البشارة

ليس بهذ الشكل و لا بشكل آخر

الطبعة الأولى - 1997
دار قرطاس للنشر - الكويت
الغلاف عبد الله يوسف
عدد الصفحات 216

 

واقعٌ يقرأ "القلعة"

(عذابات المثقف ك )

1

يظل النص الأدبي باهر الحضور، كلما برع الواقع في قرائته.

عادة يجري النظر إلى النص الأدبي بوصفه قراءة للواقع، وأحياناً تكون هذه القراءة بمثابة الفضح. ويتفاوت النظر بين المذاهب الأدبية (واقعية، رمزية، انطباعية، .. إلى آخره). وتبقى شهوة تفسير الواقع في ضوء النص حاضرة في جميع الاجتهادات، ويستدعي هذا النظر تماساً ومقاربات غاية في التنوع بين النص والواقع، بحيث يستوجب على النص أن يكون مستجيباً للواقع وخاضعاً له، حسب هذه الطريقة في النظر والتفسير. وهي طريقة أوشكت على الهرم والعجز، وتعاني العديد من القصور لفرط المفارقات التي تؤدي في نهاية الأمر إلى إفساد الذائقة الأدبية، وتفشي الخسارة على الجانبين :

  1. الكاتب والنص، لأنهما ينزعان لتقليد الواقع فيخفقان بسبب سذاجة الصورة قياساً للأصل.
  2. الواقع ، لأنه سيظل أكثر قدرة على مفاجأة القارئ لأنه يصدر عن الحياة الجامحة الخيال.

فيما تواصل التجربة الإبد اعية في الخروج على سلطة التقليد بهدف سبر الجوهر.

2

أحياناً، ستكون قراءة الواقع للنص منطوية على طاقة من المصادفات المفاجئة الموغلة في الفضح. وفي قراءة الواقع للنص ضربٌ من إعادة تركيب النص في ضوء حركة الواقع وحيويته وطاقة التحول الإبداعي الذي لا يكتفي بالنص، بل يذهب إلى مكوناته الناشئة عن شطح المخيلة. نقول الواقع، ونعني الحياة ذاتها، تلك التي يشكل النص مقترحاً مفتوحاً على تحولاتها.

وهذا يتطلب وعياً تاريخياً بالعمق الإنساني، لما يمكن أن تنزع إلىه بعض النصوص الأدبية النادرة، وهي تتجاوز حالة الثبات التي تفرضها النظرية النقدية. ويمكن أن نسمى خلود هذه النصوص، وقدرتها على الحضور في أزمان ومسافات تاريخية مختلفة، بالنصوص العابرة للزمن. وبمثل هذه النصوص يمكن أن نصغي للواقع وهو يقرأ النص بنوع باهر من الكشف.

3

من بين الأعمال الأدبية التي تظل قادرة على الحضور في حياتنا المعاصرة، ويشكل تقدم الحضارة الحديثة إحياءاً وتأجيجاً دائمين لمقارباتها الإنسانية، وإعادة خلق لا تكفّ عن الحيوية، تلك النصوص القليلة التي تركها لنا فرانز كافكا، بالخصوص نصوصه الأساسية، مثل "المحاكمة" و"القلعة" و "أمريكا". وما علينا إلا أن نعيد تأمل هذه النصوص لكي نرى القراءة المشوقة التي يقترحها علينا واقعنا، ونكتشف أيضاً الطاقة الخلاقة الكامنة في تلك الرؤيا. فلم يكن كافكا يتحدث عن لحظة زمنية ومكانية ثابتة، إنما كان يمارس ضرباً من السبر المتصل بالإنسان في كثير من تحولاته، فيما هو يحاول تفادي حياةً أرّأفُ منها الموت .. فيموت .

يقول تشارلز أوزبورن "يمكن القول بأن كافكا لم يكتب ثلاث روايات، بل كتب، أو حاول أن يكتب، رواية واحدة ثلاث مرات. ومن المؤكد حقاً أنه يحاول في الكتب الثلاثة أن يعزف على الأطروحة نفسها. إن كونشرتاته الثلاثة عن الإنسان والمجتمع قد تختلف في التفاصيل، لكن الإهتمام الواضح فيها جميعاً هو محاولة الإنسان أن يندمج ويتكامل في صحبة رفاقه وزملائه. لقد فكر كارل روشمان في "أمريكا" أن يفعل هذا عن طريق أن يكون ناجحاً، وفكر جوزيف ك. في "المحاكمة" أن يفعل هذا عن طريق البرهنة على براءته، وفكر ك. ، كما يُسمى مرة أخرى، أن يفعل هذا في "القلعة"، آخر الروايات الثلاث، وربما أعقدها وأكثرها دلالة، عن طريق الإنتماء اليائس والإستقرار اليائس ".

