1
عندما كان غرامشي يقول ذات تجربة "أن القديم يحتضر والجديد لا
يستطيع أن يولد "، كنا نصدّق أن هذا يمكن أن يحدث هنا. وهنا تعني
أكثر عمقاً من المكان لتشمل الزمان أيضاً. وفي تصديقنا هذا امتثالٌ
لتوهمٍ حقيقة قيد التحقق. ولم يكن علينا إلا أن نجلس على قارعة الطريق
(باذلين اللحم والمدائح حيناً، والعظم والمراثي حيناً آخر) في انتظار
اكتمال حالة الإحتضار الطويلة. فبعد أن تنتهي سوف يتسنى للجديد أن
يولد.
2
.... لكن ، أي جديد يولد في هواء قديم يتناسل ويفسد كل شهوة
3
يجلس شخصٌ يرى الى أفق ضيق ويستضيق. ثمة الأسرى يشيرون للشخص، بأن
باباً موصداً في المنحنى يمكن أن تفتحه الريح، وما عليه إلا أن يثق
في ريح قادمة.
لم يزل الشخص في قعدته ، والريح لا تأتي .
وإذا جاءت، فسوف تأتي كما لا يشتهي الشخص والباب والمنحنى .
4
للقديم هيمنة الحضور، و للجديد أن يثق بأن كل هذا زائل و رهن الوقت.
لكن للقديم قدرة على التحول والتماهي، بل أنه حامل أوجه، بتعبير الأولين،
وهو، هنا، يمكن أن يلتفّ بأوشحة المصطلح الجديد، النقدي خصوصاً، حيث
اللغة عبدة الكلام، فيبدو لنا (تعدد الدلالات) ضرباً من قدرة النظرالقديم
في مسوح النقد الجديد، والجديد هنا ليس حكم قيمة ولكنه حكم (مقام)،
وهي درجة أكثر صَلافة من المكان والزمان معاً. قديم هو لكنه لا يقوى
على الجهر بموقفه تجاه الجديد إلا من خلال (تعدد الدلالات) لئلا يقال
له : " يا قديم النظر والنظرية".
وليس سهلاً ، كما يتبادر إلي الذهن ، أن يحتضر قديم على هذه الشاكلة
من الحذلقة والتماهي والتلاعب بالمصطلح ، فالإحتضار فعلُ حيّ يموت،
في حين أن قديماً مثل هذا ، لا تستطيع الجزم أنه حيٌّ ، ومن المؤكد
أنه لم يمت بعد، برغم تماثله لنا في هيئة الجثة (أو الجثمان زيادة
في التقدير). ليس حياً هو ولا ميت ، فكيف نتوقع منه أن يحتضر .
5
أما الجديد فلن تتاح له الولادة الطبيعية في حضور قديم أكثر قدرة
على تبديل جلده والتخفي في جلد الديناصور حيناً و في فروة القرد حيناً
آخر. يتشبث القديم بالحضور، ليس حباً في مجارات الجديد، ولكن رغبة
في التأكيد المستمر بأن هذا الجديد ليس جديراً، لأنه لم يعد يكترث
بما استقرتْ به المنظورات والنصوص. أكثر من ذلك، ربما بدا الجديد قليل
الإلتفات لكل من يحاول تقيّيد خطواته وفرض القوانين عليه. فالجديد
الراهن اكتسب طبيعة النظر الى القديم بتوجس ، فما بالك إذا كان هذا
القديم يجتهد في التظاهر بلغة الجديد ومصطلحاته، في حين هو لا يرى
في التجربة الجديدة غيرالعدو الماثل الذي يهدد التراث والتركة، تراث
الماضي الذاهب وتركة القديم المعاصر. ها نحن إزاء القديم المعاصر لا
نعرف تماماً، هل نحن في حضرة الجثة أم نحن في هامش الجنين الميت، وليس
يقيناً أن ثمة جنين في أرذل العمر، على هذه الشاكلة.
6
... مع الجديد الذي يستطيع أن يولد ، إما القديم الذي يفشل في تفادي
الإحتضار، فذلك شأنه. إنه لا يعنينا، لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً
غير ذلك، وليس بوسعنا أن نسعفه، لسنا في موضع الوعظ، فالجثث لا تسمع
الكلام . الجديد وحده كامل الحواس ونشيطها، فهو ليس ميتاً، إنه الحياة
، إنه مستقبل الماضي وشهادة الحاضر، وهو الجزء الحيّ الذي سوف يُقال
عنه فيما بعد: لم يولد بسهولة ، و ربما ليس بصورة طبيعية (بفعل حضور
القديم الماضي وهيمنته) إنما لم يكن أمامه خيارٌ آخر غير الولادة ،
برغم الصعوبات ، و ربما بفضلها أيضاً.
وليس أمام قديمنا المعاصر الآجل، إلا أن يتخيل ما
ينتظره في القـريب العاجل . *
|