مسألة العولمة

(1)

غالبا ما ينتابني القلق أزاء المصطلحات التي يجري تداولها في حقول الخطاب العربي خصوصا حين تؤخذ هذه المصطلحات بوصفها تفصيلا من سياق حضاري آخر مفصولة عن ذلك السياق بحيث تبدو ضمن تداولنا كما لو أنها حقيقة ناجزة واضحة المعالم مكتملة الحضور في الثقافة العربية

وهذا ما جعلني طوال الوقت حذرا مع مصطلح مثل الحداثة الذي يجري تداوله في الحقول الأدبية والفكرية منذ سنوات بالرغم من إتصاله المباشر بالحقل الذي أشتغل به أدبيا ليس رفضا جوهريا لطبيعته الحضارية ولكن تفاديا للزعم بإدراكي الواضح له في السياق العربي الذي يصدر عن مجتمع هو النقيض الجوهري في بنيته المهيمنة لكل ما يتصل بالحداثة حسب المعنى الغربي كممارسة وطريقة تفكير وحياة حضارية الحقول الأدبية والفكرية منذ سنوات بالرغم من إتصاله المباشر بالحقل الذي أشتغل به أدبيا ليس رفضا جوهريا لطبيعته الحضارية ولكن تفاديا للزعم بإدراكي الواضح له في السياق العربي الذي يصدر عن مجتمع هو النقيض الجوهري في بنيته المهيمنة لكل ما يتصل بالحداثة حسب المعنى الغربي كممارسة وطريقة تفكير وحياة حضارية
إذن فإنني أقف موقف الشك في طريقة الإستعمال الإتباعي التي يجري بها تداولنا لمثل هذه المصطلحات

(2)

من هنا أرى إلى مصطلح العولمة نظرة مترددة وغير واثقة بكونه متصلا بطبيعة التجربة الإجتماعية للأسرة العربية التي يجري الحديث عنها في هذه المناسبة وربما شعرت بقدر لا بأس به من الشك بأن القفز بالأسرة العربية وقضاياها نحو مفهوم لعولمة هو ضرب من القفز على القضايا الحيوية التي لا تزال الأسرة العربية تعاني منها دون أن تجد لها حلولا حضارية تليق بكونها عناصر إنسانية تستحق التمتع بالحقوق المسكوت عنها في الواقع العربي حقوق يجري تفادي التعرض لها بالجرأة والصراحة والحرية التي تحقق إنسانيتها فليس من المعقول أن نتوقع من الأسرة العربية أن تتصل بمفهوم العولمة الإقتصادية خصوصا وهي لم تزل ضحية حرمان صريح من مناقشة هذه الحقوق التي تتصل بواقعها الإقتصادي في المحيط العربي وإلا فكيف يمكننا النظر إلى الشأن الإقتصادي بمعزل عن الشأن الإجتماعي

(3)

وهذا ما يدفعني لطرح الأسئلة بإيمان ضعيف مع الذين اقترحوا مثل هذا العنوان موضوعا للإحتفال باليوم العربي للأسرة العربية

فهل نالت الأسرة العربية حقوقا حضارية تضعها في مجابهة حالة العولمة لإقتصادية أليست العولمة الإقتصادية هي مفهوم يصدر عن الإستجابة الرسمية لمنظورات النظام العالمي الجديد الذي يقترح علينا في السنوات الأخيرة منظومات اقتصادية تكرس تبعية التنمية العربية للآفاق الغامضة التي تخدم مشروع غربنة العالم ومن بين هذه المنظومات إتفاقية الجات التي تجعل المجتمع العربي في ذيل العربة الرأسمالية بدون التمتع بالمكتسبات الجوهرية التي نالها المجتمع الغربي حضاريا مع الملاحظة بأن الغرب على الصعيد الحضاري ليس غربا واحدا بمعنى أن الموقف النقدي من حضارة الآخر يتوجب أن تضعنا في مواجهة التعدد الغائب في الواقع العربي الذي يجعل من الغرب درجات مختلفة تتطلب النظر إليه بوصفه مشهدا لا ي -قبل كله ولا يرفض جميعه فكيف نرى الأسرة العربية في ضوء هذا المشهد الحضاري الشاسع

(4)

بالطبع هذا ليس سؤالا بريئا ولكنني بالفعل لا أشعر بأن الأسرة العربية في حالة تجعلها تتعامل مع العولمة بوصفها شرطا إقتصاديا مادامت الشروط الذاتية والموضوعية مصادرة في المشهد العربي ولكي لا تتحول مثل هذه المناسبات أسلوبا لترويج الخطابات الفضفاضة وبالتالي تكر يس التغييب العنيف لمتطلباتنا الإنسانية الأولية عن طريق القفز بنا إلى مصطلحات عمومية توحي بتحضرها في حين إنها تعمل بوعي أو بغير وعي على تفادي مواجهة القضايا الجوهرية لحياتنا العربية ألا تحتاج الأسرة العربية إلى أشياء كثيرة قبل الكلام عن العولمة

