1
يحلو للكثيرين ممن يطرحون الكلام عن المثقف، التأكيد، في ديباجة فخمة،
عن صعوبة تحديد تعريف المثقف ودوره. وسوف يسوقون ما لا يقاس من استشهادات
تسهم في غموض المفاهيم، دون أن تعوزهم المقولات الكثيرة التي تتداخل
وتتعارض وتتناقض، مجتهدةً في توصيف المثقف. ولن يستريح البعض حتى يؤثث
للقارئ مشهداً غامضاً يجعله يتخيل المثقف مخلوقاً خرافياً، هلامي الملامح،
لا يقبل التحديد. وسوف نرقب قطاعاً كبيراً من المثقفين العرب يقدرون
على تكريس هذا الغموض، في سبيل التعمية (أو على الأقل التمويه) على
الأدوار التي راح بعضهم يمارسها. ومن أسفٍ أن التنظير الذي يسود، عربياً،
حول غموض الطبيعة الإجتماعية للمثقف، هو الذي جعل بعض المثقفين يسهمون
في خلق المناخ الملائم لتدهور التجارب التي قدم فيها الشعب دمه مسفوحاً
في البواليع، دون أن يتبرع المثقفون أنفسهم (بعد كل هزيمة) أن يمارسوا
نقداً عملياً، ويعترفون، أمام خلق الله، بأن دوراً فاشلاً قد تورطوا
في انجازه، وآن لهم أن يصارحوا أنفسهم بهذه الحقيقة، لئلا يتركوا غيرهم
يمعن في تشويه طبيعتهم الجوهرية القابلة لتجاوز الذات. من أسفٍ أن
هذا لم يحدث، فهذا سلوك حضاري لا يمكن أن يحدث في غياب روح ديمقراطية
يتطلبها. وبهذا سوف نرقب مرة بعد الأخرى نفس المثقفين يخوضون التجارب
بواسطة طاقات الشعب وهدر مقدراته ونضالاته مرة بعد الأخرى.
2
لماذا ينبغي أن نصدق بأن طبيعة المثقف هي من الغموض بحيث لا تقبل
الوصف؟
لماذا لا نرى في المثقف موقفاً واضحاً (أياً كان هذا الموقف) أمام
الحقيقة وأمام الواقع في آن ؟ (حيث، ثمة حق وثمة باطل ، وما بينهما
باطل). هل يمكن أن يصل حق المثقف في العيش إلى حد التهاون عن دوره
في سبيل المحافظة على مصلحة شخصية ؟
وكيف تتكون للمثقف مصلحة في المجتمع بمعزل عن المستقبل ؟ هل ينبغي
علينا أن نقبل بقانون النخبة الى الحد الذي نتوهم فيه بقدرتها على
خلق معادلة بين النظام والشعب لئلا تفقد دورها التنويري في المجتمع
؟ لقد تفاقمت مثل هذه الأطروحات إلى درجة أنها سوّغت للعديد من المثقفين
أخذ نضالات الشعب الى التهلكة، وابتكار الوسائل والأساليب (لإقناع)
النظام بحق الشعب في الهواء. يبدو أن النظام العربي تمكن من استدراج
هؤلاء، وتجريدهم من دورهم، لكي يظهر المثقفين في صيغ ملتبسة وغامضة
ومريبة في أكثر الأحيان، حتى أننا لا نكاد ندرك ما إذا كان هذا المثقف
حاضراً في دوره الشعبي أم أنه أداة فاعلة ضمن آليات النظام. وبرغم
إدراكه لهذا المأزق الذي يتخبّط فيه، نخشى أنه يساهم في تكريس ذلك
الغموض الخرافي الذي لا يقبل التوصيف، لكي يبرر التداخل بين علاقته
الغامضة بالسلطة وبين تشبثه بتقمص دورٍ يتفلّت منه . حيث لا يريد أن
يفقد ذهب المعز، وفي الوقت نفسه يحلم بأن يبقى في ظل شجرة الشعب الوارفة،
التي تمنحه راحة الضمير ومشروعية الوجود .
3
لعل المتغيرات الإقتصادية التي تعرض لها المجتمع العربي في العشرين
سنة الأخيرة، هيأت لمثل هذا الشرك، التي أصبح النظام العربي يحسن نصبه
للفئات التي تأتي إلى المشهد محكومةً بتطلع مزدوج : الطموح الشخصي
وشهوة الموقع الإجتماعي. ولن تعوز النظام الوسائل لإشباع هذه التطلعات،
مادام الأمر يصبّ في سبيل تبرير الأمر الواقع وتزكيته وتكريسه. وبعد
ذلك سوف يكون متاحاً لهؤلاء الكلام عن أحلامهم والمطالبة بكل ما يدور
في بالهم، و رفع الشعارات التي تمنح النظام العربي مشروعيته. وربما
أصبح هؤلاء بالتالي على استعداد لتلفيق تاريخ آخر، تقترحه آلية النظام،
ينسجم مع مشروعها . من هنا، سوف يقع بعض المثقفين في ملتبس ٍمن التنظير
لا يزيدنا إلا يأساً من الواقع وشعاراته. ترى هل ينبغي علينا أن نفهم
مصطلح المثقف (العضوي) معكوساً، بمعنى أن يصبح المثقف (عضواً) في آلية
النظام لكي يصلحها (من هناك)؟ وأين تكمن المسؤولية الحضارية للمثقف
إذا هو تحوّل إلى أداة ترى إلى المشهد الإجتماعي من شرفة النظام وليس
من أفق المستقبل ؟
بعد ذلك كله، كيف نفهم مايقصده مثل هؤلاء المثقفين بالحريات، وهم
يعيدون تركيب صورتها أمامنا بصيغ متعددة، ممتثلين للشروط التي يطرحها
النظام، ليقوموا، ثانية، بإقتراحها على الواقع كخيار وحيد ... قبل
الهاوية، لنحصل أخيراً على هوامش تأتي على الأمر الواقع، ونجد أنفسنا
في السلوك نفسه الذي تذهب إليه نظرية (تجسير الفجوة) التي تبرع بها
بعضهم منذ سنوات.
4
من المؤسف إننا لم نتمكن بعد من إنجاز الموقف الصارم للمثقف إزاء
النظام العربي واضحاً، موحداً، وغير (ملتبس). فقد استطاع هذا النظام
أن يحقق مسخاً للمثقف، من شأنه أن يعرض كل مشاريع الحلم العربي للمتاجرة
حيناً وللمزايدة حيناً آخر. هذا الحلم الذي اجترح المجابهات التي كان
اسمها (نضالاً)، فأمست عرضة لأن يعتبرها الكثيرون الآن شطحاً متطرفاً
لا يعترف بالأمر الواقع (أي قبوله بإعتباره أهون الشرور، وهي كثيرة
على كل حال)، لنكتشف بأن المقصود بالأمر الواقع شيئ يتصل بالمتغيرات
الجذرية التي تحدث على الصعيد العالمي من جهة، وانكشاف التماهي الخطير
للمثقف من جهة أخرى. الأمر الواقع هذا يصدر عن رغبة المثقفين في (إقناع)
الشعب بأن تلك المتغيرات وهذا التماهي دليل على أن سبل التغيير لن
تحدث إلا عن طريق (إقتناع) النظام بضرورة هذا التغيير، وهذا الإقتناع
لن يحدث إلا إذا اطمأن الحكم بأن (تغييراً) لن يحدث بغيرالخضوع لشروطه،
وضمان عدم التفريط في سيطرته الكاملة على مقومات النظام ومقدراته وحرية
التصرف بالمستقبل في آن، ودون اتساع المشاركة و المسائلة. الأمر الواقع
هذا زاخر بالوقائع التي أثبتت الفشل المزدوج على صعيدي الحكم والمعارضة
: فالمتغيرات العالمية، بدل أن تؤكد لنا بأن نظامنا بات عارياً أمام
هذه المتغيرات، وينبغى أن يحتمل متغيرات جذرية في بنيته، راح قطاع
كبير من المثقفين يساهم في ترويج فكرة (يتداولها النظام العربي / محافظ
أو مستحدث)، مفادها أن ما حدث (هناك) دليل قاطع على أن إستقرار نظامنا
يؤكد صوابية سياسته (هنا)، و لا ينبغي طرح الشك فيها أوالتفكير بإعادة
النظر في مكوناتها وبناها، ويعتبر هؤلاء المثقفون بأن هذا (الإستقرار)
يعني ثباتاً استطاعت أجهزة الواقع، (المحمية بنظام عالمي قديم / قيد
التجديد) تكريسه بغياب طويل الأمد لكل أشكال الحريات. ومن جهة أخرى
لم يكن لدى هذا القطاع من المثقفين الإستعداد (النقدي) للإعتراف بالفشل
الفاضح لأشكال العمل (أيديولوجياً وتنظيمياً) التي كانوا يعتمدونها،
والتي قدم المواطن من خلالها ما لا يقاس من تضحيات يراد لنا الآن أن
نمسح ذاكرتنا المكنوزة بها، ونستعد لإعتبارها تاريخاً قابلاً للنسيان،
يهدر في بواليع، يُحسن النظام العربي / العالمي حفرها في طريق أحلامنا.
بمثل هذا الدور الذي يؤديه البعض في السنوات الأخيرة، نستطيع أن نفهم
تشويش مفهوم المثقف ودوره في حياتنا العربية، ونتفهم أيضاً حالات التماهي
التي تجعل المثقف بمثابة خيال مآتة يقدر النظام العربي على تنصيبه
لصيانة تخومه، طاردةً به الأشباح المأخوذة بأحلام المستقبل ، فيصبح
ذلك المثقف زينة وأثاثاً يتوشح بها النظام العربي لكي يبدو أمام العالم
متحضراً مستعيناً برأي النخبة المثقفة بوهم تمثيلها للشعب. وكلما قبل
المثقفون هذا الدور (تحت أي ظرف)، بوعي أو بدون وعي لطبيعة هذا الدور
وخطورته التاريخية، تيسر للمعزّ تبرير ذاته، من غير أن يكون مضطراً
دوماً لبذل الذهب، ولا مستعداً للتخلي عن إعلان السيف، حتى عندما يكون
ضرباً من لزوم مالا يلزم . *
|