1
لا أجدني منسجماً مع استعمال تعبير (أزمة) عندما يتعلق القول عن لحظة
الشعر الراهنة.
لا أفهم الأمر بوصفه أزمة. فنحن طوال أكثر من نصف قرن نتعرض لمفردات
ومصطلحات نتداولها بفعل آلي، لا تحمل غالباً دلالات واضحة المعالم
أومكتملة المعنى. فمثلا، لفرط تداول كلمة (حداثة) لم نتمكن حتى الآن
من الإتفاق على دلالة لهذا المصطلح في الثقافة العربية.
وعندما تضاعفت التفجرات التعبيرية في الشعر العربي، بوصفها الخروجات
الذاتية التي أخذ الشاعر العربي يبتكرها ،استجابة لمخيلة باتت تتجاوز
مألوفات المصطلح النقدي السائد، عند ذلك أخذ البعض (ومعظمهم ممن يرفض
المعنى الجوهري للحداثة، بمعنى الإتصال بالمستقبل) يكرّس وصف اللحظة
الراهنة باعتباره أزمة. وفي هذا السلوك نزوعٌ نحو التماهي مع التقليد
بأقنعة نقدية مختلفة، تصبُّ غالباً في رفض حرية التعبير والخروج عن
التخوم المعروفة للقول الأدبي. فعندما نستخدم تعبير (أزمة) كوصف قَـدْحِي
للتجارب الشعرية الموغلة في التنوع، سوف نجد أنفسنا (بحسن النية وسوئها)
في سياق المتحفظ أمام ما تذهب إليه المخيلة الشعرية العربية. ونكون
بالتالي ضحية الإندفاعات السلفية التي تحجر على الحريات بشتى تجلياتها،
وفي مقدمة هذه الحريات حرية التعبير الأدبي.
أقول هذا، لا لكي أطلق حكم قيمة على التجارب الشعرية، التي نشهد تنوعها
وتفاوت درجات الإبداع فيها، لكن لكي أذهب إلى فتح الآفاق أمام هذا
التنوع والإختلاف، دون أن يخالجني أي قلق سلبي تجاه المشهد الشعري.
هنا فقط أحب أن أتوقف أمام تعبير (أزمة) الذي يجري تداوله في السنوات
الأخيرة، لتصوير الواقع الأدبي، كما لو أن الآفاق مسدودة أمام الإجتهادات
التعبيرية الجديدة. فلست ممن يرون في هذه الإجتهادات (إذا تميزت بالوعي
والموهبة) ما يشير إلى أفق مسدود في المشروع الإنساني، الذي يمثل التعبير
الشعري أحد أهم وأجمل تجلياته.
2
كيف يستقيم أن نقول بموت الشعر في الحياة.
فما أن نقول (حياة) حتى يكون تعبير (موت الشعر) تناقضاً موضوعياً
فاضحاً.
الشعر لا يموت في وجود كائن إنساني حي في هذا الوجود. وأخشى أننا
سنكون مجدداً ضحية الإطلاقات التي يتبرع بها محرروا الصحافة الثقافية
العربية، دون الشعور بخطورة ما يفعلون.
إنني أرى الشعر في كل شيء. فبالرغم من كل المبتكرات العلمية والتكنولوجية
التي يذهب إلىها المجتمع الإنساني، يظل الشعر موجوداً مثل هواء الحياة.
ربما كان المشكل الجوهري الذي تصدر عنه مثل هذه التصورات، يكمن في
عدم استيعاب التحولات التي تحدث على صعيد المخيلة التعبيرية في الحقل
الأدبي. فعندما تتبلور وتتغير أشكال التفكير البشري، سوف يستجيب لها
النشاط المخيلي الإنساني أيضاً. وسوف يترتب على ذلك العديد من الإبتكار
الفني الذي يخترق التخوم المألوفة لأشكال التعبير الأبداعي. فليس في
هذه التحولات ما يحول دون تبلور المفاهيم الفنية للقول الأدبي.
وعندها لا يتعرض الشعر للموت، كما يعتقد البعض، على العكس، فإن الشعر
سوف يتجلى بأشكال أكثر جمالاً وإبداعاً، دون أن يقف عند الحدود التي
استقرت عليها القصيدة، بمفهومها الموروث (قديماً وحديثاً). والذين
يقولون بموت الشعر، إنما يشيرون إلى ذلك الشكل الموروث، الميت أصلاً
(والذي يموت يومياً). وهنا تتفجر الدلالات الجديدة للشعرية العربية
الكامنة في التجارب الجديدة، وهي تخترق التخوم لتتجلى في أشكال لا
نهائية للشعر. وقد يتجسد الخلل في استخدام مصطلحات لا تستجيب للدلالات
الجديدة للشعرية. فيكون الدال قاصراً عن أن يدلّ على مدلول واضح المعالم
أومكتمل الرؤية.
3
ترى هل يمكننا أن نقبل تعبير (موت الشعر) ونحن لانزال نتعرف على معالم
التجارب، وهي تقترح علينا شعرية جديدة تتجاوز حدود النص القديم والحديث
معاً؟!
ليس من طبيعتي أن أقبل ما يحجر على حريات التعبير الأدبي. ولذلك أجد
في تعبير (موت الشعر) تناقضاً لا يستقيم مع أشياء الحياة. ولا أرى
في المشهد الشعري أفقاً مسدوداً.
وأخشى أننا أصبحنا نستورد المصطلحات السياسية والفكرية من الواقع
العربي لنسقطها على حقل الشعر، دون الحذر من مخاطر هذه الإستيرادات
ومآزقها الحضارية. فليس من العدل أن نحمّل حقل التعبير الشعري، الذي
يتوجب أن يكون مفتوحاً على الأفق، مسؤولية الإخفاقات التي نواجهها
في حياتنا العامة، وفي مواقع أخرى مختلفة وأحياناً نقيضة.
وأتمنى أن نتميز بقدر كبير من الدقة في تداول المصطلحات، ونتفادى
الإطلاقات التي تقع ضحية التعميم المخلّ ، ونحن نتكلم عن حقلٍ يختلف
شديد الإختلاف عن الحقول الأخرى. *
|