أقول لكي لا نبالغ في التورط بهذا المأزق أقترح أن لا نقبل مثل هذه المقترحات العربية والعالمية دون التريث لمعرفة ما إذا كنا مؤهلين حقا للتصدي لأبعد قضايا الكون قبل أن نجرأ على التصدي لأبسط الحقوق الإنسانية التي تعاني من غيابها الأسرة العربية بوصفها الخلية الأولى للمجتمع العربي

(5)

ثمة ما يدعو إلى التأمل في الأمر فلكأن هناك من يريد منا الخضوع لمشروع غربنة العالم بعد أن كان الغرب يحتلنا ويستثمرنا عسكريا وماديا والغربنة ضمن خطاب النظام الغربي تعني جعل العالم تابعا لآلة الإنتاج الإستهلاكي بشتى تجلياته دون الإكتراث لحاجتنا للشروط الأولية التي تجعلنا قادرين على معالجة واقعنا بالآلية الحديثة القائمة على حريات النظر والعمل والحياة و الإنتاج

فحين يقال عولمة يتوجب أن تتوفر لدينا إرادة تحقيق هذه العولمة بروافع وشروط إنتاجية وتنموية فكرا وحياة تصدر عن وعي وممارسة حديثين بالمعنى الحضاري للكلمة لئلا نصاب بصدمة تؤكد لنا بأن الأسرة العربية هي في نهاية التحليل ضحية مسبقة لهذه العولمة

(6)

ليس في الوارد تصديق إمكانية إتصالنا بالحداثة وكافة تجلياتها بما فيها العولمة ونحن نعيش تحت وطأة أكثر الأنظمة الإجتماعية والسياسية تخلفا ورفضا للحداثة فكيف يمكن تحقيق عولمة أسرة في مجتمع متخلف وربطها بمنظومة تفارقها حضاريا بمسافات شاسعة من آلية الإنتاج حيث إرتباط التنمية بدمقرطة المجتمع وحريات مؤسساته وإتصالها حياتيا بنشوء التقنية وممارساتها اليومية

كيف يمكن أن نفهم (العولمة) مفصولة عن كل تلك الشروط إلا إذا كنا مستعدين للخضوع للأوهام ذاتها التي تريدنا حكومات الشركات العابرة للقارات أن نصدقها كبوابات مفتوحة مثل أشداق الوحش نذهب إليها مستخدمين مصطلحات لا علاقة لها بواقع حياتنا لتتحول (هذه المصطلحات) مادة غامضة للأستخدام الإعلامي نستهلكها لكي نشعر بأننا (مثل الآخرين) غير أنهم يستخدمونها باعتبارها عنصرا بنيويا لحرياتهم في حين نستخدمهاوبالأصح تستخدمناكعبيد

(7)

أليس من الأجدى قبل كل شيء أن نضع هذه المصطلحات التي نتداولها أمام سؤال حياتنا اليومية ونحاول معرفة مدى إتصال الأسرة العربية بالمعنى الحياتي والعملي بالعولمة. فبدون هذا الإختبار سوف نصادف فجوة هائلة بيننا وبين الواقع كأننا نستخدم خطابا لواقع آخر متوهمين بأننا نعالج قضايانا في حين أننا نستجيب لشروط خضوعنا لمنظومات لا ترى فينا غير مادة خام قابلة للإستثمار

فالذهاب الكاسح نحو إقتصاديات السوق الرأسمالي بمعزل عن الحريات بات يشكل تهديدا ماثلا لبنية الأسرة العربية حيث منظورات مثل الخصخصة تصبح تشريعا يبرر تخلي المؤسسات الحكومية عن مهماتها الإجتماعية تاركة الإحتياجات الحيوية التي كانت من مهماتها التقليدية في مهب التنافس الإقتصادي الحر تتعامل لئلا نقول تتلاعب بها المؤسسات الإقتصادية كمشروعات رأسمالية وليست كمهمات إجنماعية تتطلبها التنمية الحضارية

الأمر الذي يجعل الأسرة العربية معرضة لفقد مكتساباتها التقليدية فحقول مثل التعليم والتربية والصحة والثقافة والضمانات الأخرى أضحت مشاريع تجارية خالصة ينزع القائمون على (خصخصتها) إلى تحويلها إلى ضرب من الإستهلاك يتحكم بها القطاع الخاص لتتضائل نوعية هذه الخدمات في القطاع العام ويجري التقنين النوعي للخدمات ذاتها في المشروع الخاص فتتحول هذه الخدمات من حاجات ضرورية متاحة للجميع إلى مظهر إستهلاكي عرضة للمزايدات التجارية

