البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

فالج لا تعالج

1

.... هذا، إذا كان ثمة من يراهن على أي شكل من أشكال الأمل الرائج (في صيغة يأس) هذه الأيام. بما أن الأوضاع لا تزال على ما هي عليه (منذ الإنسان الأول)، فإنها ستظل على ما هي عليه. فليس في الأفق ما يبشر بأن لدي المتكلمين استعداد لأن يسمعوا الآخرين. والآخرون ليسوا سوى المحكومين. فلدى المحكوم ، عادة، موهبة لا تضاهى في حقل الإصغاء. وموهبة الإصغاء هذه ، لو أنها توفرت في أكثر البلدان تخلفاً ، لاستطاعت أن تحقق إنجازاً أسطورياً في مجال الممارسة الديمقراطية. غير أن المشكل الوحيد الذي سيقف أمام هؤلاء المحكومين، أنهم تميزوا عن سواهم من الكائنات (بنواخذة) لا يرون في الرعية وعياً نفسياً ولياقة حضارية لأي سلوك ديمقراطي. ومن هنا سوف تظل الأوضاع على ما هي عليه، مع عدد لا يحصى من صعوبات التنفس الإجتماعي ، والرياضة الروحية، ونقص الكريات البيضاء في ليل طويل لا ينجلي، إضافة لبعض الخسارات الفادحة التي سيكون أصغرها (لا سمح الله) فقد القدرة على النطق (لفرط الإصغاء) وتكلس في المفاصل (لفرط الحبسة) وإعاقة دائمة في القدرات الذهنية (لفرط الذكاء غير المعترف به) .

أما نحن فلسنا " غير أناس عاديين، ليس لهم ما يراهنون به، غير بعض الصعوبات المشتركة في تحمل مايحدث " . فحق المشاركة سيكون دوماً في تلك الصعوبات فحسب، حيث على الأناس العاديين تحمل النتائج الكارثية لسياسة لم يشاركوا في رسمها. وإذ وجد المحكوم نفسه عارياً من الأدوات الكفيلة بالمراهنة أمام شرط الحياة والحضارة، فمن المتوقع أن يكون أول المرشحين للتقهقر حتى الإنسان الأول.

ترى ، هل نملك شجاعة الإعتراف بأن الأوضاع (التي لا تزال على ما هي عليه) ستأخذنا إلى (فالج لا يعالج) .

2

ونحن الأناس العاديون، لا نقدر على أكثر من تأمل الجنازة التي يعدها لنا دعاة الحكم والمستقبل، " لأنهم يزعمون الإعتناء بسعادة المجتمعات". ومن يزعم ذلك، سوف لن يفعل سوى وضع المحكومين في أبشع التروس وأكثرها وحشية، في الآلة الجهنمية التي تسعى (بضراوة الديناصور لحظة إنقراضه الأخيرة) لتحقيق المعادلة الذهبية في "حسابات منفعة " ينتحلها أصحاب الحكم "دون اعتبار للخسارات وشقاء البشر الذي تسببه قراراتهم أو تسمح به إهمالاتهم." .

الأناس العاديون، العراة من حق الرسم والتلوين (والمشاركة)، ستحتقن أحداقهم فيما ينظرون إلى مشهد الأوضاع (وهي على ما هي عليه منذ آنذاك)، دون أن يجدوا في كل هذه (الصعوبات الفادحة) مبرراً لإفتعال المعارك المدمرة لمصائر الشعوب ومقدراتها. فالعاديون (عادة) لا يكون لهم رأي يُعتد به في مثل هذا المشهد. وإذا لم تعجبهم (الأوضاع)، ناظرين، بأحداق محتقنة بالدم ، وحناجر مختنقة بالكلام، ليس أمامهم سوى اللجوء إلى أقرب بحر (وهو بحر يضيق في السنوات الأخيرة لنصاب بخنّاق الأعماق) ليصنعوا من الماء المالح كمادات تخفف وجع العيون، ويبحثون عن أمواس تفتح في الحناجر منفذاً يطلق نوافير الدم على الخارج.

3

.... هذا ، إذا كان ثمة من يريد أن يسمع مكبوت المحكومين، وهم يتخبطون في الكوابيس (ليلاً نهاراً). ففي المشهد صوت مسكوت عنه يصدر عن الأعماق الإنسانية، التي عبرت أنواع الحروب (القبلية والأهلية والأقليمية والعالمية ....). صوت يهمس مثل كلام المحتضرين : "لا نريد حرباً إضافية مهما كانت مبرراتها، خصوصاً تلك المعارك التي يقاد الأناس العاديون إليها مثل قرابين الأساطير ". ويتوجب، حسب منطق الحضارة، أن هناك ضمائر (يتعثر بها من يذهب بنا إلى الكوارث)، "تُظهر دوماً لعيون وآذان الحكام شقاء البشر، والتي ليس صحيحاً أنهم ليسوا مسؤلين عنها. إن شقاء البشر لا يجب أبداً أن يبقى آذاناً بكماء للسياسة". وإلا فمَنْ سيحاسب الحكام إذا لم يكن أمام الأناس العاديين فرصة البوح بمكنوناتهم في هواء النهار؟!.

لماذا يظل المحكومون وحدهم عرضة للمحاسبة على الجرائر (لئلا نقول الجرائم) التي يرتكبها الحكام وهم يتخبطون في أوهام الجغرافيا وبراثن التاريخ ؟!

4

ثمة اقتسام فادح للعمل بين الحكام والأناس العاديين. وهي قسمة يتذكرها الإنسان الأول، منذ ذلك الحيوان الذي (فكّر) ذات مساء سحيق، بأن لحم البشر أكثر لذة (لفرط ترف التفكير) من لحوم الكائنات الأخرى. ومن يومها ترك الإنسان وراءه يلهث في المطاردة حتى يقع منهكاً، ليستدير إليه بعد ذلك، ويضع أنيابه في اللحم اللذيذ. ويبدو أن ثمة مخلوقات بشرية اكتشفت هذه اللذة، فوجدت في الحروب وسيلة ناجعة لتقمّص دور ذلك الحيوان. ومن يومها (ظلت الأوضاع على ما هي عليه).

وعندما يتعلق الأمر بقرار الحرب، سوف يكون على "الأفراد أن ينقموا وأن يتكلوا، وعلى الحكام أن يفكروا، وأن يتحركوا". وبهذا يتكرّس الوهم الأزلي، بقصور الأناس العاديين عن التفكير في حضرة أهل الحل والربط، ليكون هذا تقسيماً ضارياً للعمل، بحجة حضارة الآلة الجهنمية القائمة على تقسيم يفدح حق البشر في مقاومة الشقاء.

ويحق للناس (أحياناً) أن تبدي نقمتها، لكن بصيغة يضع الحكم حدودها، وهي حدود لا تتميز كثيراً عن تلك الحدود التي حاول عبورها الإنسان الأول .. نحو الوحش. فالحكام "الجيدين يحبون النقمة الطيبة للمحكومين، شرط أن تبقي غنائية". تلك الغنائية التي عليها أن تكون وشاحاً وزينة للحكم، لكي يبدو في لمعان الرخام وهو يحرس القبور.

5

"تظهر لنا التجربة، بأننا يمكن أن نرفض الدور المسرحي للنقمة الخالصة والبسيطة التي يعرضونها علينا". وما علىنا (كأناس عاديين) إلا أن ننظر إلى المشهد بوصفه التمرين الأخير قبل العرض ، ( لئلا أقول قبل الموت ). *

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى