1
رغبة في مكوثٍ رحيمٍ بين موتين.
هذه هي الحالة التي تنتابنا كلما صادفتنا كارثة تحدق بأرواحنا وأجسادنا.
وهي حالة تضارع المأساة وتجعل الموت دعابة سوداء لا يمكن تفاديها بلا
خسارة. وإذا نحن سألنا ميزان الوقت لكي يقترح علينا ذهاباً أمناً،
سنكون كمن يتضرع للنصل لئلا يذهب سريعاً رأفة بالعظم، وتلك حكاية أخرى.
تذكرني هذه الحالة بشخص حكموا عليه بالخازوق، فأخذ يستعطف الجلاد
لكي ينقله بين الوقت الآخر من هذا الخازوق إلى الخازوق المجاور. وعندما
سئل عن السبب مادامت الخوازيق كلها متشابهة، قال: لكي أرتاح قليلاً
بين الخازوق والآخر. بالنسبة له، المسافة بين الخازوقين شيئ يشبه المعجزة،
لا تنفي الألم ولا تلقي الموت، لكنها تجعل الأول أملاً فارطاً وتؤجل
الثاني بيأس أقل. ولو أننا طلبنا لهذا الشخص أن يسرد لنا فلسفة الألم
التي يجترحها، لسمعنا القصة من أولها، وتلك حكاية أخرى.
هكذا، يمكن أن نشهد على حالنا، الذي لا يوصف، بصمت يفتك بنا. لم يكن
أمامنا غير انتظار رحمةً من الجلاميد، وفي هذا ضرب من فنّ الألم الذي
تتعرض له طبيعتنا الإنسانية بلا هوادة، تحت وطأة الوهم المستفحل الذي
يسمونه، تجاوزاً ، الحياة. وتلك حكاية أخرى.
ليس للعرب فلسفة في الفرح، كل فلسفتهم تقوم على الحزن. الحزن الكثيف
الذي لم يتوقف منذ بداية تاريخهم. واللحظات النادرة التي نزع فيها
تاريخنا لمايشبه السعادة، كان نزوعاً مشوباً بأوجاع، قيل لنا إنها
آلام المخاض (كأنه الإحتضار الطويل) حيث السعادة قيد الخلق، فكان أن
اكتشفنا فضيحة الحمل الكاذب، الذي تجرّعنا لأجله مرارة الصبر في انتظار
فرح لا يأتي. وقدرنا أن الكوارث لا تمهل الذين لا يأخذون التاريخ مأخذ
الجد. وما علينا إلا أن نجلس بعض الوقت لقراءة التاريخ الدموي الذي
يترصدنا ، لكي نعرف الحكاية، وتلك حكاية أخرى.
2
بين النص والموت علاقة .
وأنت لن تصادف نصاً عربياً لا يتصل بالموت أو يقوم عليه أو ينتهي إليه.
ليس في هذا امتياز عربي بالطبع، ولكن ، في هذه اللحظة، سوف تمثل الكتابة
العربية الدليل الساطع على الخيار الوحيد المتاح أمام الكاتب العربي،
لأن يشعر ، فيما يكتب، كأنه يخط وصيته الأخيرة. لأنه سوف يكتب تحت
وطأة الشعور بأن لا أمل في أي شيء. لا أقول هذا تجاوزاً، لكنني أرقب
المشهد العربي كمن يرقب ضوءاً شاحباً تحت عقب باب زنزانة الموت. أرقب
المشهد العربي الزاخر بكل أسباب اليأس، في وقت يروّج الإعلام العربي
لأمل أرحم منه الموت .
3
كيف يتسنى للشخص أن يكون حراً، بعيداً عن معظم الإحتمالات المحبطة
التي يتجرعها الآخرون يومياً، تلك الإحتمالات التي تشحن الشخص بغايات
وقضايا وأهداف، غالباً ما تتجسد في ضرب من الأوهام التي تتفاقم، لتبدو،
بعد قليل، في صورة أحلام، سيطالب هذا الشخص أن يدافع عنها بوصفها أسباب
حياته وهدفه الوحيد والأخير. وبعد ثلاث خطوات، سوف تتحول هذه الأحلام
المتوَهمة، إلى طوطم يتحصّن بدرجة مستفحلة من القداسة، بحيث لن يقدر
الشخص نفسه على مسائلتها أو الشك في مصداقيتها وحقيقتها النهائية .
4
النظام الإجتماعي (المحمي بالنظام السياسي) الراهن، لا يرى في الإنسان
أكثر من كائن خاضع يتلقى وينفّذ، كشرط أول لأن يحصل على حق الرعية.
وهو حق لا يتجلى، في مثل هذا النظام، إلا في شكل السيد والعبد ، وصورة
القطيع.
الواقع (بحقوله المختلفة) الذي يجري التعامل فيه مع الناس كحيوانات
فاطِسَة، لا يغري بالإنخراط فيه. فأنت، ما إن تدخل في هذا الحقل الفجّ
حتى تصادف شروطاً تتطلب منك التنازل عن إنسانيتك، وتخضع لقانون الحيوان
(الفارط)، وتتميز بيقين البهائم. إن ما يقال وما يجري تداوله ضربٌ
من احتقار الذكاء البشري. إنه اسلوب يكرّس صيغة التعامل مع الناس كحيوانات
، أو كمخلوقات معوقة وقاصرة،
وتلك هي الحكاية ذاتها.
ثمة شخص يفكر في شيئ آخر، عندما يكون القطيع مأسوراً بالغيبوبة والإنشغال
بمهرجانات الوهم السائد. *
|