وبالتالي لا تناله إلا شرائح أجتماعية محددة لا نستطيع الجزم بأن الأسرة العربية في مجتمع فقير في معظمه قادرة على التمتع به. وبطبيعة الحال فإن هذه الخصخصة سوف تقوم على منظومة إعلامية تمتلك هي الأخرى آلة هائلة ترو ج وتكرس ذهنية إستهلاكية تفرغ المشاريع التنموية من جوهرها الإنساني لتصبح مظهرا إجتماعيا يرتبط بالتجيهل الثقافي في المجتمع وهو يفقد مقوماته

من هنا سوف تتعرض الأسرة العربية دائما لفقد دورها كوحدة إجتماعية تحت وطأة المنظورات الإقتصادية التي تتعامل مع أشياء الحياة بوصفها تجارة تقوم على الربح والخسارة المادية مستجيبة لتطورات الوضع العالمي

وشيئا فشيئا سوف يغيب عنا البعد الإنساني حيث كل عناصر حياتنا تتحول إلى مشاريع إقتصادية والذي يضاعف خطورة هذا الوضع أننا نلاحظ إلى أي حد يجري الكلام دوما عن الحريات الإقتصادية في حين تحاص ر نزوعاتنا للكلام عن الحريات الأخرى بمحاذير مركبة تبررها أطروحات الأمن الإقتصادي دون الإعتبار للأخطار التي تحدق بشروط الأمن الإجتماعي الذي تفقده الأسرة العربية يومآ بعد يوم لنتأكد أننا نعود بالفعل إلى مجتمع الرقيق تحت مظلة عريضة من الخطاب العالمي عن إقتصاد لا إنساني

(8)

ثمة مشروع ثقافي غربي يمتلك شروطه الكونية تقصر عن مجاراة أساليبه ثقافتنا السائدة لكونها ثقافة إعلام وحيدة النظر مفصولة عن جوهرها الإبداعي الحر للبشر في هذه المنطقة من العالم. الأمر الذي يتيح المجال لحالة من الإمتثال والإستقبال السلبي يجبر الإنسان العربي للغياب والنفي المضاعف عن الدور الفعال الذي يتوق إليه. لنرى كيف يحقق المشروع الثقافي الغربي (بعنصره الإستغلالى) غربنته لحياتنا بخطاب عنيف زاخر بالمصطلحات التي نتلقاها كأقونات مقدسة نحاول نزيين مظاهرنا بها مغفلين شروطها الحضارية المفقودة في يومياتنا البائسة

و من جهة أخرى سوف تتخذ المنظومات العربية الرسمية من هذا المشروع الثقافي الغربي خطابا بديلا لمشروع ثقافي عربي مغيب / مصادر عاجز يؤدي إلى تبعية المواطن العربي (أسرة ومجتمعا ) للنظام العالمي (الجديد). وتظل تلك المصطلحات (البريئة للوهلة الأولى) زينة من شأنها أن تشبع شهوة الإستهلاك الثقافي في مجتمع موغل في التخلف والعسف. لا يسمح له بإنتاج حياته وي دفع به لإستهلاك كل شيء مجانيا وبقشور كثيفة من الكلام

(9)

من هذه الشرفة كيف لي أن أتفادى النظر إلى الأسرة العربية بوصفها الخلية الهشة المحرومة من أبسط شروط الحياة الكريمة والحرة والآمنة وبالتالي المنتجة في تنمية تتصل بحياتها الكونية. وكيف يمكنني أن أصدق بأن العولمة الإقتصادية يمكن أن تعني لمثل هذه الأسرة مصطلحا يتصل عمقيا بحياتها

وكيف يتسنى خصوصا للأسرة العربية إدراك وممارسة دورها في العالم قبل أن تنال حريتها في ممارسة دورها الحضاري في بلادها مجتمعها حياتها بيتها

إنني أشعر حقا أن الكلام عن العولمة في مثل واقعنا هو ضرب من السخرية الكونية لا تليق بنا ولا ينبغي الخضوع لمعطياتها دون الموقف النقدي الجوهري للملابسات العربية والعالمية التي باتت ترو ج المصطلحات الغامضة لتغييب حاجتنا لحرية البحث في قضايانا الأولية فالإنسان المحروم من حريات البحث والعمل والأنتاج لا يستطيع أن يكون متصلا بالعالم الحديث إلا بوصفه عبدا

 
 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى