البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

سيرة النص

1

ما الذي يُحدّد شكلَ النص.
. لا ،
أعني ما الذي يمنح النص صفته وتصنيفه النوعي، كأنْ نقول عن هذه المادة : قصة أو مسرحية أو قصيدة أو مقالة؟! أكثر من هذا ، كيف استقرَّ لنا أن نعتبر ملامح معينة في النص حداً فنياً يجعل الكتابة قصة أو قصيدة أو غير ذلك؟!

لكن، قبل هذا كله، كيف حدث أن تبلورت هذه الملامح، لتصير عناصر مكوِّنة، ثم حدوداً واضحة، لتستقر أخيراً وتصبح قانوناً. وفي الأصل، مَنْ الذي اقترحَ علينا تلك العناصر، عبر تحولات التاريخ الأدبي في الحضارة الإنسانية ؟

أعترفُ، إن هذه الأسئلة ليست بريئة بشكل مطلق.
إنها ذهابٌ مباشر لمسائلة الجذور القديمة (الأولى) لتصنيف الأنواع الأدبية. فكيف جازَ لتلك الجذور أن تصير حداً مقدساً. من الذي قال به، ومن وضعه، وكيف تأتّى لنا اعتباره بمثابة الأواني غير المستطرقة التي توضع متجاورة متجابهة دون أن يتصل محتوى كل منها بمحتوى الآنية الأخرى ؟!

2

مَنْ قال :
الشعر شعر والنثر نثر .. و لا يلتقيان ؟!
في المراحل المبكرة، لتكوّن الحضارة الإنسانية ، سوف نصادف غالباً نزوعاً جنينياً لصياغة أشكال القول الأدبي. لتبدو هذه الأشكال مكتشفات فطرية، عفوية، تبلورها حركة الحياة والثقافة، وتمنحها ابتكارات المبدعين ملامح غاية في التنوع والتحول. ومن حظنا في هذا الكون أن الكتب والنصوص الدينية قد تحدثت عن كل شؤون الإنسان والحياة، ووضعت لها معايير وضوابط، غير أن الشيئ الوحيد، الذي لا يستطيع أي شارح أومفسّر الزعمَ بأن الأديان قد أفتت فيه وطرحت حوله الحدود، هو فن الكتابة وأشكال التعبير الأدبي. من هنا سوف تأخذ هذه المقترحات الفنية، منذ بواكيرها، الطبيعة البشرية، التي تقبل الخطأ والصواب، ولابد لها، تبعاً لذلك، أن تكون مرشحة لإحتمالات الشك والنقض والتحول والتجاوز والتغيير.


المؤسّسون الأوائل للثقافة الإنسانية، هم الذين طرحوا منظوراتهم في هذا المجال، بوصفها مقترحات فحسب، منذ هوميروس حتى الخليل بن أحمد. وهؤلاء مؤسّسون من مخلوقات الله البشرية، ليسوا آلهة ولا يصدرون عن مقدّس. فمثلما في التراث الغربي، سنجد الوصف نفسه يصدق على مؤسسي الكلام العربي القديم شعراً ونثراً.

هذا كله يضعنا أمام حقيقة تاريخية لا يمكن تفاديها، وهي ضرورة طرح القداسة عن تصنيف الأنواع الأدبية الموروث لأشكال التعبير. طرحها بحيث ينفتح الأفق واسعاً أمام الأجيال اللاحقة من المبدعين، كل في حقله الفني، لكي يقترحوا علينا إضافاتهم، أو نقائضهم، في أشكال التعبير، تلك الأشكال التي سوف تأخذ دوماً شكل حياة البشر وطرائق تفكيرهم وأحلامهم.
يخالج المرء شعور غامض كلما قرأ شيئاً يناقش قضية الأنواع الأدبية وحدودها الشكلانية، والأوهام المتصلة بالتراث الذي تصدر عنه تلك الأنواع .

ففي معظم تلك الكتابات يبدو التعاطي النقدي مع أشكال التعبير، كما لو أنه مَـسٌّ بأرسخ المعتقدات الدينية لدي الإنسان، موحياً بأن ثمة منطقة محرّمة ليس للكاتب أن يتجاوزها وهو يحاول صياغة منظوره الجديد. حتى يكاد المرء أحياناً يشعر بأن مجرد اختراق شروط شكل القول الموروث من شأنه أن يخلخل نظام الكون، ويهدم كيان البشر. قد لا يصرّح البعض بهذه العقيدة، لكن حقيقة الأمر تشفّ عن نزوع لا واعٍ لعدم المسَاس بالأصول الموروثة، وبالتالي الخضوع لوهم محاكمة كل خروجٍ عن تلك الأصول بإعتباره خروجاً شاذاً عن منظومة أكثر شمولاً، بحيث تطال بنية المعرفة الدينية التي تأسَّس عليها العقل الإنساني. وفي هذا السلوك دليل جديد على الصعوبة التي يمكن أن تواجهها التحولات الثقافية عندما تستجيب لشروط المنظور المقدّس في الحقل الأدبي. غير أن ذلك السلوك لن يمنع التحول الحضاري الذي يحدث بصورة بطيئة، وجوهرية، ولكنها شديدة الفعالية والعمق. لأن فعل التبلور الذي أشرنا إليه، سوف لن يتوقف عبر المراحل التاريخية المختلفة، وهو تبلورٌ يتناقض مع فكرة الثبات المقدس، تبلورٌ يبقى مشتعلاً في تأجج طموح المبدعين لإكتشاف سبل وأشكال تعبيرهم، بمعزل عن سلطة المقدس التي يسبغها الكثيرون على التصنيف النوعي لأشكال الأدب.

3

ثمة تناقضٌ يكتمل بين أشياء الحياة ،
تناقضٌ لا ينبغي إصلاحه ،
على العكس،
يتوجب احتضانه وتأجيجه، تكريماً للحياة .

4

منذ وعيتُ إنحيازي للكتابة الشعرية، جابهتُ ضغوطاً -تكاد تصير تقليداً وقانونا ً- تفرضها المفاهيم السائدة التي تضع المضمون في المقام الأول عند النظر أو الحكم على القصيدة. وحتى عندما يجري الكلام عن طريقة قول هذا المضمون، وهو مايتصل بالشكل، فإنه يأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، وباستهانة كبيرة لا تليق بالإبداع . وإذا جازَ لي الكلام عن تجربتي، فإن إتصالي بمنظومات فكرية، على صعيد الممارسة الحياتية، كانت تعتني بأولانية المضمون، لم يتدخل (أعني لم أسمح لهذا الإتصال أن يتدخل) في صياغة كتابتي. فقد وجدتُ نفسي مأخوذاً بأهمية أن تصير طريقة القول عندي تجلياً ذاتياً وجمالياً. وأعتقد أن الأمر كان مبكراً لدي، فبعد صدور كتابي الأول (البشارة)، بدأتْ لدي مشاعر عميقة، بأن مبرر كتابتي للشعر هو أن أسعى إلى اكتشاف قول التجربة بشكل جميل، وأن أحاول قول ما أريد بشكل جديد في كل مرة، أي أن أقول شكلاً جديداً وليس موضوعاً جديداً، ليس بالنسبة لي فحسب، ولكن بالنسبة لما ينجزه الآخرون. وإذا كان هذا طموحاً شعرياً لم أنجح دائماً في الذهاب إليه، فأرجو أنني لم أكن أتنازل عنه أبداً.

بالنسبة لي، كان عذاب المضمون في الحياة، وعذاب الشكل في النص، تجربة واحدة يصعب رصد تخومها.

5

لا أحتمل أن أكتب النص في ذات الشكل مرتين.
وهذا ما جعل كل نص أنجزه - كما عبَّرَ البعض - يوحي كما لو أن الذي كتبه شخصٌ آخر، شخصٌ مختلف في كل مرة.
أعتقد أن هذا أمرٌ مشوّق، أحلم بالفعل أن أكون شخصاً مختلفاً في كل مرة. ليتاح للقارئ تخيل أن من كتب "قلب الحب" شخصٌ يختلف عن كاتب "الدم الثاني" أو "النهروان".
هذا هو بالتحديد ما يلذّ لي أن أقترحه على القارئ.
إذن، ماهو الشكل تحديداً ؟!
لكن، وفقَ النظر النقدي السائد، هل يمكن الكلام عن شكل صارم، في الكتابة الشعرية والإبداعية عموماً ؟
أكاد أشكّ في ذلك.
أحياناً أسهر ليلاً كاملاً متلمّساً ملامحَ شكلٍ ما، لنصٍٍ ما، ثم أنام ظاناً أنه الشكل.
وفي الصباح أكتشف أن الشكل ليس هذا، أو على الأقل ليس هو الذي يمكن أن أسكن إليه مرة أخرى.
يوماً بعد يوم، ونصاً بعد نص،
أعرفُ أن النص لايكتب بهذا الشكل .. ولا بشكل آخر.
تُرى، هل الشكل هو ما يقترح البعض تحديده في هندسة البناء البصري للنص؟
أم أنه ما يتصل بطريقة التعامل مع اللغة ؟
أم أن لطاقة الرؤيا دورٌ فاعلٌ في منح النص شكلَه المنتظر ؟

6

صادفتُ أجوبة كثيرة، مشوّشة ومضطربةً، لمثل هذه الأسئلة في الممارسة العربية للكتابة. وأعتقد أن المشكلة المعرفية، على صعيد الثقافة والنقد الأدبي العربيين، تتمثل في أن النظرة المهيمنة لا ترى إلى الكتابة الإبداعية باعتبارها فنّ الشكل، ولكن فنّ المضمون.

أكثر من ذلك، أن ثمة مفاهيم، تكرَّستْ طوال الوقت، تَشي بإحتقارٍ شديد، أو إغفال تام، للشكل في الكتابة العربية. الأمر الذي يجعل معظم منظورات النقد الأدبي أحكاماً، تصدرُ عن خارجٍ وتقول عن خارجٍ، مأسورةً بالمضمون لا يزال، ليبقى النص وحيداً في غربته.

تُرى ، ما الذي يميّز شاعراً عن آخر، إذا كتبا في مضمون واحد؟ إنه الشكل.
لماذا يعجبني الأول ولا أتوقف عند الثاني، بالرغم من اشتراكهما في مضمونٍ واحدٍ، وربما موضوع واحد أيضاً ؟
لابد أنه الشكل.
وإلا فكيف يمكننا أن نفهم ذلك القول المأثور، الذي يشير إلى الموضوعات التي على قارعة الطريق، والأسلوب الذي هو الشخص؟!
ترى ، هل الشخصُ هو الشكل ؟
لكن ، مرة أخرى ،
ماهو الشكل ..؟؟
من المؤكد أنني لا أعرف شيئاً عنه.
لستُ منجِّماً، أنا مغامرٌ، أكتشفُ، ولا أذهبُ إلى الكتابة مدجَّجاً بالأشكال.
على العكس ، إنني أكتبُ فحسب، إما الشكل فيأتي فيما بعد،
كل مافي الأمر أنني لا أقتنع ولا أقنع بسهولة،
ففي الفن : القناعةُ كنزٌ لا ينفع، كما يحلو لي القول دائماً.
أظن أن قلقي تجاه ثبات الشكل هو الذي يؤدي بي كثيراً إلى مجازفة غير مأمونة، وأتمنى دوماً أن لا أنجو من شِراك المغامرات الشعرية.

7

يظل الشاعرُ مستغرقاً في حرياته،
فليس لشكلٍ مسبقٍ سلطةٌ عليه.
لستُ متعصباً لطريقةٍ محددةٍ في الكتابة،
لأنني لا أثق في الأشكال.
الإختلاف المتواصل في التجارب هو الذي يمنح النص حريته الدائمة. وهذا يؤدى بالكتابة إلى إختراق الأنواع الأدبية، وتجاوز حدودها المعروفة، ذهاباً إلى النص المفتوح، وهي تجربة أتاحت لي المزيد من متعة الإكتشاف الرؤيوي.

ولعلي في تجربة نص "الجواشن" ، الذي كتبته بالاشتراك مع الصديق أمين صالح، ذهبتُ إلى شكل تعبيري مفعم بالمكتشفات، ولكم أن تتخيلوا لقاء تجربة قادمة من القصيدة مع أخرى قادمة من القصة. تجربتان تشتركان في كتابة نص يختلف عن النوعين المستقرّين.
بالنسبة لنا كان الأمر ممتعاً جداً وزاخراً بالمكتشفات.

8

يمكن العودة، في ما كتبت، إلى بدايات الخروج على حدود الشرط الفني للقصيدة، متمثلاً في النزوع المبكر لمحاولة اكتشاف الشعر في النثر. ففي محاولات بعض قصائد "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة " و "الدم الثاني" تململٌ فنيّ غير مدرك آنذاك. تبلور، فيما بعد، بخروجٍ مباشر وشامل عن التفعيلة في "قلب الحب" ثم "شظايا". الآن يمكنني تمثّل تلك التجارب كمرحلة تأسيسية لما يمكن إعتباره قلقاً يبحثُ عن آفاق التعبير الشعري.

لم تشكّل مسألة التصنيف النوعي عقبة في سياق العملية الأدبية التي إنشغلتُ بها، فمنذ اصطدامي باصطلاح (قصيدة النثر) لم أعد أثق في التصنيفات الرائجة ضمن الثقافة الأدبية العربية، فثمة معتقدات سائدة في النقد الأدبي، تخضع لضرورة وضع التصنيف قبل الذهاب الى التجربة. وفي تقديري أن مثل هذا الأسلوب من شأنه أن يفسد العديد من التجارب الإبداعية التي يمكن أن تغني الكتابة الأدبية.


آنذاك ، بدأ التفلّت من حدود القصيدة، التي أخذتْ تضيق على الأفق الذي يقترحه التدفق الشعري، ويذهب إليه خارج الوزن وخارج التفعيلة. ثم اكتشافي أن ثمة حرية تعبيرية لابد أن تطرح مسؤولية جديدة أمام الكاتب، كل ذلك وضع أمام تجربتي إحساساً مضاعفاً بخطورة الأداة التي تستحوذني وأشتغل بها : اللغة.

الاحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأول لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة. هذا الإحتفاء يشكل، في اعتقادي، طبيعةً أساسيةً عند الكاتب وضرورية، لكي يجعل إنتاجه الأدبي مبرراً بتميزه التعبيري عن أشكال التعبير الإنساني الأخرى.

تبلورَ ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية : الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الإستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تعبُر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيتُ في ذلك كبتاً لحرية الحرف، كوحدة وكذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يرى في الحرف سوى جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كل كلمة وعند خاتمة كل قافية .. في ذيل الشطر أو التفعيلة.

تلك الطاقة الكامنة كنت أكتشفها بلذة عميقة، وأجد في ثناياها روحاً شعرياً يضيء غموض الأفق أمامي، ليس على الصعيد الفني فحسب، ولكن على الصعيد الروحي خصوصاً.

9

عندما قرأتُ ما كان يكتبه الصديق "أمين صالح" باعتباره قصة، كنت أقول : هذا شاعرٌ أكثر حرية مني. ولعل "أمين صالح" كان هو العنصر الأكثر تحريضاً لتجربتي من أجل اقتحام الأفق الذي كنت أحلم به.

ودون الإستهانة بمستقبل الكتابة الذي نتطلع إليه، فقد كان أمين صالح- من جهته - يأتي من عالم النثر الى التألق الشعري بسرعة متناهية، وكان مبكراً في ذلك أيضاً. وأذكر، بعد أن قرأتُ مخطوطة "أغنية ألف صاد الأولى "، تمنيتُ عليه ألا يكتب على غلافها بأنها رواية، فقد رأيتُ فيها نصاً جديداً مغايراً لمثل ذلك التصنيف، نصٌ يتمتع بحرية تَخرجُ عن حدود الرواية بمفهومها المتعارف عليه، فقد كان فيها من الشعر عناصر كثيرة. وهذا ما يؤكده ارتباك الكثيرين أمام تلك التجربة، خاصة أولئك الذين جَهَروا بأنها ليست رواية، دون أن يكتشفوا أنها أحد النصوص الجديدة المبكرة للكتابة التي كنا نذهب إليها، والتي بين أيدينا الآن اجتهاداتٌ نادرةٌ مثلها.

وعندما وجدنا أنفسنا، بعد سنوات، نكتب "الجواشن"، شعرنا أن عملنا ليس إلا تبلور طبيعي على الصعيد الذاتي، فقد كان هاجسنا المشترك، الذي استمر كل تلك السنوات، لم يعد يقبل التردد أمام أفق التجربة التي تغرينا يومياً للتجريب بكامل حريتنا.

شخصياً، كنت أرى في كتابة أمين صالح أسئلة جديدة تحاور (عمقياً) الأسئلة التي تشغل كتابتي. بالطبع كلانا لم يكن يريد الأجوبة. فالكتابة ليس أن تجدْ جواباً ، لكن أن تسأل.

أثناء انشغالنا بكتابة "الجواشن" جاءت فكرة بيان (موت الكورس)، الذي جعلنا نكتشف، من بين أشياء أخرى، مسألة غاية في الطرافة لم نكن ننتبه لها - تقنياً - في أول الأمر، وهي إن كلانا كان قادماً من نوع تعبيري مختلف، في أصله الفني، عن الآخر : جاء أمين صالح من تجربة القصة وجئتُ من الشعر. هذه الحقيقة تجعل تجربتنا - من الوجهة النقدية - أكثر تعقيداً، في حين أننا لم ننتبه لها إلا في وقت متأخر، مما يؤكد -لنا على الأقل- أن شرط النوع الأدبي قد تم تجاوزه عملياً وبشكل عفوي، وأن مفهومنا للكتابة أصبح متصلاً بالنص، النص بإعتباره كتابة شعرية في العمق، كتابة تكتسب شرعيتها من قدرتها على التحقق خارج الأنواع، وبجماليات فنية تقترح تعاملاً مختلفاً عند الكاتب أولاً، وعند القارئ فيما بعد.
وهذه الشرعية ليست حكم قيمة لنجاحنا أو فشلنا، لكنا إشارة إلى حقها في حرية التجربة. وهذا ما حاولناه في "الجواشن".

10

يأتي الكاتب من حدود الأشكال إلى حرية الكتابة، نحو لذة المجازفة ونشوة الإكتشاف، ليشهر جمالية المغامرة. وعندما لا يصدر الكاتب - في النص - عن تصورٍ/ مثالٍ، سابقٍ يقلده أو ينسج على منواله، فإن مسؤولية الإقناع الفني تتوقف، عندئذ، على طاقة الإبتكار والجمال. حيث ينبغي على الأدوات والعناصر المبتكرة أن تكون قادرة على بعث الروح الإنساني في شكل يليق بالحرية التي يزعمها. وينبغي أن يتشكل هذا الفعل في كل لحظة :

وقت الكتابة و وقت القراءة.

وهو شكلٌ يشبه الأفق وليس قانوناً.
كل نص يمكن أن يصير مادة أولى، أو نقطة إنطلاق، لنصوص أخرى قيد الإحتمال، إذ لا قداسة لشكلٍ ولا تكريسٍ لنمط، من هنا جاء الكلام عن النص مشوباً بقلق الكاتب المتردد إزاء ذلك الأفق، فيما هو خاضع، لا شعورياً، لوهم الشكل. ومرصوداً لتحفظ القارئ أمام خروج عن شكلانية النوع، ذلك القارئ الذي يسأل عن (نوع) هذا النص، أو يبحث عن (المعنى) الذي يريد الكاتب قوله.
وفي هذا مصادرة مزدوجة من شأنها أن تفسد التجربة في الجانبين.

11

كيف يأخذ النصُ شكلاً ؟
فيما نحن نتوغل في الكتابة، سوف نتيح لأنفسنا فرص النجاة من إشكاليات الشكل.
أو نتفاداها، كلما توغلنا في الكتابة كفعل روحي وفني في آن.
لماذا نتجرّع ماءَ الشكل الراكد قبل الكتابة ؟
فليس في الشكل ما يغري، إذا كان شرطاً أمام الكتابة، يسبقها ويتسلّط عليها.
ثم إن الشكل ليس أولاً وليس قبل أي شيئ.
الشكل هو كل شيئ، إنه القتل والأسلحة في آن.
من هنا تنبع عناصرُ الجمال في تجربة النص.

إن رغبة الإختراق التعبيري عند المبدع هي ضربٌ من الموهبة الأساسية، وربما كانت هي واحدة من أهم مكونات الإبداع. وعبر التاريخ الإنساني، في مجال النشاط الفني والأدبي، كان التجديد والإبتكار لا يتحققان بغير هذا النزوع الفطري عند المبدع، إنه في كل لحظة من التاريخ يجرّب بحرية ومسؤولية في هذا الاتجاه، وعليه أن يؤكد موهبته في التجربة.

للشاعر حرية أن يتصرف، لحظة الكتابة، كما لو أن اللغة ملكية خاصة له، يعمل بها من غير الخضوع لوهم أية سلطة تعترض على ذهابه الإبداعي وخروجياته عن مألوف النص. وكلما تميز هذا الشاعر بالموهبة والمعرفة، تيسر له أن يجعل مقترحاته أقرب إلى إحساس القارئ، بأنه إزاء تجربة تأخذ الأمر مأخذ الجد، ولا تستهين بخطورة ماتفعل. عندها لن يعود أمام التجربة إلا أن تثق في الأفق وتذهب إليه بلا تردد.


قراء قليلون، نادرون أحياناً، لكنهم مكتملو الحواس .
قراءٌ، مثل جوهرة المراصد، يرصدون الأفق معك، يذهبون إليه معك، ويشكّون فيه معك.
وحين يستفردون بالنص، تنتابهم نشوة الكشف وينكشفون أمام ذواتهم.

رغبة الاختراق، على صعيد آخر، ضربٌ من التمرد الذاتي ضد الشرط الموضوعي للواقع. وبما أن أشكال التعبير المستقرة هي تجليات متماهية في سلطة الواقع وقوانينه، فإن الفنان سوف يعبّر عن ذاته المتمردة دوماً، ضد موضوعية المواصفات السائدة والثابتة، خاصة تلك التي تتحول إلى كابحٍ مركبٍ أمام تطلعات الإنسان المتغيرة يوماً بعد يوم.

الأشكال الفنية الموروثة أخذت تفقد قداستها المتوهمة، منذ أن بدأ الكاتب إحساسه بأنها قيدٌ يصادرُ الخطوة والطريق، ومنذ إكتشافه بأن ثمة وهم أسمه الشكل الواحد الوحيد المستقر لطريقة التعبير.

الأشكال الفنية ليست سوى مقترحات وضعها بشر مثلنا، إنها أشكال كانت، بالنسبة لهم، مكتشفات اجتهد بها مبدعون سابقون، وهذا يعني أن بشراً آخرين يمكن أن يتمتعوا بنفس الحق والحرية في تجاوز تلك المكتشفات، واكتشاف آفاق جديدة يمكن الذهاب إليها في كل تجربة وكل نص.

لكن، ينبغي التأكيد بأن ذهابنا لتجربة النص لا يشكل نفياً لأي نوع أدبي آخر. على العكس، إننا نرى في حضور كافة أشكال التعبير، قديمها وجديدها، حواراً إنسانياً يمنح المشهد الفني تنوعاً وثراءاً.

أكثر من ذلك، فإننا نحسب التنوع اختباراً لجميع الاجتهادات الفنية، لمعرفة قدرتها على إلتقاط لحظة الإنسان في راهن حياته.

12

الكتابة في عصرنا، عندما تؤكد على حرياتها في تجربة التعبير، انما هي صدور عن ضرورة الديمقراطية بشتى تجلياتها للإنسان . وإذا كانت أنماط الكتابة إنعكاساً غير مباشر لأنماط الحياة وتطلعات البشر، فإن التمرد على تلك الأنماط إنعكاس، هو أيضاً، لتطلعات إنسانية مغايرة وتتغير بلا توقف. وربما شكّلَ التمردُ الفنيّ على نمط تعبيري مستقر، خلخلةً لنمط (أو قانون) حياة مستقرة في المجتمع، ومن هنا نستطيع أن نفهم ردود الفعل التي يمكن أن تحدث إزاء اجتهادات التجارب الأدبية الجديدة وخروجياتها. وما تثيره تجربة حرية النص تفسّر لنا الى أي حد يقوم الذهن العربي على تقديس مبالغ فيه للثوابت والمستقرات الموروثة في المجال الثقافي، إنه تقديسٌ يصادر مستقبلنا.

حتى الخيول سوف تصاب بالإعاقة إذا طالَ حبسها عن حرية السهول.
ترى ، ألا نرى في ضوء ذلك، بلادة الأشكال المتوارثة للكتابة الأدبية، وبالتالي طريقة عرضها الرتيب، مما يؤدي إلى سأمٍ مستفحل يفسد المتعة الجديدة عبر كل تجربة فنية.

إننا نسأل الأن، لئلا يأتي علينا وقتٌ لا نقوى على هذا السؤال .
يلذّ لنا في مثل هذا الموقف أن نطرح سؤالاً جذرياً من هذا القبيل:
ما الذي يحدث في الكون عندما يكتب الأديب نصاً مختلفاً لا يخضع لأي نوع من الأنواع الأدبية المعروفة والمستقرة؟
ونطرح سؤالاً أخر أيضاً :
ما هي الغاية النهائية للكاتب عندما يكتب القصة أو القصيدة أو المسرحية أو الرواية، هل هي رغبة البوح الإنساني والتعبير عن الذات، أم هي غائية تحقيق النوع الفني المحدد بعينه ؟!

إن شكل القصيدة ليس هدفاً في حد ذاته، ولا شكل القصة ولا المسرحية ولا الرواية، لذلك فإن الإستمرار في الإبتكار الفني لشكل التعبير، هو نشاط إنساني يشير إلى الحرية التي يتطلع إليهاالمبدع بوصفه إنساناً.

النص - من هذه الشرفة - يقترح حرية إضافية أمام الكتابة الأدبية، دون اكتراث لوهم القداسة التي يضفيها البعض على موروث الأنواع الأدبية.

13

ليل النص حلم كثيفٌ من الكائنات والعناصر، وربما كان ليلآً أكثر حضوراً من نهارات المحو.
الليل، كتابة تتصل بالأحلام، حيث لا نكون صادقين إلا هناك. ليلٌ، برغم حضوره الحميم ، يظل نصاً في هامشك، أو أنه هامش تدّخره لمجابهة المركز ومتونه. تذهب به في عزلة لا يطالها نص الناس. كأنما في حرية الهامش يجوز لك أن تطلق المرايا من أسرها. ففي الليل الحميم تقدر أن تجعل الحلم قنديلاً يؤرجح ظلالك وأنت تذرع الغرف والممرات، وحيداً ، خفيفاً ، حراً ، تفاجئ نفسك وتباغتها بالمكتشفات الفاتنة .
تبوح بالنص كأنه لك ، وتنتحب به كأنه عليك.
فهذا ليلٌ لك ، ليلك الذي تتحصّن به وتغتَّر.

ليس أن تقرأ النص، لكن أن تكون مستعداً لكي تصدّق ما تشهق له عيناك، بوصفه تهدّج المهج المفدوحة. وإذا حدث وأصابتك الدهشة، لفرط النقائض التي يقترحها النص، مقتحماً سكينتك، فارطاً يقينك، يتوجب أن تتحلى بالرزانة ودماثة السرد، لئلا تفتك بنفسك حسرة لشعورك بالخسارة تنتابك وأنت سادرٌ في غيبوبة تحقنك بوهم الكمال.
في النص ، أنت مثل الأعمى يكتشف الليل بأحلامه الفاتنة.
تحمل قنديلآً تقود به سرباً من الفراشات، نحو هاوية النيران،
زاعماً أنها نافذة العتمة.
عند الشاعر ،
النص هو جنته و جحيمه في آن واحد .
لكن القارئ لا يريد أن يرى في النص غير الجنة ، جنته هو خصوصاً، دون الإكتراث بالجحيم الذي يمتحن الشاعر و يفنيه ويعيد خلقه.

14

لحظة النص ، عندي ، مثل لحظة الجسد. وحيث كل الحواس في الجسد ضرورية، تكون كل العناصر الفنية صالحة وضرورية لتحقيق فعل التعبير والبوح والإتصال. إن المتعة التي ستتحقق في لحظة الجسد، ستكون أكثر جمالاً ولذة وصدقاً أيضاً حين يلجأ الجسد الى كل تلك الحواس المتاحة ، الحواس الظاهرة والمكبوتة. يصعد الجسد في لذته كلما تسنى له أن يمارس حريته القصوى في تلك اللحظة، ففي الجسد طاقة للجمال لا تتجلى في عريه الظاهر فحسب، ولكنها تكمن ،خصوصاً، في تخفيه وتماهيه وتماسّه مع شهوة الغموض والسرية التي لا تضاهى.

في الكتابة يلذْ للكاتب أن يتمتع بكل العناصر الفنية المتاحة والمكتشفة في لحظة النص. فالكتابة هي لذة الكاتب قبل أن تصبح متعة للقارئ، وهذه اللذة لا تتحقق بدون كامل الحريات التي يستدعيها النص، من أصغر الحروف الى أقصى المخيلة.

بالنسبة لي، أصبح النص (بوصفه طريقة حياة) لا يقتصر على ضرب محدد من فعل الكتابة، ولكنه تحولٌ الى طبيعة شاملة تتغلغل في كل نشاط كتابي يمكن أن أمارسه. فلم يعد ممكنناً أن أكتب جملة بدون أن تأخذ حريتها وحقها من الشعرية، حيث اللغة تصعد الى طبيعة تغاير نثر الإبلاغ والإخبار الجافَين القائمين على الذهنية الخالصة. فالمقال، مثلاً، يمكن أن يستفيد كثيراً من الإقتراحات التعبيرية التي تنبثق من تجربة النص في الكتاب العربي الجديد. ولعلنا نلاحظ في السنوات الأخيرة الإنزياح الشعري الذي تذهب إليه تجارب تعبيرية مختلفة، ومن بينها بعض النقد الأدبي أيضاً، وفي هذا تَمَثُلٌ حقيقيٌ لما يمكن إعتباره تداخلاً وتمازجاً لكافة الأنواع التعبيرية في مجال الكتابة، وهذا يؤكد أيضاً مسألة نتوقع أن يفيدنا عنها النقد الأدبي بالذات، وهي أن إنفتاح النص لا يتحدد في الشكل الفني، ولكنه ينطلق من فهم الكاتب للطبيعة الكامنة في اللغة، ودورها في التحولات التي تجري في مجال الكتابة عموماً.

15

قبل ذلك، كتبتُ شعراً موزوناً كثيراً، وربما أكثر مما ينبغي. مبكراً كنت ممن يشعرون بميل شديد الى الإيقاع. حتى أن كتابتي خارج الوزن لم تغادر الموسيقى بشكلٍ ما، ولا أزال أشعر بلذة ذاتية غامضة، تكاد تكون روحية، في الكتابة وزناً، فليس لدي موقف مسبق في هذا المجال. يبدو لي أن حساسية الإيقاع، عندي، عنصرٌ أساسيٌ مكوّنٌ (ضمن عناصر أخرى) يمنح النص خصوصيته الشعرية، وبالتالي مغايرته للنثر. وأعتقد بأن في اللغة العربية (دون الوقوف عند حدود بحورالخليل) طاقة لا متناهية من الإيقاع، ويمكن للشاعر أن يكتشف هذه الطاقة ويتمتع بجماليتها.
الشاعر لا يخرج على جاهزية الحدود لكي يهرب من الوزن والإيقاع، على العكس، إنه يفعل ذلك لكي يتفادى سهولةً تستهينُ بطاقاته وطموحه الفائق . إنه يفعل ذلك، أيضاً ، لكي يكتشف أخلاطاً جديدة من الموسيقى، تلائم روحه ورؤيته، في كل نص. فالموسيقى ليست جرساً خارجياً، لكنها جوهرة المراصد.
وظني أن أحد التحديات أمام الكتابة الشعرية الجديدة، كونها مطالبة بإقناع القارئ أنه إزاء شعر عربي، نكهةًً وموسيقى وحساسية ، وليس نصاً مترجماً .

الكتابة خارج الوزن (بعد الخروج على التفعيلة والبحور الخليلية) ينبغي أن نرى إليها باعتبارها مسؤولية أخطر مما واجهه تجديد الخمسينيات والستينيات. الشاعر هنا/ الآن، يأتي الى الكتابة عارياً من جميع الأسلحة الجاهزة التي توفرت للشاعر العربي عندما طرح تجديداته الحديثة. ولا ينبغي الإستهانة بما بين أيدينا من ثروات جميلة، وخطرة في آن.

إنني غالباً ما أستغربُ من الإغفال الواضح، الذي تقع فيه العديد من التجارب الشعرية الجديدة، لحساسية الإيقاع، التي من شأنها أن تمنح الكتابة روحاً جديدة يمكن أن تتميز بها عن التجارب السابقة، هذا إذا تمكنا من عدم التفريط بمكتسبات القصيدة الحديثة، وأطلقنا ما هو مكبوت في إيقاعية اللغة، بوصفها الطاقة الموسيقىة المتاحة أمام الشاعر دوماً. إنني أنحاز كثيراً لأهمية الموسيقى في النص، وأشعر بأهمية (العزف) على ما لم يكتشفه الخليليون حتى الآن. ففي اللغة العربية سحرٌ لن يلامسه أحد مثلما يفعل الشعراء، هؤلاء الذين يؤسّسون مستقبل اللغة المفتوح على الأفق.

وهذا يجعلني أشير الى ما يستوقفني كثيراً في معظم الكتابات الراهنة، حيث يجري تغيّيب كامل للعناصر التي يمكن أن تشفّ عن نص مكتوب بالعربية أصلاً، مما يؤدي بي - أثناء القراءة- الى الشعور بأنني أمام مادة مترجمة عن لغة أخرى. وأظن أن عدم تأمل هذه الظاهرة، ومعالجتها بصراحة وجرأة عميقتين، يمكن أن يؤدي بنا الى خسارات فادحة سوف تؤثر على التكوين الجديد للتجربة الشعرية العربية. وأخشى أن نجد أنفسنا أمام نصوص على درجة من الجفاف الموسيقى كما لو أنها مكتوبة لقراء من الصُمْ ، لفرط الصمت المطبق علىها .

16

مبكراً شعرتُ بأن إصطلاح (قصيدة النثر) تعبيرٌ مرتبكٌ ومربكٌ معاً، ولا يستقيم مع حساسيتي الشخصية تجاه ما أعتبره شعريةَ الكتابة.

في البداية، لم تكن لدي معرفة واضحة بطبيعة التجربة التي صدر عنها ذلك المصطلح ودلالاته النقدية. وعندما وجدتُ نفسي أكتب خارج الوزن، صرفت النظر عن مسألة الخضوع لتعبير (قصيدة النثر). ولم أكن أستجيب لتداوله، ربما لأنني كنت أفترض بأن ما أكتبه هو الشعر، وماهيته شأنٌ يتصل بي أولاً. أكثر من هذا، فإن تعبير (نثر) في سياق الثقافة والذائقة العربيتين، يشكل خدشاً لشعرية النص. لذلك ذهبت إلى إكتشاف الشعر في النثر ، إن كان ذلك ممكناً.


فيما بعد ، وفي السنوات الأخيرة خصوصاً، اشتغلتُ في عدد من المقالات (بما يشبه الحوار الداخلي) على مسائلة هذه التجربة، محاولاً أن أرصد وأكتشف جانباً من جوانب الإشكالية التي أثارها مصطلح (قصيدة النثر)، وتجليات النظر والممارسة في الكتابة العربية. وقد توقفتُ عند تفسيرات التفتتْ الى التباس المصطلح لدي عدد من الشعراء والنقاد. كما إننا سوف نرى أن بعض التجارب الشعرية الجديدة أدركتْ ، فطرياً، ذلك الإلتباس النقدي، وذهبتْ ، فيما تكتب، الى تجاوز المشكل النظري، لتحققَ نصاً شعرياً ينجو من الأوهام الرائجة في الصحافة الثقافية.

لا أتفق مع الإفتراض القائل بــ (انتصار التشوش والجهل) في هذا المجال، فإن سعة الإنتشار ليس انتصاراً، وتعدد الإجتهاد الفني، الموهوب، ليس جهلاً، إنه اختلاف عما نعتقده. وعندما نعتني بالتجربة كنصوص إبداعية، سوف ننجو دوماً من متاهة المصطلحات. فالاتفاق (النقدي/ النظري) على دلالة المصطلح لا يسعف كتابة فقيرة الموهبة، و"بنية الخلق الشعري العربي المعاصر" عندما تفقد مقوّما نقدياً يوازيها ويضاهيها، لا يجب أن تكون، في عمقها، عرضة لتعثرات جوهرية تفسد فعاليتها الشعرية.


ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة، كأن تكون الكتابة، خارج الوزن، معطىً منسوخاً عن تجربة (قصيدة النثر) الغربية، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي، مثل هذا التعاطي لم يعد مقبولاً ولا جديراً بالمزيد من البحث. فلا عقدة سلطة النص الأول/ التراثي، و لا عقدة النص الآخر/الغربي ، يمكن أن تسعفا كتابة تتخلّق كل يوم. إن الشاعر (كذات) هو المصدر الوحيد لما يمكن أن نسميه تراثاً يولد الآن، فربما كانت الأصالة هي أن تكون أنت (الأصل) لما تبدع، وباقي الأشياء تأتي فيما بعد .

17

في مجتمع مأسور، كالذي يعتقلني، لا أجد ثمة علاقة منطقية بينه وبين ما أكتب. ربما يقول البعض أن الرفض ضربٌ من العلاقة بالواقع. قد يكو ن هذا احتمالاً، لكنها تتجلى غالباً كعلاقة قتل، قتل متبادل، وهذا لا يمنح الشاعر أية طاقة إيجابية (مثل الحب) في راهن حياته.


لماذا نتهاون في هذا الحق الذي يُحرم منه الشاعر العربي. إنني أرى الفجوة بين الكتابة وبين الواقع العربي (وهو يتدهور) تتسع، وأشعر أن هذه حقيقة لا ينبغي استنكارها. إنها طبيعة الأشياء، وليس لدى الشاعر حلولاً ناجزةً لمثل هذا الوضع. التجديد في مجال الإبداع الشعري، لا يمكنه ألا أن يكون نقيضاً لما يذهب إليه الواقع. ثم إنني لا أنظّر - فيما أكتب - لتطورٍ ما في بنية المجتمع العربي، هذا أمرٌ لم يعد من شأني. ما أحبه قد لا يقبله الواقع العربي ولا يحبه كثيراً، أو سريعاً، ولكن حيلة لي في هذا الأمر.

أرجو أن نتفادى الوقوع في عملية إعادة انتاج الأفكار والمفاهيم والمسلمات السابقة. المبادئ والقيم الإنسانية شيئ آخر، أكثر عمقاً وحناناً وجمالاً مما يتداوله الرأى الثقافي العام والسائد.

لكن، بالمقابل ، من المبالغة (التي لا أحبذها) الإفتراض بأن شكلا فنياً (مثل الكتابة خارج الوزن /قصيدة النثر) يمكن أن يكون هو أعلى المراحل الشعرية للتطور الفني. ففي هذه الآلية مصادرة لأشكال تعبيرية أخرى، قد لا تعجبنا ولا نميل إليها ولا نحبها، لكنها اجتهاد فني موهوب آخر، من المتوقع أن تتفهمه رحابة المبدع، وتؤمن بحقه في الحضور كبوح إنساني يقترح علينا جماليات أخرى.

ثم أن الكلام عن (قصيدة النثر) بإعتبارها (أعلى المراحل الشعرية) يدفعنا الى حضيض السوق الإستهلاكية .. كمن يتحدث عن ( آخر موضة) .

الشعر ، بالضبط ، ليس كذلك .
الإبداع مثل الهواء،
كل نسمة تأخذ طبيعتها ونكهتها من الدم الذي تدفقه في القلب.

18

ما تَمَّتْ معرفته لا يشكل لهذا الجيل مدعاة لكتابة ما، فالكتابة لم تعد ضرباً من فعل إخبار، إنها فعل اشتباك رؤيوي. هذا الإشتباك لايحدث مع مايعرفه القارئ، لكن مع ما يكتشفه للمرة الأولى، وخصوصاً مع شكل هذا الإكتشاف.

من هذه الشرفة تصدر كتابة هذا الجيل، الذي يمعن في مغايرة النص الأول، مستنفراً أمام أية محاولة لترويض مخيلته، وسوف يذهب أيضاً إلى التنكيل بكل شروط الكتابة التي لا يجترحها اجتراجاً بذاته .

يأتي شخصٌ ليعترض على النص قائلاً :
" لكنه لا يشبه شيئاً سبق أن قرأته ! "
هذا اعتراض مفهوم، لكن المقاربة المسبقة للنص الجديد غير مقبولة، لعدم فعاليتها.

النص الجديد لا يريد أن يقلّد كتابة سابقة، إنه يقارب النموذج المجهول، الغامض، قيد الإكتشاف.
من هنا سيجد المعترض فسحة كبيرة للمغايرة بين النموذج، القانون، الجاهز، وبين النص الجديد، الذي يكاد أن يكون اجتراحاً، أو ينبغي أن يكون كذلك.

إنه يكتب الآن مخترقاً سلطة الجاهزية التي توفرها ذاكرة البنية، ليس للنص بنية مكتملة، إنها لا تكتمل، ولا تطمح لإكتمالٍ ما بمعزل عن قارئ يحسن الإشتباك الرؤيوي مع النص.

ليست قطيعة مع ماسبق، ولكن ارتياد لمحتمل المستقبل من خلال جحيم الواقع. هذا الجيل لا يعبأ بالذاكرة، إلا بإعتبارها رماداً يدّخر ناراً ممكنة، ولا يكترث بالنسيان إلا بقدر طاقة المحو فيه.
كأني بكتابة هذا الجيل لا تريد أن تشبه الماضي، ولا تتيح للمستقبل أن يخذلها.

وهي لا ترى في الأسلاف سوى اكتمال على وهم يتوجب نقضه.
فإذا جاءت كتابة هذا الجيل منطوية على صعوبة القراءة، فذلك لأنها صادرة عن صعوبات الكتابة. فليس سهلاً الكتابة خارج ماتمت معرفته.

19

النص محاولة للتمثّـل الجسدي، لتجسيد حالات لم تعد الحدود الشكلانية المعروفة قادرة على استيعاب حركتها غير المنظمة والمنفلتة من كل أسر. فالكتابة، الآن، ليست استجابة لرغبة اتصال مشروط، وانما لرغبة استحواذية في التحول، واكتناه ذات نافرة وكينونة طاغية.
لا يأتي الكاتب، اليوم، ليقول عن الحالة، لكن ليصير الحالة ويتجاوزها في آن.
بمعنى انه يشتغل على تحويل الخوف - مثلا - الى جسد ينبثق من تلاحم المفردات، وينمو في عصب الصور والعلاقات. جسدٌ جديدٌ شاملٌ لا يبدأ هنا وينتهي هناك. جسد مفتوح مثل عذراء تغري قرينها المرة تلو الأخرى .

النص، من هذه الشرفة، هو انتقال الفعل الايروسي الى نضال متألق في الأجساد اللامتناهية، المتمثلة في القارىء. فالقراءة، ازاء / مع هذا النص، ليست بحثاً عن المعنى، بل ابتكاراً لمناخ تستدرجنا إليه عناصر مشتركة، للكاتب فضل مؤآلفتها بجمالية جديدة، يجري اكتشافها.

20

لقد بدأتْ ألأنواع ألأدبية تتداخل بدرجات اقتحامية، متفاوتة الــوعي والتجربة، وتقترح مؤآلفةً فنيةً بين الحد وألآخر، حتى لكأننا نلحظ كاتب القصة يضج ُّبالمواصفات التي يتطلبها فنّ القَص، متطلعا الى آفاقٍ أبعدَ من تلك المواصفات، ويفتح في نصـه ثغرات تنشأ فيها القصيدة بجماليات تداهم التجربة، وتفاجىء القارىء معا. ومن جهة أخرى، ربما رأينا الشاعر يجد في السرد والحوار والتأمل الفلسفي عناصر تنطوي على طاقة تعبير لا تقل شعرية عن مألوف الشعر.

ولعل الأمـر بالنسبة للشاعر، سيبدو أكثر تشويقا، فالمسألة لم تعد، بالنسبة له، محصورة في شرط النثر والوزن، انما تتجاوز ذلك لتصبح متصلة بالمفهوم العام لشعرية الكتابة، وحدّها الإبداعي، كضرب من التعبير اللغوي، الذي صار طموحه متمثلا في محاورة أشكال الحياة وعناصرها الحارة.

ينشأ النص من تألق الشعر في الكتابة. ومن تصاعد الأنواع جميعها، مثل لهب المواقد، لتلتقي في أتون جامع، بحيث لا يعود الحوار إلا انزياح لحالة السرد الشعرية، ليبدو المشهد كما لو أنه سياق قصصي يقصف سلطة الراوي، وينداح بلغة ثاقبة مثل تجليات راءٍ.

21

إنه لا يؤلف كتباً ،
لكنه يصقل المرايا .

22

قيل إن النص فضاء افتتــان .
الإفتتان هنا في اتجاهين معا :
حالة الكاتب مفتونا بلحظة الكتابة، فيما يكتشف الآفاق اللامحدودة، حيث تفجرطاقة الجمال في فعل اللغة، منفلتة من أسـر الشكل. وحيث يشعر الكاتب بحرية الذاهب في سديم اللغة، وخطورة الخلق، وإعادة الخلق في جحيم هذا السديم الدائم التألق مثل جنّـة. وافتتان الكاتب هنا ليس سوى تحقيق لحالة الإمتزاج المتبلورة لطرفي الموهبة والمعرفة معا.

وحالة القارىء مفتونا برعشة الملامسة الأولى لكتابةٍ تزعم الجدة، وتذهب إليها، بعناصر لا تخذل. تذهب مثلما العاشق يكتشف جسد حبيبته للمرة الأولى. فيصاب بالسحر.

23

قال شخصٌ :
أعجبتني كلمة من امرأة، قلتُ لها ومعها طبق : ما عليه يا امرأة ؟
قالت : فَلِـمَ غَطَيناه إذاً ؟

من أين صدر فضول الشخص، وكيف تجاسرت المرأة على جواب موغل في الفضيحة ؟!
في احتدام حوار خاطف كهذا، يجوز لنا أن نلتفت إلى احتمال الإشارة فيه. فحين غطت المرأة طبقها، تكون قد حققتْ أكثر من فعالية في آن. فهي، من جهة، منعت الآخر من "رؤية" المحتوى. لكنها، من جهة أخرى، استثارتْ شهوة الإكتشاف لدى الشخص. ومن المحتمل أيضاً أنها أتاحت للبعض الآخر تشغيل خياله. وربما لجأ البعض إلى تخيل مالا يتصل بالمحتوى أصلاً، بل من المتوقع أن لا يكون في الطبق شيء أصلاً. وسيذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فما دام محتوى الطبق "غامضاً" لشخص ما، سيجد نفسه مؤهلاً لأن ينفي وجود الطبق في الحقيقة. ثم، مَنْ يجزم أن هناك طبقاً ، رغم الشخص الذي سأل، ورغم المرأة التي أجابت بسؤال يأخذ إلى الغواية ؟.

هل يمكننا أن نرى إلى النص الأدبي الآن على هذه الشاكلة ؟!
أعني هل نسأل الكاتب عن نصه، أم نسأل النص عن كل شيء ؟!
هل نطمئن لأجوبة الكاتب المتسائلة، أم نستجيب لغواية الغموض في النص ؟! هل النص جواب يُعلِّم، أم شك يأخذ إلى التهلكة؟!
عندما يبدو النص غامضاً، فذلك لأن النص معادل للحياة، وناقض لها في آن.
من يستطيع الجزم بأن كل شيء في الحياة واضح ولا يحتمل المساءلة ؟!

إن غموض النص ينطوي على فضح لزعم الواقع بالوضوح. من هنا تأتي مخاطرة أن تسأل الكاتب عن نصه. إنك لن تحصل على جواب يوضح، فربما ازددت غموضاً، وربما أفسد الكاتب احتمال متعة لديك فيما تحاول اكتشاف النص، لايحمل الكاتب طبقاً، ولا يضع غطاء على طبق، ولا يحسن الطبخ، ولا يعد أحداً بالطعام، ولا يشبع الكاتبُ شخصاً جائعاً ، ولا يعبأ الكاتب بفضول شخص فقير الخيال.

لكن إذا تيسر لك أن ترى نصاً يستثير لديك الأسئلة، فلا توجه اسئلتك لجهة غير النص، فإذا فشل النص في التوغل بك نحو لا نهائية المعنى، فلن ينجح الكاتب أو غيره في ذلك.
لكن لا تضع نفسك في ندامة، مثلما فعل ذلك الشخص، الذي أتاح للمرأة أن تنكل به.
ثمة شخص آخر، سوف يسعف المعرفة بغير أدواتها.
شخص قال : " لن ينتفع أحد بعقله حتى ينتفع بظنه ".
ويقيناً أن " الظن " هنا لن يكون إثماً.
إنما هو استجابة لغواية المخيلة، فليس للعقل طريق إلى حقيقةٍ لا تمر بالمخيلة .

24

ليس الغموض الذي نصادفه في الفن من اجتهادات الفنان، على العكس ، إنه الدأب الدائم الذي يبذله الفنان في الكشف عن أسرار تجربة الحياة، وفضح الكامن والمتماري فيها، و إتاحة أكبر قدر من مساحة المتعة أمام ذاته، لمعرفة هذه المهزلة الدموية التي تورَطَ في اجتيازها، بكامل الحساسيات التي تتصل بمعنى الحياة و رؤيته لها.

ما يسمونه غموضاً، يكمن في درجة الإستعداد الثقافي لدى الفنان والمتلقي، بحيث تكون العملية مشتركة بين أطراف متكافئة لتتحقق المتعة. لنعرف أن الغموض هي الفجوة التي علىنا أن نجتازها معاً. ولعلنا كلما حاولنا الإيضاح نزداد غموضاً. لذلك نجد أن الذين يبالغون في توضيح نصَّهم إلى حد التسطيح، والخضوع لوهم البساطة، سوف يمنحوننا العديد من التجارب العابرة، التي لا تشكل أية إضافة على صعيد التعبير الإبداعي . ولذة النص والحياة في آن.


السائرون في الظلام، وحدهم يعرفون قيمة النجوم الصغيرة البعيدة في الأفق. و وحدهم يستطيعون رسم خريطة النص، والإصغاء للنار الصغيرة في صحراء الحياة.

فليس مثل ضوءٍ صغيرٍ يلمحه الضالُ في نهاية الأفق، معتقداً أنه نار النجاة، وليس مثل مفاجأة ذلك الشخص عندما يصل إلى تلك النار، ليكتشف أنها زجاجة الليل التي لم تزل تختزن بقية من ضوء النيازك . فليتضاعف عدد الذين يسيرون في ليل جميل مثل هذا.

25

فعل القتل الذي نحققه، فيما نكتب، هو الذي ينبّهنا لآليات الرؤيا، هو الذي يلفتنا الى الأسلحة التي يمكن ابتكارها في كل لحظة. في كل سطر، في كل صورة، و ربما في كل كلمة.
أحياناً يدفع حرفٌ ما الى ما لا يقاس من الإكتشافات. حرف الـ (ج) مثلاً، يستدعي أمامي عشرات الصور والتداعيات لمحاولة اكتناه العلاقة الغامضة، (المحسوسة لي حتى العظم) بينه وبين تلك الحقول الصفراء الشاسعة التي تنتظر شفرة منجل يخبط قامات السنابل لتقفز السنبلة وهي تمنح حبة القمح لخبزٍ ساخن تعلكه أسنان تصطك من البرد في كوخ تحيط به الثلوج، وسوف ينتابني فرحُ الفراشات أمام وهج قنديل تلك العائلة التي أحسنت ادّخار ذلك القمح ليوم ثلجي مثل هذا.

وعليّ أن أتجاوز جاهزية حرف الـ (ج) مرة تلو الأخرى، وتجاهل ذاكرته، لئلا تكف اللغة عن منحنا ثرواتها الغنية.
هل دار في خلدك أن نقول عن الشكل، فيما النص بين أيدينا، يغرينا باقتحام التخوم التي وضعتها نظريات الشكل العمياء.
الآن،/ هنا،
الممارسة هي النظرية.
والصَبية التي يكتشفها صديقي الخلد الأعظم، لا تشبه صبايا الكون كله. وسوف أقتل تفرّدها هذا، إذا ما اقترحت عليها شكلاً سبق أن لعبت فيه الصبايا الأخريات.

أحياناً يخدعني الخلد زاعماً أن السناجب لا يطيب لها اللهو إلا في قصيدة الشعر الطويلة، وعلينا أن نحتفي برغبة حيوانات لطيفة مثل السناجب، وما أن نبدأ العمل حتى يتناهى الى سمعنا حوار شيقٌ من الطرف الآخر في الغابة.

فريقان من السناجب يتحاجزان، ويحتل كل فريق خندقاً حفره بدقة معمارية، بحيث يتمكن من إحكام الحصار على أي تسلل لتمتين العتاد أو اخلاء الجرحى، حوار مسبوك تحسن السناجب تداوله، حتى أنها من النادر أن تخطئ في النحو وحركة الأفعال.
ألتفتُ الى صاحبي وإذا به يشير لي نحو طرف آخر في الحوار. فالسناجب لم تنس أن تزرع قناصيها بين الأغصان العالية لشجرة الصنوبر المطلة على مداخل الساحة. فينفجر كلانا في ضحكة مجلجلة، ونمزق النص الذي بالكاد بدأنا به. فقد هزمتنا السناجب وسخرت منا أيضاً. كنا نظن في لحظة ما، أن للسناجب طريقة ثابتة لممارسة لهوها البريء، وتبذر في الأفق فخاخاَ لا تحصى، كل منها طريق لشكل أو ما يشبه الشكل.

نظن أن الفخاخ حدوة حرف الــ ( ج ) مكنوزة لنا، وما إن نضع أيدينا على بريقها المراوغ حتى تشدخنا أشداقها الفاجرة.. مثل ليث يزعم أنه يضحك لنا، في حين أنه يتضاحك بنا.
ساعتها فقط نتيقن أننا لم نتأخر عن النص.

26

بعد ذلك كله.
ما هو الشكل إذن ؟!
و أي شكلٍ يجري الكلام عليه دوماً ؟
هل هو شكل الكتابة أم شكل الحياة ؟
هل ثمة فرق ينبغي أن يوجد بين الحياة والكتابة؟
جئنا الى النص ،نعرف عن الحياة بالقدر الذي نجهل عن الكتابة،
ولن يعنينا من الأشكال سوى رمادها، إذا كان جديرآً بمزيد من الحرائق.
فالشكل يأتي فيما بعد.
إننا نكتشفه فجأة. لا نذهب إليه،
لكنه يأتي إلينا مثل ثلج الأعالي. مثل غيمة هاربة من قاموس.

27

ليس أمام الجيل الشعري الجديد، المتأججة أحداقه نحو الأفق، إلا أن يعيد النظر في الأسئلة التي اقترحتها عليه التجربة الأدبية حتى سبعينيات هذا القرن.
علىه أن يطرح اسئلته على تلك الأسئلة.

هذا هو قدر الجيل الراهن / القادم. فقد انطوت تلك الاسئلة على اضطراب شديد، فرضته الطبيعة السياسية والاجتماعية العربية التي نشأت فيها اطروحات الحركة الأدبية السابقة. فها هو الجيل يتلقى حظه الأكثر اضطراباً بمالا يقاس. والتوقف أمام الأسئلة السابقة، لا ينبغي أن يفهم منه تقليلاً من شأن أصحاب تلك الأسئلة، بالعكس. ففي مثل هذا العمل نوع من الاحتفاء الإبداعي بتجربة ليس لأحد أن يستهين بمعطياتها نظراً وعملاً..

إن إعادة النظر، هو فعل حوار، يتجاوز الخضوع والقبول من جهة، ويتصل بخصوصية الزمان ولحظة التاريخ من جهة أخرى. وعلى إعادة النظر هذه أن تتحقق بشروطها، لئلا يصل الجيل الجديد إلى ذات الأفق الذي تبشر به نهايات تجارب منتصف القرن العشرين .. حتى الآن. وهي نهايات لن يكون نكوص نازك الملائكة واصطدام يوسف الخال بجدار اللغة، وعموديات أكثر من شاعر والهيام بسلطة المؤسسات (لكي لا نذكر إلا الشعراء) صورة مختزلة ومباشرة منها.

ولكي لا يفهم كلامنا بالسائد المتداول من القول، فإنني لا أرى في هذا الواقع أزمة ما. على العكس، فكل ما يجري هو مظهر من مظاهر التحول الطبيعي. التحول الذي يَشي بصحة في الجسد. فالجسد الذي لا يموت لا يعرف الحياة..

لا أميل إلى إصطلاح الأزمة.
أحب أن أسمي ذلك موسم الولادة. وإذا تمكن هذا الجيل الشعري الجديد من طرح أسئلته الخاصة، في مواجهة الأسئلة السابقة، سوف يتيسر له أن يثبت جدارته بعبء الكتابة، فأهمية كل جيل، ودليل جديته يكمنان في قدرته على ابتكار اسئلته، وليس في اجترار أسئلة سواه ممن سبقه.

إن في تجربة الجيل السابق قضايا كثيرة تظل بحاجة للمسائلة والحوار والمراجعة، والنقض أيضاً. فكلما كان التراث القديم جميلاً، صار أكثر جدارة بأسئلتنا الجديدة، ولابد أن التراث الحديث سيبدو أكثر جمالاً عندما نمعن في وضعه تحت أسئلة لا هوادة فيها، أسئلة تشك أن كل شيء على مايرام، عندما يتعلق الأمر بالكتابة.

ولعل الفجوة المهمة التي على الأجيال الجديدة تحقيقها دوماً، هي تجاوز الإعتقاد بأن السابقين قد اعطوا أجوبة كافية وجديرة بالتقديس، وما علينا إلا قبولها كمسلمات.

فالجيل الذي يفعل ذلك، هو جيل بلا ألسنة ولا صوت له ولا يتمتع بموهبة الإصغاء. عليه أن يتفادى المآزق التي ذهب إليها السابقون. وهي مآزق توهم الكثيرون أنها منجزات حصينة، وأجوبة مكتملة.

ليس في كل ما يكتبه الإنسان ما يسوّغ قداسة ما. وليس هناك من هو محصّن ضد النقد والنقض. بهذه الروح، على الجيل الراهن / القادم، أن يبادر في تشغيل موهبته وإبداعه.
لكن من المؤكد أن هذه الموهبة ليس لها أن تحسن الشغل إلا إذا تسلحت بالمعرفة.
هل نكون متصلين بنبوئة جبران خليل جبران، عندما قال ذات مساء مفعم بالألق في بداية القرن:

" أقول لكم، أنه لا ينقضي هذا الجيل، إلا ويقوم لكم من ابنائكم وأحفادكم جلادون ".
هل يكون جيلاً جميلاً من الجلادين، هذا الذي يشحذ نصالَ موهبتِه على شفرة المعرفة.

ينبغي أن نعاقب أجوبةَ الموتِ بأسئلة الحياة.

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى