البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

باب البحر ، على الأرجح

تحية لضيوف المسرح في البحرين
في مهرجان مسرح الخليج مايو 95

1

يأتي البحر إلى المسرح غداة كل نص، مثلما يعود البَحّار الى البيت ليسهر مع العائلة، ولفرط التعب يدركه النوم في منتصف العشاء، فتواصل الأم سرد القصة، لكي يذهب الأطفال إلى الحلم، مؤمنين بأن الأب سيعود دوماً إلى البيت منتصراً على وحش الأعماق، جالباً معه وردة المستحيل، لتكون زاداً لمستقبلهم. هكذا في كل نص، يذهب الأطفال إلى الحلم، ويذهب الأب إلى البحر، وتبقى الأم في الإنتظار. وما إن يتأخر الزوج في عودته إلى البيت، حتى تبدأ الضباع (تجلس عادة في الصفوف الأمامية) محاولة الولوغ في دم الزوجة في غياب زوجها. لكن هذا ليس شرطاً. أعرف امرأة باغتتها ضباع (تجلس عادة في الصفوف الخلفية) وفتكت بها، في حضور زوجها، مجبراً علي مراقبة المشهد بأنف مكسور، دون أن يعتبر ذلك خروجاً عن النص، بحجة أن ما يحدث في المسرح هو خيال ما يحدث في الواقع. ونظل نحن في موقف المشاهد، نراقب فداحة الخلط بين الموت ... وظله. دون أن ندرك حدود المسرح من حدود البحر.

2

...فيزداد بيت المسرح إتساعاً ورحابة، لأن الكائنات الشقيقة تتقاطر علينا مثل زخّ المطر على رخام الصحراء. نسمع وقع الماء على شرفاتنا الموحشة، فنبالغ قليلاً في احتضان الأصدقاء. فمثل هذا اللقاء الكثيف المشاعر لا يحدث كل يوم، والمسرح، الذي أصبح عرضة للتثاؤب الدائم (بسبب طقس الليل البارد)، سوف يستعيد هذه اللقاءات قريباً، كذكرى نادرة، وسوف يخالجه ندم خجول لأن الجفاف سيشقق الرخام وينال من باطن الأقدام. لذلك كله، وبرغمه أيضاً، نجد اللحظة تليق بفرح خاص نستحق أن نعبر عنه على طريقتنا، بأمل العودة إلى البيت آخر الليل، بنشاط يسعفنا لسرد القصة كاملة لأطفالنا قبل النوم .. وبعده .

3

لماذا كلما إلتقى ناسٌ في هذا الخليج، حضر البحرُ بأعشابه وقواقعه ونوارسه ومحاراته واهبة الردى؟ ولماذ ا لا يزال المسرح متصلاً بالبحر إلى هذا الحد ؟ الذين يتذكرون الدورات السابقة يمكنهم استحضار العروض التي جاءت إلى اللقاء محملة بعناصر البحر والغوص وكائناته الحميمة وموجه القديم، الأمر الذي كان يفرض على العروض طقساً مستعاداً، فتكاد الأشرعة والسواعد المعروقة، وأكداس المحار تشرّش أجساد البحارة وجمهور الصالة في آن واحد. وكان الفرح ساعتها يغمر الجميع، ربما لأنهم يشعرون بالإطمئنان، فالبحر لا يزال (وهو الموحش) يؤنس وحشتهم ، ويغسل الروح والجسد معاً (وهو الذي أصبح ضحية التلوث). أخشى أن يكون البحر، هذه المرة أيضاً، هو أكثر (الغائبين) حضوراً. وليس لنا، ونحن في طريقنا إلى العرض، إلا أن نحمل إزارتنا النيبارية والدييّن والفطام، ونربط في زنودنا الحِرزَ الذي ستعده لنا نساؤنا، ونتوقع كل شيء. فمن المحتمل أن يفتح المخرجون والممثلون خشبتهم على الصالة، وتندلع فينا نيران البحر، فلابد لنا أن نكون في جاهزية من يذهب إلى البحر : للغرق والنجاة معاً. فما بالكم إذا كنا في أكثر من بحر واحد، فثمة من يزعم أنها (بحرين) : بحر الخشبة وبحر الصالة .

4

العروض تعلن عن نفسها، لمن لم يشهد من قبل . (خور المدعي) و (الفشت) و (مظلوم ظلم مظلوم)، ولا نعرف عن العروض الأخرى حتى الآن ، بأمل أن تكون أبعد من البحر والبحرين.
بالطبع، ما من موقف مسبق تجاه البحر والغوص موضوعاً للعمل الفني (المسرحي خصوصاً). على العكس ، فنحن لا نزال نعتقد بأن في البحر من الخيرات ما لا ينفد . لكن هذا لا يحول دون التأمل في هذه الظاهرة، بإعتبارها واحدة من الروافع المحورية التي لاتزال ترفد السياق الأغلب في فعالياتنا المسرحية، حينآً بوصف الغوص جزءاً من الفلكور الشعبي الذي يروق للناس، وحيناً بوصفنا كائنات بحرية أكثر من اللازم، وأحياناً كثيرة بوصفه مصدر الرزق المتاح لكل من (يحسن) الغوص. وفي كل هذه الأحيان، هناك من يبقى في موقف المتفرج، ينظر إلى المشهد من الساحل ، فربما يكون (رزق الله على السيف) كما يقال.

5

بعد ما يضاهي النصف قرن، لا يزال موضوع البحر والغوص حاضراً في تجاربنا المسرحية، نصاً واخراجاً. فما الذي تقترحه علينا هذه الظاهرة، ولماذا لا نتأملها بوصفها فعل الدلالة الجوهري في حياتنا الواقعية، قبل أن تكون فعل دلالة رمزية في فعالياتنا المسرحية؟. هناك احتمالات مختلفة يمكننا أن نجعلها في دائرة الرؤية، ومن المتوقع أن تثير هذه الاحتمالات اجتهادات أخرى تغني مساءلتنا الراهنة. إن الإستعادة المستمرة لموضوع البحر والغوص في الأعمال المسرحية في مجمل المشهد، هي استعادة لا تصدر، كما يبدو، من حدود الإلحاح الفردي فحسب، ولكنها تشكل نزوعاً واسعاً، ويكاد يكون جماعياً عند معظم العاملين في المسرح، وربما يزداد حماس الكثيرين لأي مشروع مسرحي إذا إتصل، بدرجة أو بأخرى، بهذا الموضوع. فحنجرة البحر تسع الصمت والكلام معاً.
فهل يعبر هذا النزوع عن :
أولاً : كوننا ننطوي على شعور غامض بعدم مغادرتنا زمن الغوص ، وإن التمسك بذلك الماضي مظهر من مظاهر النستالوجيا التي تنتابنا كردِ فعلٍ على تغريبٍ يضرب في أرواحنا وتكويننا الثقافي والذهني، فنجد في تفجير الحنين المكبوت للماضي البسيط والبالغ الصدق، تنفيساً عن رفضٍ لقشرة الحضارة، التي توصد في وجوهنا المنافذ، وتكاد تمنع هواء العالم عنا؟ وقد يجد بعضنا في تفاصيل نادرة من حياتنا اليومية ما يستثير ذاكرته الأولى في الأحياء القديمة، فيرى أن باعة السمك لا زالوا يتجولون في الأحياء، ولم يبق إلا أن يسمع نداءهم القديم، وهم يحملون قففهم الكبيرة منادين : "جوووس "، بالجيم المعطشة، لكي نعرف أن سمكاً طازجاً في الحي.

ثانياً : هل ذلك النزوع هو الجواب الجاهز، الذي يزعم بإشكالية النص المسرحي، لتقع المسألة دوماً على كتّابٍ يجترون موضوعاتهم، وبالكاد ينظرون إلى أشلاء هذه التراثات وهي تتعرض للمسخ والإجتهاد الفجّ، ليتحول الغوص في معظم هذه النصوص عبارة عن (حائط مائل) يمكن أن يطرح فيه، كل من هبَّ ودبَّ، الكلامَ على العواهن، دون أن يحقق هذا النزوع سياقاً رؤيوياً متجاوزاً، وبعيداً عن النظرة الفلكلورية / السياحية، التي صارت مصدراً من مصادر الرزق.؟ وهل يمكن قبول هذا النزوع تبريراً مشروعاً لغياب النص الآخر، والمراوحة على الساحل، نُخوّضُ في مياهٍ ضحلة، لا نجرؤ على مغامرة إقتحام الموج (كما كان يفعل الآباء فعلاً)، و لا نغادر الساحل نحو التخوم المجهولة في أرض الله المكتوبة علينا؟

6

ثالثاً : أم أنه يمكن قراءة ذلك النزوع، بوصفه تفاقماً للوعي الحضاري لدي المثقف المتصل بالفعالية المسرحية، حيث يجد في استحضار ذلك الماضي القديم، المشحون بالدلالات، محاولة لمخاطبة سلطة الواقع، وتوصيل رسالة إجتماعية، مفادها أن التطور الذي نتمرغ في ترفه ما يزال يفشل في تحقيق الإنتقال الإنساني إلى العصر الحديث، فعقلية الماضي لا تزال متفشية وتهيمن، متحكمةً في سياقاتنا الحيوية، وإن المكوِّن النوعي لحياة الغوص لا يزال متمثلاً في لحم الواقع وعصبه، إن كان في معالجة القضايا الرئيسية للإنسان، أو في طبيعة العلاقات القائمة بين الكائنات الإجتماعية، متمثلة في لغة خطابٍ مفقود يمكن رصد أهمها في (صمخ النواخذة).
رابعاً : أو أن اللاوعي الجمعي هو الآخر، بعد أن أرهقته رحلة البراري القاحلة، قفل راجعاً نحو البحر، معلناً سأمه (لئلا نقول يأسه) من حضارة الصحراء التي لم تتحقق، مستدركاً حضارة البحر التي لم تزل ماثلة (إلى هذا الحد) . وربما كان في الإعلان الطريف عن الأعداد الكبيرة من الناس الذين ذهبوا إلى البحر بمعية أطفالهم، عشية العيد الأخير لتعويم ( الحية بية)، نقول، لعلها إشارة ساخرة عن توق مكبوت للعودة إلى البحر: إما نزهةً أو انتحاراً. ففي البحر فوائد جمّة ، إذا نحن نظرنا إلىه باعتباره الصوت الوحيد الذي يصدر من الأعماق البحرية، فيصل إلى أعماق الروح. ويظل المسرح مفتوحاً على المحتملات كلها، ولا يفاجؤنا اندلاع الممثلين وهم يضعون في جراحنا الملح القديم ... لئلا نفسد.
خامساً : أم أنه يمكن الإعتقاد ، بإطمئنان، بأن ثمة من يرى في موضوع الغوص، تراثاً وتاريخاً مكتنزاً بالغنى والتنوع، وهو لا يزال قابلاً للأخذ والعطاء، فنياً ورؤيوياً، محملاً بأسئلة الواقع، وإن المؤلف والمخرج، مازالا قادرين على إكتشاف عناصر الجدة والحيوية فيه؟. فربما كان هذا أكثر الإحتمالات أملاً وجمالاً. فبرغم ثروات البَر، التي نافست وهمّشت البحر مبكراً، وحاصرته بالكساد ووهمه، فقد أصبح الكلام عن نفادها وارداً مثل كابوس، في حين لم يزل البحر يضخُّ في حياتنا خيراته بسخاء وبغير منَّة. فمن الساحل، يمكننا أن نرى في هذا النزوع (إذا كان صادراً بالوعي العميق لطبيعة أشياء الحياة والفن) شرفةً تطل على أفق زاخر بالمكتشفات، بأمل أن يصادفنا هؤلاء ، في مستقبل الأيام ، بعطايا أفق البحر الواسع الفسيح الأرجاء.. هل أحسنّا تبادل أنخاب البوح لأشقاء الروح في البحر والبحرين والبحيرة .

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى