البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

مستقبل لا مفر منه

1

موهبة الحوار ملكة.

ولكي نقدر على استيعاب حق الحوار وحريته، ينبغي أن نمتلك هذه الموهبة. والذين يزعمون أننا نعيش بالفعل في نهايات القرن العشرين (النهايات التي تهددنا) ، نهايات هي واحدة من ذروات الحضارة الإنسانية، التي تتجلى في تحولاتٍ جذرية تجتاح الكوكب، نقول، الذين يزعمون ذلك، عليهم أن يؤكدوا لنا أننا نأخذ هذه التحولات درساً يؤهلنا للإنتماء الى هذا العصر .

لكن تعالوا انظروا الى ناسٍ يخرجون بالكاد من عصر الرقيق، ولا يزالون يرونَ في كل شيئ ضرباً من العبد. تعالوا انظروا الى ناس ألغوا قانون الرقيق بالكاد في منتصف ستينات هذا القرن، كيف تسنى لهم أن يزعموا بأنهم يطيقونَ سماع اعتراضات العبد ومشاركته في لعبة (نعم و لا) ؟ عبدٌ يولمون به المؤآمرات والمذابح و دواليب الدم، ويلوّحون بسوطٍ عليه لكي يصدّق أنه صوت له. عبدٌ قال عنه الشاعر "أمل دنقل" :
(يُدعى الى الموت ولم يدعَ الى المجالسة)
كان ذلك ذات هزيمة، لكي يختزل تغييّب الكائن العربي عموماً، ويفضح طبيعة نظام العرب الموغل في الغيبوبة. وها نحن نتجرّع الهزيمة بعد الأخرى، دون أن يرفّ للنظام جفنٌ . حيث يذهب الضحايا جيلاً وراء جيل، في حين يبقى النظام ورموزه لا يزالون متشبثين بدست الحكم كما لو أن ما حدث لم يحدث إلا لكي يتأكد حضورهم و يتكرّس غيابنا .

تعالوا انظروا كيف ذهب عنا أمل دنقل المفعم باليأس ، وهو يصرخ بنا بلا هوادة :
(لا تحلموا بعالم جديد
فبعد كل قيصر يموت قيصر جديد)
فلم يصدقه أحد ، ربما لأن أحداً لم يصغ إليه.

2

هنا تجري الأمور، بالشكل الذي يتيح لكل مراقب التيقن بأن ثمة من يعتقد بإمتلاك حق المنح والمنع، عندما يتعلق الأمر بحق الهواء. منظومه التفكير هذه تشكل أعلى درجات الوهم التي تجعل من أصحابها عرضة للاصطدام (سريعاً) بالحقائق، وهي حقائق لا تقوى الأوهام على تغيّيبها. وتتفاقم هذه المشكلة حين نجد أن معظم الأجهزة المهيمنة تصدر عن هذه العقلية، أجهزة تفتقر لموهبة الحوار، وبالتالي فإنها تتصرف كما لو أن على الآخرين أن يؤمنوا بأن كل ما تفعله هو عين الصواب، وأن الباطل لا يأتي من بين يديها ولا من خلفها، محصّنة ضد الخطأ. في حين أن أكثر ممارساتها تدعوا للمراجعة والتساؤل. وبدون الرأي الآخر لن تكفّ هذه العقلية عن العسف بنا والعصف بكل المشاريع الجادة. بل أنها سوف تتصدى لكل المحاولات التي تصدر عن ضرورة الرأي النقدي .

بعد التجارب القاتلة التي فضحت المنظومات على كل صعيد، تكوّن لدى البعض وهم بأن ثمة احتمال ممكن، لحدوث بعض التغيّر في العقلية المهيمنة. ولحسن الحظ أننا لم نكن من بين هؤلاء الذين اعتقدوا بهذا الوهم. على العكس، كنا نتوجس بأن الأمر سيكون أكثر تخلفاً وأن العسف سيكون هو القانون البارز على كل صعيد. ربما لأن هذه المنظومات سوف تصدر عن وهمها الأثير بأن ما يحدث حولها يؤكد جدارتها و صوابية طريقتها في التفكير والعمل. و لم يبق أمام هذه المنظومة إلا أن تحاول حشد أصحاب الوهم حولها، لكي تكتسب وشاح المشروعية من جهة، وتمعن في مسخ المستقبل الذي كانت الشعوب تذهب إليه بكل حماس من جهة أخرى، وتجعل من الهزيمة الروحية التي تجرعها العرب طوال تاريخهم الحديث، سمة قادرة على تكريس الواقع، كما لو أنه الأفضل ... قياساً لديكتاتورية على الأبواب. هذه (باختصار مخلّ) طبيعة المشهد الذي يأخذنا إليه دهاقنة السياسة والفكر من الماء الى الماء، وسوف يستوي في هذا الذين اختلفوا (مع) الغزو والاحتلال و الحرب، والذين اختلفوا (عليه). فما أن يفرغ الضباع من ولوغهم في الجيفة، حتى ترنو عيونهم للوعول الشريدة .

3

ها هم يستديرون الآن لتكبيل (والتنكيل بـ) كل شيئ يتصل بالفكر والثقافة، باسم كل ما يتناقض مع نقيضه. باسم الثقافة (وهم لا يفقهون)، باسم الفن (وهم لا يطربون)، باسم الفكر (وهم لا يعقلون)، باسم الحرية (وهم يتحسّسون مسدساتهم)، باسم التعدد (وهم يشحذون الأدوات)، باسم الحضارة (وهم يصدرون عن محاكم التفتيش)، باسم المستقبل (وهم يشهرون الماضي)، باسمنا (ونحن في غيبوبة الكائن) .

ثمة هاوية يقودنا إليها كل من يعتقد بأن على المثقفين أن يخضعوا لموهبة البوق ومسح الجوخ ونسيان طبيعة الأسئلة. يستديرون (بضراوة العدو)، لكي يضعوا كل خبرة العسف في خدمة الصعيد الثقافي، في خدمة إعلام السلطة، مشاريع في مستوى الشبهة. ولمن تطالهم غفلة عن هذا المشهد، نقول أن المجابهات (التي لا يمكن تفاديها) في المجال الثقافي، هي الآن تفتح أشداقها أمام الجميع. وما علينا إلا أن نتأمل تفاصيل مشهد يتعرض لإقتحام منظم من قبل المؤسسات المهيمنة وأدواتها، سياسية أو ثقافية.

المجابهات على الصعيد الثقافي هي واحدة من البوابات المشرعة أمامنا، مثل الفخاخ التي لا يجوز التردد طويلاً من أجل اجتيازها (إذا لم يكن تجاوزها ممكناً). إنها ضرورةٌ تتصل بالحساسية


الحضارية، حيث ينبغي الثقة بحق الإختلاف، إذا لم يكن بالحوار الحر فبالحرية الحرة، و إذا استعصى الكلام الغزير، فبالصمت الكثيف، حيث لا مفر من المستقبل. *

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى