1
هل ينبغي علينا التريث قبل أن نضع أنفسنا في القراءة ؟
إننا لا نقرأ النص الأدبي لكي نفهم ( بعضنا يأتي مدججاً برغبة المعرفة،
كما لو أنه مقبل على جامع أفكار) ، لكننا نقرأه لكي نقع في نشوة الإتصال
بالآخر، ( بعضنا يعتبر المتعة ضرباً من ترف الحياة ) فالمتعة التي
يمنحنا إياها النص الأدبي لن نصادفها في مكان آخر.
لذلك أرى أحياناً أن الخلل بالنسبة لنا يبدأ منذ اللحظة التي نهم
بوضع أعضاءنا في النص . فإذا جئنا بأعضاء العقل لكي نتفاهم مع النص
الأدبي، سوف نكون معرضين لبعض الخيبة وكثير من الفشل. وسرعان ما نطلق
الأحكام بأن الفشل يكمن في النص. في حين أن احتمالات شتى يمكن أن تجعل
الفشل في مكان آخر غير النص . وبقدر كبير من المكابرة (لئلا نقول الإدعاء)
يثق البعض بأن عدم اعجابه بالنص هو حكم قيمة ناجز بفشل النص، أو أن
الأدب ليس هذا. لذلك تبدو القراءة ، بشكل من الأشكال، هي أحد الفنون
التي يتوجب إعادة النظر في مكوناته، التي باتت غاية في التعقيد (بعضنا
ينزع إلى أن البساطة هي أحد شروط النص الأدبي ، دون أن يكون واضحاً
لنا المعنى المحدد للبساطة التي يعنون).
2
ليس في النص الأدبي ما يشبع غرور المأخوذين بالمعرفة، فللمعرفة حقول
أخرى يقدر القارئ على تناولها . ففي الأدب أنت أمام كتلة من المشاعر
والحالات في سياق من الصور . و ما عليك إلا أن تضع أعضاء الحواس في
مقدمة أدواتك وأنت تقبل على النص الأدبي لئلا تصاب بالخيبة. الحقيقة
التي تُغفل دائماً هي أن الأديب ليس عالماً مكرساً لمنح المعرفة، إنه
فحسب روح مكنوزة بالأحاسيس ، وقد لا يكون تدفق هذه الأحاسيس قائماً
على المنطق ، بل أنه في الأغلب أبعد ما يكون عن المنطق. وربما كان،
خصوصاً، ضد المنطق، لأنه شكل من الشظايا التي تسردها الأعماق. مَنْ
منا يزعم أن مكنوز أعماق الإنسان واضحة منظمة متماسكة وتصدر عن العقل؟
إذا تيسر لك تفهم هذه الحقيقة، ربما أسعفك الحظ لتتصل بالروح الغريبة
وهي تبوح لك بأسرارها، ليتخلق بينكما حوارٌ عميق لا يقبل التفسير.
وحذار أن تحاول التفسير (بعضنا ينسى أن التفسير يفسد روعة الفن).
كأننا، في كل مرة، نحتاج لأن نبدأ من بديهيات العمل الفني، في محاولة
لتفادي سوء الفهم (الذي يتبعه سوء التفاهم) بين النص والقارئ .
3
أن تقف أمام النص في قلب طفل .
هذا هو الفن منذ الخليقة . فكل شيئ في حضرة الفن يتصل بموهبة التعرف
على عواطف بالغة البكورة والعذرية. فمثلما الأديب لم يكن يعرف شيئاً
أمام النص (فيما يكتب) لأنه مكتشف أول، فإن القارئ لم يكن يعرف شيئاً
أمام النص (فيما يقرأ) لأنه مكتشف آخر. الطفولة هي شرط الجمال الأول
الكامن في العمل الإبداعي. فأنت في حالة القراءة لا تتعرف على ما تألف
، لكنك تكتشف ما لا تألف . فالذي تألفه هو الماضي . النص الأدبي يأتي
على مثال نموذج غير مسبوق، وهو بالتالي نموذج ذاته، لك أن تنظرإليه
بإعتباره جديدك الشعوري، حيث الأدب هو ضرب من الشعر ، حيث الشعر نقيض
العقل . (بعضنا لا يريد أن يقبل هذه الحقيقة فيأتي إلى الأدب في حالة
عقلانية خالصة).
شعرية العالم تبدأ من هذه الحقيقة المتناهية الصغر والأهمية في آن.
فعل القراءة، من هذه الشرفة، فعل إبداع شعري يمتلك جماليته وخصوصيته
الإنسانية التي يذهب إليها النص منذ اللحظة الأولى.
4
لماذا إذن نستهين بمسألة القراءة، إذا كنا نريد أن نحسن التفاهم مع
الأدب ؟.
لماذا لا نرى الى النص الأدبي بإعتباره الصديق الجديد الذي يتوق الى
قرين لا أكثر ولا أقل.
(بعضنا يرى الأصدقاء بوصفهم مراجع ، في حين من الأجمل أن نعتبرهم ملاجيء)
.
النص هو أيضاً ملجأ أرواح . *
|