( كتبت هذه الكلمة استجابة لملف عربي،
ينشر عالمياً، ضد قتل المثقفين في الجزائر.)
1
تبدو السكين الموضوعة على الطاولة محايدةً، وما إن ترفعها يدٌ ما،
حتى تكفّ عن الحياد . أنت لا تستطيع أن تكون اليد والجرح والسكين في
آن.
2
لماذا يتوجب علينا أن نرى في قتل الآخر حلاً لإقناعه. إنك لا تستطيع
أن تقنع الشخص عندما تقتله. فهو لن يعود موجوداً بعد ذلك. وسوف تظل
وحيداً في المكان. وحيداً إلى حد الوحشة. ساعتها، ماذا ستجدي فكرتك
التي حاربت من أجلها لحد القتل. فأنت، وحيداً، لا تقدر على تحقيق الفكرة
في الحياة، فالحياة لا تتحقق إلا بوجود الآخر، الفرد لا يشكل حياة
اجتماعية، لأنه واحد. الواحد وحده يعني العزلة عن المجتمع، عن الحياة،
عن الآخر. ولكي تستطيع العيش في الحياة متوفراً على مجتمع كامل، لابد
لك من الآخر. ولكي تقنع الآخر، يتوجب أن تفعل ذلك مع إبقائه موجوداً
معك. بمعنى أن لا تلجأ لقتله بسبيل اقناعه. ثمة تعارض بين الحوار (إذا
كان ثمة رغبة في الحوار) وبين الإلغاء المسبق. فالمرء إما أن يكون
موجوداً يحاول أن يقنع ويقتنع، أو أنه غير موجود، فلا تعود قيمة لرأيه
(مختلفاً كان أم مؤتلفاً) .
3
هل يريدنا الآخرون أن نقتنع بأن الحياة التي يدعون إليها (ويقدمون
لنا نماذج يومية عنها) هي مستقبل الباقي من عمرنا ؟!
أسألُ مثل طفل، لئلا يقال إنني أريد نَقضَ ما يقولون عن الحياة الدنيا
والآخرة، عن جهل أو معرفة. أريد، فقط، أن يعرف الآخرون أنني لا أعرف
ما يعرفون (بالمعنى الفقهي للدين). وما أريد أن معرفته هو شيئ من بديهيات
الإنسان. وربما يدركه العارف والجاهل معاً. وسؤالي هو من باب التقيد
بحدود الحق العام في الحياة، فحق الجاهل على العالم كحق العنق على
السكين.
أدركُ منذ أن وعيتُ أنني مسلم.
لم يقنعني أحد بذلك. أعني، لم يحاول أحد أن يقنعني بالدين الذي فطرتُ
(لئلا أقول فطمتُ) عليه مع ملايين البشر. ولقد نشأت في بيت مسلم وعائلة
مسلمة ومجتمع مسلم. دون أن يصادفنا شكٌ أننا كذلك طوال الوقت. لماذا
الآن يريد لنا الآخرون أن نشك فيما نشأ عليه آباؤنا وأجدادنا، وننعطف
بحدة الخنجر على حقيقة تَشِي بضلالة المنصرمُ من عمرنا، ونعلن توبتنا
عن خطيئة هذه الحياة ؟
أسألُ مثل طفل، لئلا يقال إنني أعرف ما يعرفون .إنني فحسب أطرح السؤال
الذي يمكن أن يطرحه عليّ ابني الأصغر بعد قليل: ما الفرق بين إسلام
الأب وإسلام الإبن.
ولن أكون جديراً بالجواب إذا لم أكن حراً في الأسئلة ؟
4
لستُ معنياً بأي شيئ في هذه الحياة غير الحرية.
هل يتكرم أحدٌ ويتبرع بحريةٍ صغيرة تتيح لي القول بأنني لا أشك لحظة
في كوننا مسلمين، بقدر شكي في كوننا ديمقراطيين. هل يريد أحد أن يختلف
معي على المعنى البسيط للديمقراطية (مَـطيةُ الجميع بلا إستثناء)،
ويقدم لي مبرراً واحداً يقنعني (وأنا سهل الإقتناع) بضرورة قتل الشخص
لأنه لا يتفق معي. أية شرائع في الحياة (بشراً وحيوانات) تجيز حق الإنسان
ضد حرية الآخر؟
أسأل مثل طفل،
لئلا يسد علينا الآخرون المشهد بالمزيد من الأجوبة.
5
نحن في المشرق، فيما نرى، بكل جوارحنا، ما يجري في الجزائر، (كأنه
يحدث في بيتنا)، نزداد ثقة بأن الذين يضعون السكين على الطاولة، وينظرون
إليها بوصفها حياداً، يعرفون جيداً بأن الفرق بين الفكر والكفر، لا
يكمن في تلاعب بالألفاظ، ولكنه يتمثل في مئات السنوات الضوئية التي
تفصلنا عن عقلٍ دمويٍ يذهب إلى إقناع الشخص .. بقتله أولاً. وليس ثمة
شك لدينا بأن هذا السلوك ترفضه الطبيعة البشرية فحسب، بل أنه لا يليق
حتي بالغابة.لقد تفاقم لدينا شعور من يعيش في المسلخ. فمن بين كل ثلاثة
أشخاص يقتلون في الجزائر، لا نحتاج لأن يكون بينهم أديباً أو مثقفاً
لكي نضع يداً في موضع القلب واليد الأخرى تتحسس الرقبة. فبين اليد
التي تقتل والرقبة المجزورة صلة الدم والعقيدة والإنسانية. ولولا أنه
ليس من الحكمة التأمل في الموت، لتحتم علينا أن نموت سريعاً .. لكي
لا نفعل ذلك. فقد تيسر للشقيق القاتل جوازٌ، هو ذاته الجواز الذي ارتضاه
الجميع رحمةً للعالمين، فكيف يصادف أن تضع رقبتك في حضنٍ يفترض أن
يكون الأم الرؤم، فإذا به النصل الذي يحزّك بضراوة العدو. ترى مَنْ
سيرثي مَنْ إذا رأينا إلى مسلمٍ يذبح مسلماً بحجة الإسلام ؟
ولكي لا نبالغ في المراثي، سنقول أن الأمر لم يعد يحتمل أي رثاء،
فقد فرض علينا الأشقاء عداوة فريدة من نوعها : أنا شقيقك، لكنك العدو.
6
من يقدر على إقناع السكين بأن المسافة بين الطاولة والطعنة، هي ذاتها
المسافة بين الرأس والعنق؟ والذين يضعون لنا السكين على الطاولة، يبتكرون
الوسائل لكي نصادف طاولاتنا ذات صباح خالية من الأدوات. فاليد التي
ستأخذ السكين تطال أعناقنا في اللحظة التالية. والرعيل الكثيف من الضحايا،
ممن طالته تلك اليد من بين ناس الجزائر، (كتاباً أو مفكرين أو فنانين
أو مواطنين عاديين من شتى الأعمار) سيظل ماثلاً في الأحداق، يحرضنا
على الشعور بالخجل لكوننا عرباً ومسلمين أيضاً. ترى هل يريدنا هؤلاء
أن نتورط في هذا الشعور، كما لو أننا كائنات لا تملك رَدّ العار، ولا
تفادي الشعور به.
من يقدر على إقناعي (بدون أن أقتل) بأن الذين يريدون لنا الله، هم
الذين يريدون لنا الحرية؟
أسألُ مثل طفل، لئلا تفوتني برهة نادرة للبوح برغبة الموت في لحظةٍ
طفلةٍ، فمن الفضيحة أن أعيش عمراً كثيفاً (من الشك في يقيني)، ثم أجد
نفسي مجبراً على (الإقتناع) بالموت الذي ينتظرني في المنعطف التالي،
لمجرد أنني .. لم أمت قبل ذلك.
7
ربما يكون مقتنعاً بفكرتك، ولكنه ميت الآن. فلا أحد سيبقى لكي يعبّر
لك عن إعجابه بفكرتك التي ناضلتَ من أجلها إلى هذا الحد. فمن المستبعد
أن تعجب الإنسانُ فكرةٌ تقوم على جثته.
فهو لن يكون موجوداً معك، أنت خصوصاً، لأنك قاتله بالذات. كيف تيسّر
لك أن تتخيل مجتمعاً قائماً على واحد مثلك، واحد يؤمن أنه (فحسب) يمتلك
الحق والحرية. حرية القتل، ليس فقط قَتلَ الذين لا يتفقون معه، ولكنه
أيضاً قَتلَ الذين لا يفهمون فكرته كذلك.
إنني شخص لا أفهم معنى الذي يحدث هذا، بالمعنى البسيط لحق الحياة
في الحرية.
لذلك أسألُ مثل طفل، لئلا أفقد معرفةً يولد عليها عقل الشخص، وينشأ
عليها، ويتعلم بها، ويتطور في ثقافته، وتتهذّب أخلاقه، ويسهم في المجتمع
الإنساني، ويطرح أحلامه، ويحقق ابداعه ويعبر عن حبه وهيامه بالخير
والحق والجمال والحرية والتسامح، ويصل في ذروة حياته ليقتل في عتمة
مساء ساذج، أو يسحق في نهار فادح .*
|