1
ثمة من يعتقد بأن ظاهرة العدد الكبير من الإصدارات الشعرية الشابة
ستدعو دوماً للقلق.
لكن هذا الشعور سيبدو متواضعاً بالقياس للذين يعبرون عن مشاعر الذعر
والغضب تجاه هذه الظاهرة. كما أننا سنصاب بمايشبه الصدمة عندما نراقب
سرادقات الحرب والإستعداء منصوبة في العديد من منابر الثقافة العربية،
كما لو أنهم فرغوا من كل الحروب، لكي يجهزوا على البقية الباقية من
نبض هذه الأمة التي توشك على الإنقراض لولا فسحة ... الكتابة.
2
لا أستطيع أن أفهم أن يرى مثقفاً في كثرة التجارب الشعرية (بشتى اجتهاداتها
وإخفاقتها أيضاً) خطرآً يهدد الواقع العربي، مادياً أو معنوياً. نحن
الذين نقع تحت وطأة أخطار وكوارث العالم كلها، لماذا يكون مجرد كتاب
- يقترح فيه شخص محاولته في التعبير عن نفسه، فيفشل أو ينجح - جريمة
تستوجب المحاربة والعقاب ؟
لا أجد في الكتابة ما يستوجب هذا الإعلان على الإطلاق. ليس لأن كل
ما يكتب ، قاطبة، هو من الإبداع الشعري، ولكن لأنني أشعر، من واقع
التجربة التي أصبح الجميع يدركها في العمق، ويتغافل (أو يغفل عنها
في الظاهر)، أنه ليس للكتابة، فعالية مباشرة يمكن أن تؤثر في الواقع
المادي لحياتنا. وبالتالي فإن الكتب الشعرية التي تصدر في الساحة الثقافية،
إنما هي نافذة أخيرة وحيدة يتوجب أن نتشبث بها، مهما كانت طبيعة التجارب
والمحاولات والإجتهادات التي تظهر في هذه الكتب. فالذين يتصدون لهذه
الظاهرة، تحت زعم أنها تخريب للأدب والشعر، معلنين الدفاع عما يزعمون
أنه الأدب أو الشعر، لا يفعلون سوى الإنحياز لجانب المصادرات التي
نتعرض لها منذ وعينا على هذا العالم، وهي مصادرات سوف تأخذ هنا مظهر
الدفاع عن القيمة الأدبية، لتساهم في عقلية تهيمن على عقل عربي ينزع
نحو مصادرة كافة أشكال القول والتعبير والبوح نافياً طبيعة الحوار
بين الكائنات. وإذا نحن تأملنا ظاهرة كثرة محاولات التعبير الأدبي
(شعراً وغيره) في بعدها السوسيولوجي، لابد أن تتكشّف لنا حالة الإنسان
العربي وهو يفقد الأمل في نيل حرياته المشروعة القائمة على حق العلنية
كأي كائن في مناطق كثيرة من العالم .
من هنا علينا أن نتفهم هذا النزوع اللاواعي لدي العديد ممن يبدأون
في الكتابة للبوح عما ينطوون عليه من توق إنساني لا تتاح له طرائق
وسائل التعبيرالأخرى. لذلك سوف يجد في التماهي مع أشكال تعبير أدبية
وشعرية رائجة شكلاً من أشكال كسر هذا الحصار الخرافي الذي يسوّر كافة
الأحلام التي يذهب إليها. وإذا كنا لا نقبل هذا التفسير السوسيولوجي
مبرراً لما يحدث، إلا أننا نجد في تفهمه شكلاً مشروعاً من أشكال التضامن
المعنوي لحالة لا إنسانية يعيشها الكائن العربي من الماء إلى الماء،
خصوصاً إذا لاحظنا أنه يغلب على المنابر التي تقود حملة التصدي لهذه
الأشكال التعبيرية الموغلة في الشطح والخروج، هي منابر تقع تحت هيمنة
وخضوع المشروع السياسي المهيمن، مما يرفد أشكال المصادرات الأخرى في
حياتنا. فما دام الإنسان يعيش في القفص العربي، سيكون من حقه أن يعبر
عن توقه في كسر هذا القفص، والكتابة هي أحد أهم الوسائل الذاتية التي
مازالت قادرة على الإحتفاظ بنفسها بعيداً عن سطوة المؤسسة السياسية
الرسمية، مما سيؤدي حتماً بتلك المؤسسة إبتكار الوسائل للوصول إليها
ومصادرتها.
3
ليس في هذا القول حكم قيمة على المحاولات الشعرية التي نرقب تفجرها
بين أيدينا يومياً، وبأشكال لا نهائية في الإجتهاد . على العكس، فإنني
أميل الى التفاهم مع هذه الإجتهادات بوصفها حقاً مشروعاً للإنسان في
المطلق، وبالتالي من الأفضل قراءتها بالرحابة نفسها التي تجعل من الريح
شرفة يمكن أن تحمل جميع الأجنحة لكافة الطيور، كما تنقل كل أنواع العطور
من الأزهار، دون أن تزعم أنها تخشى على الطبيعة من جوارح الطير وشهوة
الشوكران.
ترى ما الذي يغير في حركة الكون والكواكب والنجوم عندما يطبع شخص
كتاباً لا يعجبني، أو لا يكون حظه في النجاح الفني مقنعاً لي أو لك
أو لغيرنا ؟
لماذا يتوجب فقط رفض ومحاربة هذه المحاولة الصغيرة للإنسان الصغير
في الكون، فيمانسكت عن الخراب العظيم الذي نتعرض له يومياً، لكوننا
لا نملك حق الإعتراض على ظلم يقع علينا أو عسفٍ يصادر إنسانيتنا على
مستوى البيت والشارع والوطن والأمة والعالم ؟
هل نحن أمة تحسن الفتك بنفسها عندما لا تقوى على صدّ العدو الذي يهدد
كيانها؟
إنني أطرح الأمر على هذه الشاكلة، لكي أفتح البعد الكوني لسلوكٍ أصبح
تقليداً أخلاقياً، سلوكٌ يزعم الزاعمون أنه أحد أشكال الدفاع عن تراثٍ
يتعرّض للتخريب من قبل فتية لا يفقهون البحور فيكتبون نثراً، ولا يحسنون
الأدب فيفسدون الذائقة العربية، كما لو أن البحور والأدب والذائقة
هي الأشكال المقدسة التي لا يجب أن تمس ولا تخدش، ولا يجوز أن يخطئها
الكاتب، وهي المادة التي ابتكرها بشرٌ خطّاؤن مثلنا ، وربما أكثر منا.
4
أقول هذا وأنا أرقب، منذ سنوات، الموقف التعسفي الذي يستفحل ويتفاقم
ويكرس النظر المتعسف للتجارب الأدبية والشعرية الجديدة خصوصاً، كما
لو أن حرباً منظمة يتوجب علينا أن نؤمن بشرعيتها ضد من يخرجون على
سليقة العرب، بحجة التراث الأدبي وكأنهم يعنون الدين. وظنّي أن في
هذا خلط كبير لا يتوجب أن نقبله، ولا يتوجب أن نرى ضرورة استصدار شهادات
حسن السير والسلوك ممن لا يتفقون، أو لا يعجبون بالجديد لمجرد أنه
جديد وأنه لا يروق لمزاجهم.
أقول هذا، ولا أستثني، فيما أرقب، حتى الذين يقولون بالتجديد، وربما
كنت سوف أعنيهم خصوصآً، لأنهم بدأوا في الأونة الأخيرة يتخذون المواقف
التعسفية ذاتها التي عجز عنها المحافظون، وسأمها التقليديون. وظني
أن في هذه المواقف ما يدعو للرثاء والشفقة، فليس من شأننا أن ننفي
حق الأجيال الجديدة في التجربة الحرة غير المحدودة، ونحن الذين صدرنا
عن الحق نفسه عندما بدأنا محاولاتنا المبكرة قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
وإذا كانت بعض المحاولات الجديدة لهؤلاء الفتية لا تروق لبعضنا، ويرفضها
معظمنا، ويتحفظ عليها الجميع، فذلك لأنها طبيعة أشياء الحياة. وليس
من العدل أن نزعم أننا دعاة التجديد ثم نصادر حق غيرنا في النظر إلى
قضايا التجديد وأشكاله بالطريقة التي تروق لهم.
5
إنها احتمالات المستقبل التي ينبغي علينا النظر إليها بوصفها إقتراحات
تقبل الأخذ والرد في كافة الأحوال. وإذا جاز لنا القول بأن ما يتراكم
بين أيدينا الآن، من محاولات وإصدارات شعرية شابة وفتية ومتحمسة، سوف
لن يصمد منها مستقبلاً إلا النادر القليل، فمن الحق أن نتيح لكل هذه
الأصوات أن تقول ذاتها بالحرية ذاتها التي يستدعيها حق الروح في الهواء.
وليس من شأننا إطلاق أحكام القيمة المسبقة صادرين من منظوراتنا التي
نشأنا عليها، والتي من المتوقع أن لا تكون مناسبة لتجربة مغايرة ومختلفة
تمعن في الخروج عما ألفناه وزعمنا أنه الطريق الملكية الوحيدة للشعر.
وسوف لن يكون موقفنا مفهوماً ومقبولاً وحضارياً، فيما نطرح ملاحظاتنا
حول التجارب الجديدة، إلا إذا تجاوزنا الإرتجال الذي تمارسه الصحافة
الثقافية السائدة، وعملنا جدياً على العمل النقدي المتأمل المتفهم
لهذه الإصدارات بصورة تطبيقية بعيدة عن المواقف المسبقة والأحكام العمومية
الظالمة، التي تضع جميع الإجتهادات في سلة واحدة، غالباً ما تكون سلة
مثقوبة في ما بين الكتفين.
6
أزعم أنني قريب بشكل أو بآخر من معظم الإصوات الشعرية العربية الجديدة.
و أزعم أنني أتعاطف معها بالصورة التي ترشحني لتحمل مسؤلية من ينتمي
للمستقبل بجدارة الحلم. وليس لي أن أخفي هذا الحماس الغامض الذي ينتابني
كلما قرأت نصاً أو تجربة لأحد الشباب، كما لو أنني أوشك على القول
بأن ثمة إشارة قوية للمستقبل هنا، ونجمة بارقة في ذلك الأفق. هذا الشعور
الذي يجعلني أتسامح كثيراً في النظر إلى هذه التجارب، ولعلني كلما
رأيت عسفاً يقع عليها بالغتُ في تسامحي، لئلا ينتاب هؤلاء الفتية يأسٌ
أعرف أنه كفيل بقتل الروح في موهبة محتملة. موهبة، إذا توفرت، لا يجوز
التفريط بها لمجرد أنها لا تزال تتلعثم مثل طفل يتعلم الطيران بريش
أقل من الهواء.
ثمة من يعلن الحب على تجارب هؤلاء الفتية، أنا أحدهم. ولديّ من الثقة
في أن إنحياز المبدع للمستقبل هو أحد أهم شروط الحوار مع أي جديد يطرأ
على حياتنا، وليس مثل جديد الكتابة يغري بالحب والحوار معاً. فأنت
لا تستطيع أن تتفاهم وتتفهم شيئاً تناصبه العداء. أزعم هذا الحب وأنحاز
لهذا الحوار، وأذهب إلى المستقبل لكي أنظر إلى هذه التجارب.*
|