البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

السفينة

1

(.بحرٌ عاصفٌ ، موج ، جبالٌ تتلاطم وتدفع السفينة إلي الجنون. مياهٌ كثيفة تخترق الليل وتغمر سطح السفينة، فتتناثر محتوياتها وأدواتها على الجانبين. ثمة بقايا شراع شبه معقود تصفقه الريح فيتقوّس وينبعج، خارجاً عن سيطرة بحارة يركضون في الإتجاهات كلها، يتشبثون بما يصادفهم، فتبدو تضاريس السفينة (وهي في مهبّ الضياع) أطواقَ نجاة في أحداق الغرق. ربانٌ يوزّع أوامره بصرخات مذعورة فيتضاعف الذعرُ في كوكب السفينة، فلم يكن ينقص البحارة في تلك اللحظة إلا ربّان مذعور، حيث غضبُ القائد الخائف خيرُ مرشد إلى الهلاك. وفي لحظات سريعة بدأ يتضاءل شعورنا الواثق بحجم السفينة، التي كان الأهالي يسمّونها (الديرة) لفرط ضخامتها واتساع سطحها ورحابة صدرها، يوم كانت تشقّ بحر السفر من جهة، وتغمر البحارة بالخير الوفير والراحة من جهة. ها هي الآن أكثر ضآلة من ريشة في الريح، ففي موج شاهق مثل هذا لم تعد الحجوم قادرة على المحافظة على نسبها، ففي الخطر تصبح جميع الأشياء تحت رحمة البحر، البشر والخشب والمعادن. تذكرتُ يوم قلت لأبي إنني أصبحتُ رجلاً كبيراً وأستطيع دخول البحر معك، حيث قال ساعتها : " اسمعْ، ليس على البحر كبير، إنه أكبر من كل شيئ، وما عليك إلا أن تجرّب ذلك ". الآن فقط أفهم المعنى في تلك الكلمة، مثلما لا تستطيع أن تقبض على الماء، تكون قبضة البحر قادرة عليك. وهانحن في العاصفة التي بدأت تمزق أخشاب السفينة مثل طفل يعبث بلعبته الورقية. كل شيئ كان في المهبّ، كل شيئ عرضة لأن يستقر في مكانٍ ما من المسافة بين الريح والقاع. الصارية وحدها لم تزل ثابتة القاعدة في منتصف السفينة، فيما كانت قامتها تتأرجح مثل بندول معلق في الفراغ، خشبة شبه عارية تتأرجح منها حبال كثيرة كألسنة الأفاعي، في طرفها بقية من شراع، لتبدو مثل شخصٍ ذاهب إلى الحرب يلوّح للمودعين لكي ينقذونه، فيعتقدون بإصراره على الذهاب. الصارية وحدها كانت هناك تتأرجحُ بفوضى واضطراب دون أن نعي سبب قدرتها على الصمود الغامض. وفي لمحة خاطفة أضاء البرقُ سطح السفينة لتشخص الأعين في قاعدة الصارية، كان ثمة شخص لا يزال مصلوباً هناك. لحظتها فهمنا ذلك الصمود الغريب الذي كانت تتحصّن به الصارية، إنها محتفظة برهينتها، ففي غمرة ذلك المشهد العاصف، حيث الكارثة تحاصر السفينة وتحدق بالجميع، لم يزل ذلك الشخص موثوق اليدين والرجلين، عيناه طائرتان في عصفورين أفزعتهما العاصفة في غابة تحترق، حيث لا مفر. لقد كان الشخص آخر ذكريات ماقبل العاصفة، يؤدي عقاباً قديماً دون أن يجرؤ أحدٌ على اطلاقه. لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني، ونحن في المشهد العاصف نختلج في حضرةِ موتٍ وشيك) .

2

كان والدي يسرد الحكاية، مرتعش اليدين مختنق الصوت ملتهب العينين محتقن العواطف، كمن ينقل خبراً تمنى لو أنهم اختاروا شخصاً سواه لقوله. تتنازعه لذة التجربة وعذاب الرواية. توقف لحظة عن الكلام، وأخذ يزفر بأنفاس غواص خرج تواً من الأعماق. حملقتُ في وجهه فرأفتُ به. كدتُ أطلب منه نسيان الأمر والإنتقال لحديث آخر. لكنه أشاحَ بيديه كمن يطرد الفكرة. أشعل لفافته وصرَّ عليها بأصبعين معروقتين تشوبهما صفّرةٌ قديمة، كاد أن يستسلم لبرهة من التأمل، ولكنه سرعان ما اعتدل وهمهمَ، كمن يحدث نفسه : "كيف يمكن أن تقيّد شخصاً وتلقي به في البحر ثم تطلب منه أن لا يغرق"، بادرته بسؤال يتلجلج في حنجرتي طوال الوقت، عما إذا كان يتذكر اسم الشخص الذي كان مصلوباً في الصارية. نظر في عينيّ يلومني على السؤال الفاضح، ثم حاول أن يبتسم، فاندلعتْ تنهيدةٌ مريرةٌ مثل جمرة تحرق الشفتين والعينين معاً : " لا أهمية للأسماء، أي شخص منا يمكن أن يكون هناك، لقد كانت الصارية جواباً على كل سؤال". قلت له : " ولكن في تلك العاصفة، حيث يستوي الجميع في الموت، ألم تكن الضرورة تستدعي إطلاق المصلوب للمشاركة في إنقاذ السفينة ". انتفضَ كمن لدغته الفكرة، وهو الذي لا يريد أن يبدو أمام غَـرٍّ مثلي في صورة الغياب أوالقصور عن إنقاذ السفينة : "مثل هذه الفكرة لا تراود أحدٌ في حالنا. لم نتعود على جرأة التفكير في مثل تلك المواقف. لقد كان كل مَنْ يستحق الصلب يخرج من حساب الموت والحياة، إنه لا يعود موجوداً على الإطلاق، فما إن يربط في الصارية حتى يصبح خارج البشر، إنه في حكم الصارية وجزءٌ من مصيرها، عليه أن يقضي عقابه كاملاً كيفما كان، لقد خرج عن قانون البحر وعليه أن يقبل بحكمه ". قال جملته الأخيرة وهو يحدّجني بعينين جمرتين، كمن يبحث عن يقين بموافقتي على قوله. لم أكن لحظتها قادراً على بذل الأجوبة الشافية لأبٍ لايريد أن ينسى تجاربه الأليمة في أيام الغوص، ولا يكفّ عن إستحضار الحكايات، كما لو أنها تحدث الآن. في تلك الساعة خصوصاً لم أكن قادراً على مقاومة السحر الغريب الذي أخذني، بهذه الحكاية الفاتنة، لكي أستعيد حادثة أخرى، عن صديق أعرفه، صُلبَ على البوابة الداخلية في باحة السجن أمام رفاقه، لمجرد أنه فزع من نومه تحت وطأة كابوس الليل، فنهض يصرخ بالآخرين لكي يدركونه بالماء، لشعوره الغامض بعطش قاتل يكاد أن يقتله، وهو في هيئة جثمان يفرز أسراباً لا نهائية من الكائنات الصغيرة تدبّ من الجسد المسجّى، وسرعان ما تنشر هذه الكائنات أجنحتها وتطير. وقد فسّر بعضنا ذلك الكابوس بطبيعة السجن الصحراوي، حيث الفقد كيمياء الحياة. اعتبر السجان صراخ الكابوس خروجاً عن قانون السجن، يستوجب مضاعفة العقاب في صورة الصلب. وفي ظهيرة اليوم التالي كان علينا جميعاً أن نتجرع شعور اليأس والمذلّة، لعجزنا عن إطلاق صديقنا من صلبه، فقد كانت حناجرنا مجرّحة لفرط العطش القاتل، تذكرتُ ذلك الصديق في ذلك المشهد ، لقد كنت معه هناك، أعرفه ويراني.

3

كان عليَّ أن أكون مستعداً ذات سردٍ لكي أطرح السؤال على والدي، في محاولة لمعرفة هذا الهيام الغريب برواية قصة الصلب نفسها بين وقت وآخر، حيث يسرد التجربة بحماس مَنْ يستلّ شوكةً من باطن القدم تجعل المشي في الحياة متعذراً، حماسٌ سوف يجعل الجسد مثل ريشة في رواق تعصف به الريح. كان عليَّ أن أختار مناسبة أكثر هدوءاً لئلا يكون رجلٌ مثل والدي قادراً على مواصلة أداء دور المهزوم الذي حانت لحظة انتقامه ممن يعترض عليه الطريق نحو الحكاية التالية عن بحرٍ لا ينضب.
ولو أن العمر امتدَّ بوالدي بعض الوقت لكنت سألته السؤال، وربما سعيت معه لجوهرة المشاعر المكبوتة، تلك المشاعر المتصلة بحادثة الصلب في الصارية. فقد بدأت تتوضح لي جوانب غامضة من طفولة كان والدي يرعاها بأسلوب لا يخلو من الصرامة المبالغ فيها أحياناً. فربما فهمتُ الآن، بعد فوات الأوان، تلك الحادثة التي وجد فيها والدي شكلاً خارقاً لمعاقبتي على خطأ غرّتني به طفولةٌ طائشة. وما إن عدت من المدرسة ذات ظهيرة، حتى وجدت جو البيت محاصر بالوجوم، تأخذني والدتي برفق لكي أتناول غداء مازلت أراه أمامي الآن مثل لوحة لطبيعة صامتة، لأنني لم أقدر على مسّه لفرط الهلع الذي انتابني. كان أفراد العائلة ينظرون إلي بأعين شاخصة متذرعة بالخوف المشفق، وهم يديرون رؤوسهم نحو (الحوش)، لكي ألاحظ تلك الخشبة المغروسة في الأرض، يتدلى منها حبلٌ يكفي لشنق تسعة أشخاص وجلب الماء بالباقي من بئر بعمق تسعة أمتار. وعندما أقتربتُ من أبي الجالس في صدر المكان، متحصّناً بالصمت المعهود حين يكون غاضباً، شعرت بأن ثمة كارثة تحدق بالموقف. ومثلما يعرف الخاطئ بجرمه، أدركتُ أنني صاحب هذه الخشبة لا محالة، وإن هذا الحبل لن ينطوي على غيري في هذا النهار الرائع. وحين تأكد والدي أنني لم أعد قادراً على تناول الغداء، نهض واقفاً وأمسك بذراعي (دون أن يقول كلمة)، وأخذني إلى الخشبة، وراح يقيدني واقفاً (دون أن أقول كلمة). ثم يبدأ في تلقيني الدرس، بعصىً كان قد أعدَّها مسبقاً إلى أن تكسرت (النصال على النصال).

وبعد أن فرغ من ذلك الدرس، وجميع أفراد العائلة يقفون عاجزين عن فعل شيئ، جاحظي الأعين ومحتقني الوجوه، لفرط البكاء والغضب المكبوت. وقف والدي وهو ينظر إلى الجميع (أذكرُ أنه لم يتوجه لي بالكلام ولم ينظر في عيني طوال الوقت، وأذكر أن ذلك كان موجعاً لي أكثر من درس الصلب والضرب) وأنذرهم بأن لا أحد يقترب مني أو يفكّني حتى يعود من السوق في المساء. ثم تركني تحت شمس ذلك الصيف المبارك وخرج. ولولا أن عمي، (الذي كان مناكفاً تاريخياً لوالدي)، تحدى ذلك التحذير عندما عاد إلى الدار وعرف بالأمر، لكان والدي قد فعل ذلك بنفسه بعد قليل. فقد عاد والدي من السوق (قبل موعده اليومي على غير عادته) باحثاً عني لكي يفكّني، وعندما عرف أن عمي قد أنزل المصلوب عن خشبته، طلبني لكي يحدّق في عيني بحنان قاهر، ويحضنني احتضانة سمعتُ بفعلها شيئاً مثل البلور الحزين يتكسر بين الأضلاع. وكنت أسمع في صدره قلباً مفعماً يعتذر لي عن حب عنيف بهذه الشاكلة. ثم همسَ في أذني قائلاً : "اذهبْ واقلع تلك الخشبة وقطّعها لكي تستخدمها والدتك غداً في التنور".

4

لو أن العمر أمتد بوالدي قليلاً :

  • لكنت حدثته عن السفينة التي لم تزل في جنون العاصفة بذات الربّان .
  • لكنت قلت له عن كوابيس الليل والنهار المكبوتة والمسكوت عنها.
  • لكنت أحصيت له الصواري المنصوبة مثل أعمدة الكهرباء في

نوم الناس ويقظتهم.
- لكنت طرحت عليه هذا السؤال الفاضح : هل كان يصلبني ويلقن ذلك الدرس لي،
أم أنه كان يصلب ذلك الربان الذي يتقمّص حكم البحر ؟*

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى