البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

قديم العرض القادم

1

أن لا تذهب لنفس العرض مرتين.

كان هذا هو الشرط الوحيد الذي أراهن (نفسي) عليه، كلما تهيأت لحضور مسرحية جديدة. والحق إنني كنت أتغاضى عن هذا الشرط تسع مرات من بين عشرة عروض أحضرها. وفي كل مرة أقترح (علي نفسي) تأجيل التشبث بشرطي مؤقتاً، تفادياً لقطيعة الفعاليات المسرحية المتوالية، وخشية أن تترتب على ذلك ملابسات إجتماعية تتصل بكائنات أحبها وتتميز بجناح الفراشة لفرط حساسيتها. ومن أسفٍ إنها حساسية إجتماعية فقط.

2

كيف يتسنى لنا تفادي الذهاب إلى نفس العرض في كل مرة ؟!
فمادام العرض (جديداً)، فإنه لابد أن يكون مختلفاً.
حسناً، هذا افتراض طيب، لكن الأمر ليس بهذا الشكل في معظم العروض. ومع انتباهنا لنسبية المغايرة بين العمل الفني (خصوصاً المسرح) والآخر، فالذي نصادفه غالباً ما يمثل أزمة حقيقية تقع ضحيتها مشاريعنا المسرحية. كل شيئ يقدم في العرض القادم ستكون قد صادفته (أحياناً بشكل حرفي) في العرض الماضي، والجديد الذي تبحث عنه لن يكون متاحاً هذه المرة، عليك أن تتنازل قليلاً عن الشرط الذي تراهن عليه (نفسك). فربما ليس من الحكمة أن ينساق المرء وراء نفسه، الأمارة بسوء التقدير الذي يضعك في موقع الحرج.

3

لكن، ما هو الجديد الذي تريده ؟! أليس هذا تعجيزاً لا يقوم على منطق الفن ؟! ومن قال أن للفن منطقاً، أو أن ما يقوم على المنطق يمكن أن يتصل بالفن؟!
إنني لا أطلب معجزاً. ليس ثمة معجزات في الفن، ليس سوى الموهبة والكثير من إجتهاد المخيلة. لا أحد يزعم أن موضوعات يمكن ابتكارها لكي تكون عملاً خارقاً في سياق ما نتخبط فيه. المشاعر الإنسانية وقضاياها هي ذاتها منذ الأزل، الحب، الحقد، الحرية، اليأس، الظلم، الموت، الأمل، الجنس .. إلى آخره، ستظل خالدة خلود الإنسان. الجديد سيكون دوماً في طريقة النظر أولاً، وفي الحساسية الذاتية التي تلامس الموضوع وتعيد معالجته ثانياً. فالجديد يكمن جوهرياً في العلاقات التي يمكن تقوم بين أدوات وآليات العمل الفني وبين أشياء الحياة وأرواحنا في هذه اللحظة، ومن ثم سياق (الشكل) الفني الذي يمكن للخيال أن ينهض به، وكل هذه العناصر هي معطيات ذاتية خالصة، سوف تميز الشخص عن الآخر، فلا يخطؤها شخص ثالث. وإذا نحن استحضرنا طبيعة الخيال من شخص إلى آخر، فسيكون ضرباً من الاستحالة تشابه معطيات المخيلة بين الأشخاص، حتى أن أحد العلماء قد زعم ذات تجربة، أن تفارق واختلاف عمل المخيلة ومعطياتها تكاد تكون بنفس درجات اختلاف البصمات عند البشر، بل أنها كذلك حقاً. وهذا ما يجعل التشابه في الأعمال الفنية، عندما تفتقد الذاتية، مكشوفاً، يشبه الفضيحة إلا قليلا،ً حين يقصر الشخص نشاطه على الإتكاء (فقط) على ما سبق إنجازه في مجاله، لكأنه يقدم بصمات غيره على أنها بصماته الشخصية، وفي هذا تزوير تستنكره طبيعة أشياء الحياة، وتدركه (دون أن يستوقفها) طبيعة أشياء الفن.

4

عندما أذهب إلى العرض القادم، أتوقع أن مخيلة جديدة كفيلة بإدهاشي بجمالياتها الرؤيوية، يقترحها هذا الفنان أو ذاك.

لكن، لماذا أكون مرشحاً للخذلان في التسع مرات (من العشر)، وأخرج من الصالة، محاولاً تفادي شعور الندم على خروجي من البيت ؟! أكاد أجد جواباً واحداً يعترضني هنا، جواب على القارئ أن يتقصاه معي.

ترى لو أن النص والمخرج والممثلين عملوا على تشغيل مخيلتهم، بالحرية التي يستدعيها العمل الفني، هل سنصادف هذا التكرار والإستعادة والتقليد والبلادة، ليؤدي بنا كل ذلك إلى الخذلان (لئلا أقول اليأس) بين عرض وآخر ؟!

هذا الكلام ليس (فقط) لمناسبة مهرجان مسرح الهواة، الذي شاهدنا عروضه قبل أيام. فالحقيقة أننا كنا (في عروضهم) ندخل الصالة كل ليلة، فنشعر، للوهلة الأولى، بأننا على وشك عرض مختلف، فقد اجتهدت أكثر من تجربة في بناء فضاء مبتكر في كل مرة، مما يجعل استعدادنا للإستجابة الفعالة عالياً، لكن سرعان ما يكون خذلاننا على نفس مستوى ذلك الإستعداد، لولا أن التماعات نادرة كانت تنقذنا وتسعف أرواحنا في الوقت المناسب. رغم ذلك، يمكن للبعض أن يعتقد بأننا ربما عنينا تلك العروض بدرجة أو بأخرى، على الأقل لئلا نذهب، في العام القادم، لنفس العروض التي ذهبنا إلىها الأسبوع (العام) الفائت. أم هل يتوقع منا بعضهم أن نمارس طقس الجمهور الذي سيأتي في المرة القادمة .. أيضاً وأيضاً، يسجل حضوره في تقليد اجتماعي حميم، يفتقر إلى شهوة الإستجواب النقدي ..الحميم أيضاً؟!

نسأل، قبل أن يسمع هؤلاء من يقول لهم : "مسكين يا طابخ الفاس ، يبغي مرق من حديدة".

5

لا ينبغي أن نذهب إلى العرض (دائماً) لأداء مجاملة اجتماعية لأصدقاء نحبهم. فنحن سنحبهم حتى لو لم نذهب إلى عروضهم، بل إننا ربما أحببناهم أكثر لو أنهم لم يذهبوا بنا لتجربة تقع في التكرار، وتغفل عن دهشة الجمال وحرية الخيال، مرة تلو الأخرى.
ليس لمناسبة عروض مسرح الهواة خصوصاً، لكن لأهل المسرح أن يأخذوا حديثي مأخذ الجد. (والجد، في اللغة، بقليل من تشغيل المخيلة اللغوية، يمكن أن يتصل، في جذر المفردة، بالجدة، والجديد، وفي هذا ضرب من الخيال، حد الشطح، يستدعيه الموقف ليس إلا). وإذا تطوع أحدهم ونبَّهنا إلى كون الأمر لا يزال يقتصر على بعض (الهواة) من المبتدئين، سأذكر ملاحظة أوشكتُ على (تناسيها) واعياً : إنني لا أميل إلى التهاون في المواقف التي لا تستدعي ذلك.

6

هُواة .
هذا صحيح، ولهذا السبب، خصوصاً، أعتقد (من عقيدة) أن هذا هو الوقت المناسب لأن يتنبّه الذين (يحلمون) بالإلتحاق بالمسرح إلى الحقيقة الفنية باكراً. أقول، هذا هو الوقت المناسب، لكي لا يقع الوافدون الجدد على المسرح في وهم تؤسسه لهم كلمات الإعجاب الحميمة، أو الإطراء المتعثر بالكسل الذهني، مما يتيح المجال أمام تعطيل الحس النقدي، والقلق الناري الذي يتوجب أن لا يهدأ لدى الفنان. فالثقة المفرطة التي بدأ بعضهم يجهر بها، في تصعيدٍ لافتٍ، هي ثقة من المبكر قبولها أو تفهمها، وهي ثقة من شأنها، أيضاً، أن تدفع بالشخص إلى تضخيم الخطوات الصغيرة التي تدبّها قدماه في طريق المسرح، واعتبارها شهادة الحد الأقصى على حقه في أن لا يلتفت حتى إلى الملكين الحارسين على كتفيه، ولو لمجرد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنهم هُواة .
هذا صحيح، ولكنه لا يمنع طبيعة الفنان (إذا كان كذلك) من تشغيل كافة الحواس لديه، كالإستماع والنظر والتذوق والتواضع والشك والقلق والنقد، وإلا فإننا سوف نكون عرضة لحضور العروض ذاتها، التي دأبنا على مشاهدتها في السنوات الأخيرة، في كل ليلة وفي كل عرض وفي كل موسم وفي كل مسرح، بحماس منقطع النظير.

7

في الفن، الوقت المناسب هو دائماً الآن .

وبالنسبة للهواة خصوصاً، سيكون هذا الوقت مثالياً، لكي لا يصدقوا أنهم يقدمون العرض الجديد في كل مرة، ويصدرون عن ذلك الوهم. ولكي لا يعتبر ذهاب الجمهور، كل الجمهور، إلى هذه العروض هو بمثابة الشهادة على أن المسرح هو هنا بالضبط .

أقول قولي هذا، وظني أن من يأخذ بيد هؤلاء الفتية إلى الفنون كلها (والمسرح أبوها)، عليه أن لا يغفل عن تدريبهم (يوميا، مثل الماء) على موهبة التواضع، فمن بين كل الآفات المعنوية التي سيكون الفنان عرضة لفتكها، يظل الغرور والإدعاء طبيعتان لا تنسجمان مع الفن، بوصفه صائغ الأخلاق.*

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى