البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

المجمرة

1

حرَّكَ كومة الفحم المتأجج في مجمرته، ودَسّ حبات الكستناء في رمادها الملتهب :
" هذا شتاء يستحق الإحتفاء، لئلا يقال إننا كنا نهدر الإنتظار، ولسنا مؤهلين لمطرٍ مثل هذا، ينصبُّ علينا مثل غضب الله الغاضب ".

في العام الماضي أبلغه مهندس الطبيعة أن عطباً أصابَ اسطرلاب الطقس، فاختلتْ روزنامة الفصول، مما أدى لتخلف الشتاء عن وقته. وقيل إنه لم يذهب إلى أي مكان أبداً. سمع قشرة الكستناء تستجيب لكوامن الرماد، وتفتح بواباتها بصوت لذيذ، يذكره بتقصّف شروش المحار على سطح سفينة تمور وتنتقل من الذاكرة إلى المخيلة، كأنها الآن. و(الآن) ليس ظرف زمان فحسب، لكنه ظرف مكان أيضاً. حيث البحر سيد الوقت والمكان. حرّك الجمرَ وأبعدَ حبة الكستناء عن برتقالة الرماد. تناول الحبة بأصابع ثابته، وحنا ظهره يعدل من طيّة عبائته الوبرية حول جسده. وفيما يقشر بأصابع ثابتة حبة الكستناء، استغرق في استعادة الحكاية التي لم يسأم من سردها كلما سنحت له الفرصة. الحكاية ذاتها التي كانت تستهويني في كل مرة، كما لو أنني أسمعها للمرة الأولى :

(كل شيئ كان على طبيعته، وكنت أتولى طرف الحبل الذي كان عمك يغوص بطرفه الآخر على محار الأعماق. هذا تقليد يعتمده أهل الغوص، إذا صادف وجود شقيقين معاً على مركب واحدة، لابد أن يغوص أحدهما و(يسوب) الآخرعليه، ففي هذا التقليد مجابهة مباشرة للمسئولية. في الليلة السابقة كنت ضحية أرق لا أذكر له سبباً محدداًً الآن، لكنه أرقٌ جعلني منهك القوى ضعيف المقاومة. مما أدى إلى غفلتي عن الحبل الذي بين يديّ، بحيث لم أنتبه نترة عمك المنتظرة. كان عمك تحت الماء، بعد أن أنهى غوصه الأول. شعرت فقط بصفعة (النوخذا) التي أطارت صوابي وهو يبعدني بعنف عن مكاني، ليسحب الحبل بسرعة. و في ذهولي أكتشف أنني كنت في النوم، في الوقت الذي كان عمك يطلب نجدة من يسحبه. وما إن شق سطح الماء برأسه، حتى انتفض مثل سمكة تنال حرية الماء ثانية. وهو يصرخ بصوت لا يمت للبشر، صوت بين النحيب والشهيق والصهيل والغيظ في آن واحد. وسرعان ما انتشله الآخرون ورموه على سطح السفينة، وهو لا يكاد يصدق أنه في الحياة. كنت ألوذ جانباً أرقب ما يحدث عاجزاً عن الكلام. لقد كان عمك على وشك الموت .. بسببي. لم نتبادل كلمة واحدة. كل ما استطعنا أن نفعله هو ارتماء كل منا في حضن الآخر في عناق شرس، كمن يعاقب الواحد منا شقيقه على أمر لا يحدث أبداً. لم يلتفت (النوخذا) نحونا، رَمى الحبلَ في وجهي بعينين محايدتين. استدار إلى منصته، قاذفاً نفسه في عالم التبغ، ولم يجرؤ أحد ،حتي معاونه، على الإقتراب منه. وأمضى البحارة طوال تلك الليلة يتوقعون ما الذي سيكون عقابي على ذلك . كنت أرقبه طوال الليل، ليصبح إثنان لم يقدرا على النوم : النوخذا وأنا.

في الصباح ، بعد حبة التمر وقهوة العلقم، صرخ بي (النوخذا) لكي أقترب. تأملني لحظة ثم قال : " إنه أخاك يا محمد ، ماذا تتوقع لو أن أحداً غيرك ارتكب هذه الغلطة؟"

من الواضح أنه لم يكن يطرح سؤالاً، لقد كان يعيد صياغة الإحتدام الكثيف الذي عانيته (معه) طوال الليل. لم أعلق سوى بما يشبه الهمهة. أدركَ منها أنني سأقبل الحكم الذي يرانى أستحقه. صَفَنَ برهة أخرى، ثم نادى (المجدمي) وقال له :
" خذ محمد إلى الصارية ".

انتفضَ بعض البحارة الذين سمعوا الأمر . وأكثرهم ارتعاشاً كان عمك . وفيما كنت أسير خلف (المجدمي) ناحية الصارية، اندفع عمك نحو النوخذا صارخاً : " انه أخي، وها أنا سليم لم أصب بمكروه، إنني أعفو عنه ولا داعي لمعاقبته ". ابتسم (النوخذا) على غير عادته : " إنه أخوك حقاً، ولكن هناك في البيت، أما هنا فهو يرتكب الخطأ في حق الجميع، ربما تسامحه أنت، ولكن البحر لا يغفر لأحد". وما إن التفت عمك ثانية حتى كان الحبل قد أكمل عقدته حول جسدي لكى أكون مربوطاً بالصارية . وسرعان ما انثنى الجميع متفرقين كل إلى عمله. وبقيت في الصارية ثلاثة أيام مع الماء والتمر فقط. دون أن أقوى على الإعتراض . ففي الغوص يا بني ليس الربان هو الحاكم، لأنه معنا على نفس المركب وفي نفس الخطر، والحاكم وقتها هوالبحر. في تلك الليالي المقمرة، والبحر في هدوئه، والجميع في آبار النوم، و أنا أحدق في بريق غامض يتراقص فوق سطح الماء، كان عمك وحده يجلس ساهراً بجانب (السريدان) يحرك الجمر الكسول، ليبقي توهجه ساهراً معنا في صمت السفينة الدامس،. كان عمك يحرك الجمر في تلك المجمرة متخيلاً خشب الصارية وقوداً طيباً للشتاء القادم. لكنه ظل شتاء لم يأت، لم يأت أبداً يا بني).

عندما وصل أبي عند هذا الحد من روايته، كان قد أنهى تقشير كومة صغيرة من حبات الكستناء، وبدت أطراف أصابعه مسودّةً ، فاستدار يبحث عن إناء الفناجين ليغسل أصابعه في الماء. ثم يقدم لي الكستناء المقشر، مازحاً : " هيا ، دعني أرى كيف ستقرض هذه الحبات كما يفعل الفأر، لقد فعلت ذلك من أجلك ، أنت تعرف إنني لا أملك الأسنان اللازمة لهذه المهمة. فقد نال مني البحر كل شيئ .. كل شيئ يا بني ".*

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى