في
الحرب و لا في السلام)، كما أنهم لم يحدث أن اعترفوا بهزيمة واحدة(على
كثرتها). لأنهم ظلوا طوال الوقت يقولون عن الحرب من هناك، من المكان
الذي لا يطاله القتال، و لا تستفزه الحياة، فأصحاب الأيديولوجيا، عندنا،
لا يموتون و لا يحيون.إنهم، فحسب، يقولون. والقول (فن الكلام) ليس
دليلاً كافياً على حضور أو غياب. إنه كلام فقط.
(4)
بين الأيديولوجيا و الواقع مسافة أسطورية، و التحدي الذي يتعامل معه
الإيديولوجيون عادة هو اختراق هذه المسافة. و يظل هذا التحدي شغلهم
الشاغل طوال حياتهم. و في اللحظات الحاسمة التي يمتحن فيها الواقع
الأيديولوجيا تتفجر الحقائق مثل مياه الينابيع و الشلالات.
والحقيقة هي التي تخلق المعادلة الموضوعية بين الشطح الأيديولوجيا
(تيمناً بالفعل الصوفي) و بين صلافة الواقع.
عندنا، بسبب من بنية الإنشاء (من لبنة الكلام) التي تأسس عليها عقلنا،
صارت الأيديولوجيا (التي أقرب إلى العلم عند غيرنا) انحيازا لاواعياً
لصناعة الأدب، راح أصحاب الأيديولوجيا (يقولون) علم كلامهم بضرب من
إنشاء اللغة. بصورة مستقلة، متباعدة، عن شرط العلم الصارم. و أخذت
الأيديولوجيا تتحول، من كونها صادرة عن معطيات الحياة و الواقع و حركة
المجتمع، إلى تجليها في صورة اقتراحات على هذه الحياة و الواقع و حركة
المجتمع. و تنثال هذه الاقتراحات على سطح الحياة، و تخوم الواقع، صادرة
من " سكون " غامض في " حركة " الواقع.
وبدل أن تعمل (ناهيك عن تنجح) الأيديولوجيا في ردم المسافة بينها وبين
الواقع، نراها، عندنا، تمعن في الانقطاع، و مضاعفة تلك المسافة.
ويلـذّ لهؤلاء، مثلاً، فيما يديرون آلاتهم الأيديولوجية، أن يروا في
شعوب كاملة، مخلوقات لم تبلغ الرشد وهي ترفض الخضوع لنظام قمعي، أعلن
جهراً فشله الفادح في تحقيق الأحلام، لكنهم يكابرون. هؤلاء، فيما يصرون
على التضحية بتلك الشعوب من أجل وهم التوازن العالمي حيناً، و النظام
العالمي الجديد حيناً آخر. لنرى مَـنْ ظل طوال السنوات يقود البطش
بالشعوب، يبدو متقمصاً دور حامي حقوق الانسان و منقذ حركات التحرر
وداعم حق تقرير مصير الشعوب ، ليتاح لنا أن نرى المشهد ضرباً من الفنتازيا
.
وسوف يطيب لأصحاب الأيديولوجيا أن يعتقدوا في هذا المشهد حرب سلامٍ
يتوجب علينا أن نعجب بها، و نشارك في تسعير نيرانها لكي تطال هشيم
واقعنا الذي يشغل المكان.. مثل خيال المآتة، يرهب العصافير و يرحب
بالطائرات.
(5)
و هذا ما يحدث الآن، لحظة الامتحان الصارم.
فما أن سقط أصحاب الأيديولوجيا في براثن مهندسي الكوارث حتى تفاقمت
الأزمة عندهم، كما لو أننا إزاء سيرك أو مجموعة من الحواة و ألعاب
خداع البصر. لقد رأينا، طوال الأشهر الفائتة، كيف كان الطهاة (من كل
الأجناس) يبررون ما يؤيدونه، بتكريس نظرية خلط الأوراق، لكي يدفعوننا
إلى توهم عبقريتهم في طرح الفذلكات النظرية.. كأن باب التغلب على خلط
الأوراق هو الخضوع للعبة.
(6)
لقد رأينا.
أعني ، لا نزال نرى.
ما إن اصطدم أصحاب الأيديولوجيا بحركة الحياة الواقعية، حتى تقلص فعل
العقل إلى حدود (الانفعال). في وقت نعرف أن للفكر دوراً (فاعلاً )
لا ينبغي له أن يتراجع عنه، و لا يتنازل عنه، و لا يقايض به، و لا
يساوم عليه.
دور الفعل هذا، يستدعي أن يكون الفكر قائداً و ليس تابعاً. و إذا كان
للأيديولوجيا مكان في هذا المشهد فانه ليس (الكلام) عن الحرب، و الترويج
لأدواتها، و الانتصار لمعطياتها. أكثر من ذلك، ليس له أن يعتبر الحرب
أسلوبا ممكناً أو مقبولاً لحل معضلات الواقع و تجاوز أزماته. كما أن
تبرير أحلام السلام و أوهامها، ليس فعلاً منفصلاً عن تلك التضحيات
التي دفعتها الشعوب من لحمها و دمها ، ولا يمكن أن يصبح ممكناً بدون
أن يؤمن به القلب و العقل معاً، و تختاره الشعوب ذاتها، لا تفرضها
الأنظمة (بمباركة أصحاب الأيديولوجيا) بالنيابة.
الأيديولوجيا، لم تزل ، عندنا، رهينة التصور السياسي، و تابعة له.
ولأن السياسة لا ترى في الواقع إلا حقائق نسبية تتصل بالمثال المتوهم،
فان الأيديولوجيا، و أصحابها المبجلين، سوف يتشبثون برهاناتهم على
ترجيح النسبة التي يعتقدون بها من الحقيقة. لذلك فان صدمتنا بالحضور
(الغائب) الذي اقترحه علينا أصحاب الأيديولوجيا.
أصحاب الأيديولوجيا هؤلاء طاب لهم التوهم أنهم ماداموا في حدود الكلام
عن الحرب، أو السلام، فهم في منجاة من نيرانها، أو احتمالات اخفاقاتها.
وماداموا أضعف من التأثير في مجريات المشهد، فلا أقل من التأثر بأمزجة
مهندسيها.
(7)
لدينا أيديولوجيون، لفرط سطوة الإنشاء عليهم، لا يزالون يخلصون لعناصرهم
المكونة القديمة، حيث " السيف أصدق أنباء من الكتب .. "
أو ".. إذا جنحوا إلى السلم "، دون أ ن يتاح لنا أن نعرف
لماذا كان (السيف) هناك، وكيف صار (السلم) هنا. مما يفاقم الإعاقة
الحضارية التي تفتك بنا، هاهم يقولون عن العقل فيما يصدرون عن المزاج.
فالــ (غاية التي تبرر الوسيلة) ، عندهم، هو شعار يمكن تعديله حسب
" اللحظة التاريخية ".
(8)
قل للمشغولين بخشبة النجاة
أن البحر ليس هناك
و أن الشواطئ أسلاك شائكة
للقاطن و المسافر. *
|