4

وفي مسألة الإنتماء، سوف يتجلى العذاب الإنساني الخالد الذي سيجابهه الشخص في الحياة، دون أن يقدر على تفادي الفشل، مرة بعد الأخرى، بسبب عدم التكافوء بينه وبين القوى والسلطات التي تزداد تعقيداً وتركيباً في المجتمع المعاصر. بل أن الإنتماء في المجتمعات المتخلفة سوف يأخذ طبيعة وحشية تصل غالباً إلى التعامل مع هذا الحق كما لو أنه المنحة التي لا ينالها الإنسان إلا عبر عبودية تقوم عليها سلطة النظام الإجتماعي. وهي عبودية لا تنجح أقنعة الحضارة وقشورها أن تخفي تجليها الوحشي وطفحها بالمهانة. حيث الإنسان لا يتجاوز كونه متهماً بإنسانيته، جديراً بالعقاب الدائم المستمر، ما لم يعلن خضوعه وولاءه للسلطة، وهوإعلان لا يستطيع هذا الإنسان أن يثبته إلا بموته (فالتخلي عن الحق الإنساني موتٌ محقق وناجز). وإذا كان كافكا قد جابه إشكالية خاتمة "القلعة" مباشرة، فإنه قد وضع الشخص أمام موته الماثل في الخطوة التالية دوماً.

سوف يقول (ماكس برود) فيما بعد : "إن كافكا لم يكتب إطلاقاً الفصل الختامي، لكنه أخبرني به ذات يوم عندما سألته كيف ستنتهي الرواية، وأن ماسح الأراضي المزعوم كان عليه أن يجد الرضا الجزئي في النهاية. لم يكن عليه أن يجد الراحة في صراعه، بل عليه أن يموت وقد مزقه الصراع. وكان على القرويين أن يتحلّقوا حول سرير موته، لتأتي كلمة من القلعة تقول أنه بالرغم من زعم ك. القانوني للعيش في القرية، لم يكن صادقاً، إلا أنه، مع إدخال الظروف الإستثنائية المخفّفة، مسموح له أن يعيش وأن يعمل هناك". إنها هبة الموت في شكل حياة.

ترى هل نستطيع بقرائة الواقع (وهو يقرأ النص) أن نكتشف فضيحة النظام العربي وهو يتعامل مع مواطنيه بوصفهم (رعايا) متهمين يستحقون العقاب حتى وإن ثبتت براءتهم.

وهل سيتاح لنا في يومٍ ما أن نطرح على هذا النظام الأسئلة المؤجلة، التي لا تكفّ السلطات الماثلة عن مصادرتها ؟! أحب أن أعود لقراءة واقعنا وهو يقرأ "قلعة" كافكا .. دائماً .

5

الإنتماء (بشتى تجلياته الإنسانية) هو البؤرة الجهنمية التي سوف تصدر منها (وتذهب إليها) تجربة كافكا (في الحياة والنص). لم يكن منتمياً إلى جهة، ولم يطمئن لأية جهة .

لم يقف كافكا عند حدود إنسان بعينه، في زمن ومكان محددين، مما سيفتح الأفق للواقع، في مستقبل الأيام، لأن يقرأ كافكا بما يستقيم مع الفضيحة الإنسانية، التي لن تكفَّ عن التكشّف، بصورة تساعد البشر على الشعور بالخجل في حضرة الوقت، وهو يعبر عليهم، دون أن يتقدم الإنسان نحو شرفه وكرامته وحريته، بما يليق للمزاعم المتداولة بين كافة المنظومات السياسية والإجتماعية في عالمنا طوال قرن واحد على الأقل. أكثر من هذا، سيتاح للواقع العربي أن يقرأ نص كافكا من وجهة النظر الحضارية، فيما يرقب المثقف وهو يقدم أوراق اعتماده للجهة ذاتها التي أمعنت في التنكيل به وبأحلامه ومشاريع حياته، طوال نصف القرن العربي الأخير خصوصاً. لا أعرف لماذا حضرت في ذهني صورة المثقف في تفاصيل هذا المشهد، عندما شعرتُ بالواقع وهو يقرأ نص "القلعة" . ليس صدفة بالطبع، فالدور الذي يحسن المثقف تفاديه بين وقت وآخر (عندما تتعارض المصالح وتتقاطع الإحتمالات)، هو الدور الحضاري نفسه الذي يتصل بشهوة المستقبل لدي الكائن البشري منذ بدء الخليقة. فليس مثل الإنسان كائن يطمح لأن يكون غده أفضل من أمسه. وبما أن للمثقف دوره النقدي الفعال في الحياة، فإنه مرشحٌ دوماً لأن يكون الضحية على الجانبين :
ضحية السلطة، لأنه يصدر عن حلم الشعب، / وضحية الشعب عندما يخضع لوهم السلطة.

وهي تضحيات لا يتنازل عنها المثقف هنا أو هناك، وراهن الشخص هو الذي سوف يقرر التفسير النظري لما يحدث في الحالين. ويمكن أن نصدّق المأزق الذي سيقع فيه المثقف دائماً. وهو مأزق سيتفاداه بعضهم، عندما ينجح في معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود في المنطقة الفاصلة بين الحلم والوهم. فحين يقول السيد (ك) في قلعة كافكا : "أفترض إنني لا أنتمي إلى القرية كما إنني لا أنتمي إلى القلعة " علينا أن نصدقه أيضاً، فهو لا ينتمي سوى لنفسه المبتورة. وتلك هي مأساة السيد (ك) في حياتنا. وليس في هذا حياداً، فالمثقف لا يستطيع أن يكون محايداً مهما بالغ في التلفيق والتماهي. فما إن تفتح القلعة أشداقها حتى يصبح المثقف واضحاً أمام نفسه، فإذا صدّق أن الليث يبتسمُ، فسيكون قد اختار باكراً شكل الموت ووقته.

6

يجلس المثقف في دهليز كافكا، يصغي له وهو يكتب نصه عن تلك القلعة التي تتلاعب بمصائر البشر، قلعة قابعة هناك في قمة الجبل، تطل على القرى الصغيرة وتفتك بها في هيئة من يشفق عليها، وفي جميع الأحوال لن ترى القلعة في تلك القري غير كائنات داجنة أو قيد التدجين أو يتوجب أن تخضع لذلك. تلك قلعة لم يكتبها كافكا لكي يلهو بمعطيات المخيلة، ولكنه حاول أن يصوغ للشخص الإنساني سبلاً شتى زاخرة باحتمالات الحياة عبر الموت، (وربما العكس أيضاً).

سيقال إن كافكا لم يكن يفكر في المثقف (خصوصاً) عندما دفع بالسيد (ك) إلى تلك القرية الصغيرة المغطاة بالثلوج. نعرف ذلك، لكننا نعرف أيضاً أنه لم يضع شرطاً مسبقاً يحول دون حرية الواقع وهو يقرأ النص على هواه. ها نحن إذن نقرأ (قراءة) الواقع للقلعة على هوانا، وليعذرنا سدنة النصوص، لكوننا نصغي للواقع أكثر مما نكترث بما يفسّرون.

7

عندما يصل السيد (ك) إلى القرية الصغيرة الجاثمة في سفح الجبل بقلعته الشاهقة، لن يجد في الفندق المتواضع غرفة شاغرة، فيضطر للنوم في زاوية جانبية، في غمرة الصخب الذي يصدر عن قرويين، يقاومون ليلهم الدامس بأنخاب متعبة لا مبالية بما يحدث في تلك الزاوية، في ذلك الفندق، في تلك القرية، وربما في العالم من حولهم. ثم يبرز شخص سوف يقطع على السيد (ك) رغبة النوم، مؤكداً له استحالة مكوثه ما لم يحصل على موافقة الكونت القاطن في "القلعة". فلا يجد السيد (ك) غير الزعم بأنه (ماسح الأراضي) الذي يتوقع الكونت حضوره. ولكي يتأكد ذلك الشخص (دائماً سيكون ثمة شخص يتأكد) من صدق هذا الإدعاء، يجري مكالمة هاتفية مع القلعة، فتنكر القلعة، لأول وهلة، معرفتها بماسح الأراضي هذا. وبعد برهة، وقبل أن يستعيد السيد (ك) قواه الذهنية لكي يبتكر كذبة أخرى، يدق الهاتف ثانية مؤكداً أن السيد (ك) هو الشخص المتوقع حضوره، وإن كل شيئ على ما يرام. لقد راقت الكذبة (اللعبة) للقلعة.

في هذه اللحظات المباغتة والحاسمة يكون السيد (ك) قد وضع قدمه في نسيج العنكبوت، ليقع في الشرك دفعة واحدة. ففي اللحظة التي يقدم (نفسه) في مهمة يؤديها لكي يبرر (وجوده) هناك، اكتشف أن القلعة قد قبلت عرضه، وبادلته الإشارة بأن زَكّته بموافقتها على بقائه في الفندق تلك الليلة لكي يستمتع بالنوم. لكنه لن يهنأ بنومٍ أبداً منذ تلك اللحظة. "إذن فالقلعة قد اعترفت به بإعتباره ماسح الأراضي، إن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة له، فهذا يعني أن القلعة كانت تعرف عنه كل شيئ، و أنها قد قدرت كل الفرص المحتملة، وقبلت التحدي ، بابتسامة".

8

لقد تبنّت القلعة السيد (ك) بالدور الذي اقترحه باذلاً نفسه لخدمتها، وهذا يعني أن القلعة سوف تتعامل معه منذ الآن بناءاً على ذلك. و(ذلك) يعني أنه مطالب برد التحية بمثلها أو بأحسن منها. عليه إذن أن (يمسح) لها الأرض، وإلا فسوف تتولى هي (مسح) الأرض به، فالقلعة لا تلهو عادة مع أحد في عبث مجاني، إنها لاتعطي شيئاً بلا مقابل فادح أبداً.

وفي خضم التداعيات النفسية التي يكون السيد (ك) ضحيتها طوال الوقت، سيظهر أمام نفسه أنه قد وجد الأمر، بشكلٍ ما، مناسباً له، لعله ظَـنَّ إن في الأمر ثمة أمل للتفاهم مع القلعة على التفاصيل، مادام كل هذا سيؤدي به إلى تحقيق انتماءٍ ما لجهة ما. هذا شخص يتبرع (زاعماً) بالعمل لحساب القلعة، من حيث أنه يمتلك المواهب التي تحتاجها القلعة في جميع الأحوال.

في ملابسات مثل التي يقع كافكا (وأشباهه) تحت وطأتها، ما على الشخص إلا أن يعلن استعداده للتعامل مع القلعة حتى يجد "كل شيئ على مايرام". وإذا كان السيد (ك) قد أخترع كذبة (ماسح الأراضي) لكي يبرر وجوده بها، فإن القلعة كانت على أتم الإستعداد لأن (تصدّق) كذبته، ولكن عليه أن يؤدي هذه الكذبة (بصدق) كما لو أنها (حقيقة)، وعلىه أن يقاوم شعوره الثقيل بأنه ليس أكثر من نصاب محتال. و " إن قلقه إزاء تقبّل سلطات القلعة لقصته هو قلق مخادع " قد ينطلي على الآخرين، لكن العلاقة ستظل خيطاً سرياً لا يعرف (كذبته الحقيقية) غير السيد (ك) والقلعة. وهي علاقة لم يُجبر عليها السيد (ك)، بل أنه نفسه الذي تبرع بالمشاركة فيها. وسوف يرى الواقع، في مثل هذه المبادرة، ضرباً من التوق الفطري عند الإنسان لأن يكون عامل تغيير في المجتمع، مؤدياً بذلك دوراً في الحياة. وسوف يطيب للمثقف إذن أن يعتبر هذه المبادرة نزوعاً نحو التصدي للقلعة بوصفها آلة النظام المهيمن، وسوف يقبل التحدي، بابتسامة مشوبة بالكآبة.

9

هل كانت القلعة تعرف عن هوية السيد (ك) أكثر مما كان هو يعرف عن نفسه؟ أم أن رغبته الجارفة في الإنتماء سوف تدفعه لأن يباشر في أداء (مهمته) في سبيل الحصول على اعتراف القرية بتزكية رسمية من القلعة ؟ .

لكنه ما إن يبدأ في محاولة الإتصال بالقلعة حتى يكتشف أن هذا يكاد يكون (مستحيلا)ً، فكل ما يتوجب عليه منذ الآن هو الإذعان للعمل المناط به. ويتأكد له ذلك من المساعدَين الذين تبعث بهما القلعة، ليقتصر (عمله) من خلال موظفي القلعة المنتشرين في كل مكان يذهب إليه. وسوف يظل إتصاله مشوباً بغموض يشبه غموض الشخصيات الكئيبة التي حاصرته في نص (المحاكمة). وسوف يجد السيد (ك) نفسه يتقدم يوماً بعد يوم متورطاً في براثن القلعة، دون أن يقوى على معرفة طبيعة السلطة التي يجابهها، أعني السلطة التي ارتهنَ بها وأسلم نفسه لمشاريعها، عندما إدّعى أنه (ماسح الأراضي) دون أن يكون كذلك. ولن يجد الوقت لكي يتخلص من الوهم الذي اخترعه لنفسه. وهم "أن يتقبله الآخرون، أن يعترف به الآخرون، أن يُعطى دوراً ليؤديه". ولكنه سيعرف لاحقاً، من العمدة بأن القرية ليست في حاجة إلى ماسح للأراضي، حيث جرى مسح كل شيئ وتم تسجيله مسبقاً، بالرغم من أن القلعة تعتبره ماسحاً للأراضي. ولن تجدي كل محاولات السيد (ك) لمعرفة الحقيقة، بل أن العمدة سيساعده فقط على شكوك مضاعفة بأن كل ما يجري له ربما لم يكن حقيقياً، بما فيه المكالمات الهاتفية من القلعة. حتى السيدة صاحبة الفندق، التي تحتقره، ستخبره أنها كانت منذ عشرين عاماً عشيقة أحد موظفي القلعة الذين بُعثوا لكي يساعدونه في مهمته. ويبدو أن ذلك مألوفاً في تلك القرية، ربما لأن (استسلام) النساء لموظفي القلعة هو الأسلوب الوحيد (للإتصال) المتاح بين القلعة والقرية. وسيتحتم على السيد (ك) أن يقبل ما يعرض عليه من وظائف، هي بالتالي تجلياً مستمراً لمهماته التي لا مفر لديه من القيام بها. فالوظيفة هي أحد أشكال الإعتراف به. وبدون هذا الإعتراف لن يقدر السيد (ك) على الإستمرار في الحياة. كما أن شكل الإستسلام هذا هو الذي يتوجب أن يتقمصه عندما يريد أن يتوهم الإتصال بالقلعة.

10

ثمة الحياة التي هي موت ناجز غير معلن. فما إن يسلم المثقف نفسه للدور المتوهم في خدمة القلعة، مستسلماً لتوجيهات مبعوثيها وممثليها في القرية، حتى يفقد سلطته على نفسه. فهو منذ اللحظة رهن سلطة القلعة، ويتوجب عليه أن يصغي إلى تعاليمها، وينفّذ مشاريعها بالآلية التي تتناسب مع منظور القلعة فحسب.

وعندما يكتشف المثقف أنه لم يعد يعبّر عن النزوع الفطري الذي صدر عنه مبكراً، والمتمثل في رغبة تغيير الحياة، وإنما هو يذهب (مثل السائر في النوم) نحو إنجاز المهمات الغامضة التي تروجها سلطة القلعة، بواسطة موظفيها المنتشرين في مواقع خطواته، عند ذلك سوف يكون الوقت قد فات على تدارك الأمر، حيث لا رجعة عمّا يذهب فيه. خصوصاً عندما يتأكد أنه قد أصبح ضحية الفقد المضاعف. فهو، من جهة، لم ينجح تماماً في التمتع بإعتراف القلعة به، لأنها لن تكون مستعدة " إطلاقاً " لاستقباله والثقة به، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يشعر بالإطمئنان لتصديق القرية وثقتها في الأدوار التي زعم التصدي لها في سبيل التغيير. فليس سهلاً الإعتقاد بأن موتاً ناجزاً يمكن أن يمنح الحياة لشيئ. ساعتها سيضبط المثقف نفسه متلبساً بدور التابع قليل الحيلة غائب الهوية وتحت العذاب.

11


للواقع أن يقرأ النص على هواه، ولنا أن نقرأ تلك القراءة كما يحلو لنا، بمعزلٍ عن شرط السدنة، حيث كل شيئ سيكون ... ليس على ما يرام.

ليس (ماسح الأراضي) هو المثقف بالضبط، ولكن يجوز لكافكا أن يمنح السيد (ك) حرية في تأمل ما يحدث له، تماماً مثلما يتأمل الميت طقوس تجهيز جنازته دون أن يقوى على اختيار نوع الخشبة التي ستحمله إلى هناك، فيما يرقب القلعة وهي تستعيد سلطتها بماسحي أرض آخرين يتقدمون يوماً بعد يوم لأداء المهمات ذاتها، بالأوهام ذاتها. "القلعة التي بدأت ملامحها تنحل، ترقد صامتة كما هو شأنها. يتطلع السيد (ك) إلى القلعة : بدت له في الغالب كما لو كان يراقب شخصاً ما يجلس ساكناً هناك أمامه وهو يحدق، ليس غارقاً في التفكير في حالة نسيان لكل شيئ، بل حراً دونما قلق، كما لو كان وحيداً وما من مخلوق يلاحظه، ومع هذا يجب أن يلاحِظ أنه ملاحَظ ". وفيما يكون السيد (ك) مستغرقاً في تأمل القلعة عن بعد، مصاباً بحسرة الفقدان : ماذا فعلت بنفسك؟!، ستعصف به صرخة أحد موظفي القلعة، خابطاً بقبضته على الطاولة : " آمركُ أن تردَّ على أسئلتي ". إنها (المحاكمة) ذاتها التي لم يغادرها أبداً. الإشكال هنا يتجسّد في كون السيد (ك) قد توغل في تورطه أمام نفسه، فهو الآن في حضرة مسائلات الداخل والخارج في آن واحد. لكنه لا يملك أن يتراجع وليس بوسعه أن يتقدم. وبالرغم من أنه لم يكن ماسح أراض، ولم يمارس هذه المهنة طوال الوقت، ولم تكن القرية بحاجة لمسح أراض (ممسوحة) مسبقاً، ولم تعترف به القلعة لأنه كذلك، ولم تقبله القرية بذلك الوصف، فإن القلعة تمعن في التنكيل به، فتبعث له برسالة تهنئه فيها على (العمل) الذي قام به، وتصرّ على ضرورة مواصلة ذلك ( العمل ) دون توقف.

12

هذا واقعٌ يقرأ النص بثقة المقتولين المؤمنين ببرائتهم. ليس في الأمر فكاهة ولا عبث. ففي الحياة لا يعبث الموت إلا بالجثث المنسية، تلك الجثث التي تباطأت في إعلان موتها. وإذا كان السيد (ك) قد وضع نفسه في الشرك بما يشبه الزعم المازح، فإنه الآن في حضرة "نظام لعلاقات التبعية التي تتحرك من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل ومن أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، فكل شيئ يخضع هنا لتدرج هرمي صارم يرسف في قيود حديدية". فالقلعة لا ترى في المثقف أبعد من الموظف. فإذا هو قبل الوظيفة لن يكون بوسعه أن يفرض شرطاً يخرج عن شروطها. وهي شروط تنفي الشرط الإنساني وتتعداه. والقلعة ليست، في نهاية الأمر، غير الوهم الذي يذهب إلىه


الشخص مدججاً بالشهوات، شهوات تقدر القلعة (بأوهامها) أن تتلاعب بها وبأصحابها بما لا يقاس من الشعارات. إن (فريدا) ليست شابة وليست جميلة، ومع ذلك يواصل السيد (ك) مغازلتها، فتقول له : ("أعتقد أنني أعرف ما تريده" وتلتصق بعنقه وتحاول أن تقول شيئاً آخر، ولكنها لا تستطيع مواصلة الكلام، ولما كان مقعدهما قريباً فقد سقطا على السرير. وهناك استلقيا، ولكن ليس في اهمال الليلة السابقة. كانت تبحث وهو كان يبحث، لقد مزقا وجهي بعضهما ولويا بعضهما، ودفنا رأسيهما في صدريهما بحثاً عن شيئ، ولم تقدر عناقاتهما وأعضاؤهما المتشابكة أن تنسيهما -بل ذكرتهما- ما يجب أن يبحثا عنه، وكالكلاب التي تنبش الأرض يائسة، مزقا جسديهما، وأحياناً ما كانا يناضلان عجزاً من جهد أخير للحصول على السعادة التي يمرغان أنفيهما فيها، ويلقى كل منهما وجه الآخر).

 
السيرة الذاتية
الأعمال الأدبية
عن الشاعر والتجربة
سيرة النص
مالم ينشر في كتاب
لقاءات
الشاعر بصوته
فعاليات
لغات آخرى