يقتلك .. ( .. مَنْ يأخذ دعابتك مأخذ الجد )

1

الدعابة سلاح فاتن وفاتك في آن. تقدر بها أن ترى إلى الواقع كلما وقع على كاهلك. وبها يمكن أن تحمل جثة على كتفيك مقهقاً إلى الجحيم، لتكتشف بعد لحظة أنها جثتك، فتنتابك نوبة جديدة من القهقهة محاولاً تفادي حقيقة باهضة. وبالدعابة أيضاً تقدر على التظاهر بعدم الإكتراث بجثة تركض خلف خطواتك، لتكتشف أنها جثتك كذلك. لكن ليس من الدعابة أن تزعم عدم اكتراثك بجثة تحكم عليك المداخل والمخارج، فهي ليست جثة لك هذه المرة، لكنها جثة عليك. كيف يتيسر لك العيش إذن في جثث غامرة إلى هذا الحد. ومَنْ منا يصدق عدم اكتراثك المزعوم ، إلا إذا كان في الأمر دعابة تتراوح بين سواد النهار والليل الناصع .

2

عندما نرغب في التعبير عن عدم اكتراثنا المزعوم بالجثث، سيتحتم علينا أن نلجأ للدعابة لكي نضع العصيّ والحصى وكل أنواع الخردة في دواليب تدور برتابة الحياة الميتة متظاهرة بالحياة. ينبغي أن لا نغفل عن صقل موهبة الدعابة في حياتنا، فمن المفيد لآلة الجسد والروح أن تلجأ لحضن الدعابة بين وقت وآخر. ليس مثل ضحك يصدر من شغاف القلب ويوسع الأشداق دواء لتفادي الجهامة التي تسورنا طوال الوقت. سوف تشرف الحياة على مهاوي الجنائز لفرط الجثث التي تسورنا. وعلينا أن نطلق الضحك على آخره لمقاومة شهوة الجثة للتحكم في مشهد الحياة.

فما إن يفتر ثغرك عن ابتسامة حتى ينتاب الجثة المجاورة شكٌ في سلطة الجهامة (ثمة من يسميها الهيبة) التي تنضح بالقنافذ والجآذر، وتحكم المكان بغبار كثيف من السأم والخذلان وطحين من عظام الموتى. وعندما يحلو لك أن تطلق جرس ضحكتك الأولى، سوف تلاحظ أطراف الجثة تتحرك مثل سمكة على صفيح يلتهب. وحين تطلق قهقهاتك في الأرجاء، ستكون قادراً على سماع فرقعة عظام الجثة وهي تصطك في كيس الجلد المهترئ، فللضحك فعل النار في هشيم يابس . وعندها لن يعود للجثث سطوة على المكان أو الزمان.

3

للضحك نوافذ الجسد والروح مشرعة على آخرها. فليس ثمة حجاب يمنع سحر الضحك من الإنتقال. وما عليك إلا أن تطلق لموهبة الدعابة حرية المخيلة والتأمل من الشرفة على شارع العالم، لكي تنجو من هيمنة الجثة في النهار والليل. فأصحاب الجثث هؤلاء، يطيب لهم أن يحكموا الحصار على حواس الطبيعة، ليجعلوا من حياتنا تقليداً قاتلاً لفرط الموت الرتيب الذي يقود العربات نحو الهاوية. لكن، من يحسن الضحك هنا ؟ .

طقس الجدية الذي تحاول الجثث فرضه على المشهد، من شأنه أن يفوّت الفرص الذهبية لفضح أخطاء الحقيقة التي يتوشح بها الناس، كما لو أنها الحقيقة الحقيقية حقاً.

ثمةلحقيقة متوارية أو مستورة، أعني الحقيقة الممنوعة، فهناك تكمن حياتنا. فأخطاء الواقع لا يتم فضحها إلا بالدعابة، وخصوصاً الدعابة الفنتازية، حيث يكون الواقع ضئيلاً ومنخفضاً قياساً للسقف الذي ترتفع إليه دعابة فوق الواقع.

4

أعرف. ليس سهلاً أن تضحك في جنازة.
أعرف.

لكن بيننا من يبالغ في الجدية لدرجة أنه يقدم اسهاماً لابأس به في جو الجهامة التي تفرضه علينا قوانين الحق العام والسرور والمماحكات وتعطيل القوى العاطلة ومستلزمات ما لايلزم. بعضنا، لفرط تورطه في التفاصيل، أوشك أن يفقد موهبة الضحك وكادت عظلاته لا تقدر على الإبتسام، الأمر الذي يجعله يرى في الدعابة فعلاً فاضحاً لا يليق بهيبة الناس وهم يذهبون إلى المقصلة اليومية. فليس من الحكمة مراقبة الروح وهي تتدفق مثل جدول النهر مادام في الإمكان شكمها وإحكام قناني الزجاج عليها، ففي مشهد الماء محبوساً هيبة لا ينبغي أن تفسدها منظره وهو في حرية الهواء. ليس أسهل من أن تشير إلى الجنازة وهي في الطريق إلى المقبرة هاتفاً : إنها الجنازة. لكن ماذا لو أنك أخبرتنا عن القناديل التي تنطفئ كل مساء كلما شرع حارس الحقل في الغناء؟! ليس بالضرورة أن إنطفاء القناديل مظهر حزن على الجنازة، ربما كان ذلك تحية للجمهور الغائب عن هذا النشاز الغامر في حياتنا.

لماذا يتوجب علينا أن نخضع لوهم الهيبة ونحن نقدر على كسرها بآلية الروح المنطلق، وهي آلية متواضعة لا تحتاج سوى موهبة صقلتها المراثي. ففي الهيبة خيبة يدخرها لنا الآخرون، خيبة الشخص منقاداً لتصديق الضفادع وهي تزعم الغناء، وتبجيل الزرافات وهي تغزل الحرير بأطرافها، وتأكيد الضغينة للعنادل لأنها تطلق غناءها بدون الإستعانة بالنوتة، وتصديق كتب الرشاقة التي يروّج لها الفيلة، وحضور العرض الأول لمسرح الساعة الثامنة بملابس الغوص حسب ماتنص بطاقة الدعوة. وإذا لم تلتزم بذلك كله فسوف تعرض نفسك لتهمة تقويض لعبة (اللوغو) التي يجتهد في انجازها حرس متجهمون يقومون الليل ويسهرون النهار لأجل أن لا تنتهي اللعبة ولا تُقوّض، وكل ذلك يتطلب الجو الكثيف من الجدية والرزانة (يسمونها التكانة أيضاً). من منا لا يحب أن يكون محترماً عندما يتعلق الأمر برغبته في الدعابة والضحك؟! لكن ثمة فرق، بين أن تكون ميتاً من الضحك، وأن تكون ضاحكاً في الموت.

5

قد يتعارض الضحك مع الموت (بمعنى يعترض عليه)، لكنه لا يتعارض مع الإحترام. أعرف شخصاً لن تشك في شخصيته العاقلة والرزينة والمحترمة، لكنك لا تقدر أيضاً أن تتفادى حالة الضحك والمرح في حضوره، عندما يطلق تعليقاته ودعاباته التي لا تخلو من السخرية المريرة، لحظتها سوف تضحك أولاً. ولعله يريد منك ذلك بالضبط، أن تضحك أولاً، في محاولة لكسر جليد الجدية التي يتبرع الكثيرون لفرضه في كل مكان وزمان، كما لو أنه القانون الأول للموت الأخير. جليد الجدية سيفرض عليك احترام المكان والمكانة وعدداً لا يحصى من المناصب المحمية، وبهذا سوف تتجرع شروط الواقع بحذر الحلاق وصمت القناص وضمير المذنب، وعليك أن تتفادى خدش هدوء الهيكل، وعدم إرتكاب الحلم والغفلة في آن، ففي ذلك خروجٌ على قوانين اليقظة والنوم، وهي قوانين سَـنَّها أشخاصٌ لا تأخذهم سِنةٌ من النوم. أشخاص على درجة من الثقة بحيث لن يكون بمقدورك التشكيك في خبرتهم وكفائتهم، مهما اعتمدتَ من أساليب المنطق والحكمة والجدل، فالجدية (حدّ التجهّم) ستكون مجيّرةً لصالح كرادلة الهيكل، ما دمتَ تتبادل معهم خطابَ العقل وفلسفة الإقناع، والبحث عن كتاب "الأصل والنقل في تركيب النعل". فهم لا يأخذون كتابتك وكآبتك مأخذ الجد، ولا يقنعهم المنطق ولا تطالهم فلسفة الحدوة حدوة. لعل سلطة الدعابة تفسد هيبة الجثث وهي تحكم الناس. فكلما توغلت الدعابة في اللامعقول صار الفضح أكثر جمالاً .

6

يقتلك أيضاً مَنْ ( لا ) يأخذ دعابتك مأخذ الجد،
وهذا حسن ،
لأنه إذا كان يقصد قتلك،
قتلك مرتين.*